غيرنيكا: الغائبة الحاضرة

2024-01-17 02:00:00

غيرنيكا: الغائبة الحاضرة
غرنيكا، بابلو بيكاسو، 1937. غيرنا في ألوان العمل إلى الأزرق.

يعود شبح بيكاسو مجدداً هو والمدينة التي ألهمت لوحته ليمثلان أمام الفاجعة ويحاكيان ألم الفقدان والحسرة وانعدام العدل بألم مدينة غزة الثكلى بضحاياها وفاجعتها التي تفوق الوصف والخيال. فتراجيدية الحدث وتخليد الكارثة في لوحة بيكاسو جعلت المجزرة رمزاً لمكافحة الحرب. 

تُسمع صفارات الإنذار للمرة الثانية في مدينة غيرنيكا الإسبانية وذلك بعد مرور أكثر من ثمانين عاماً على سماعها، بدلاً من التحذير من خطر القصف النازي دوى ذلك الصوت شديد الوطأة كتحذير وتنديد بإبادة الفلسطينيين في غزة في وقفة تضامنية غير مسبوقة. 

في صباح 26 أبريل 1937 تعرضت مدينة غيرنيكا الباسكية الصغيرة لقصفٍ قاسٍ زرع الذعر في قلوب سكانها المدنيين؛ بعد أن قامت الوحدة الجوية "ليغيون كوندور" التابعة للطيران الألماني "لوفتفافه" بالتعاون مع طائرات موسوليني الإيطالية بشن هجوم جوي ألقى بالمتفجرات فوق البلدة لمدة أربع ساعات متواصلة؛ حيث ألقوا 31 طناً من القنابل النووية والمتفجرة، ليدمروا 71 بالمئة من المباني؛ ويقتلوا أكثر من1,654 شخصاً و يصيبوا 889 آخرين بجراح. أتى هذا الحدث في سياق تطور الحرب الأهلية الإسبانية التي بدأت في 18 يوليو 1936، حيث كانت تواجه حكومة الجمهورية التي تم انتخابها ديمقراطياً انقلاب فرانكو العسكري إثر تمرده على السلطة الشعبية الشرعية. تتمثل فرادة هذا الهجوم في أنه كان يستهدف مدينة لا تحمل قيمة استراتيجية لأنها تفتقر إلى الدفاعات الجوية وتحمل بنية تحتية هشّة. فمن الواضح، إذاً، أن الأهداف المباشرة هي أولاً المدنيين و ثانياً الرمزية المرتبطة بالمكان الذي كان يومًا معادياً للفاشية. 

اعتبر الهجوم، جنبًا إلى جنب مع هجوم دورانغو الذي نُفذ في مارس 1937 والذي أسفر عن الكثير من الضحايا، أحد أوائل تجارب "الحرب الشاملة": منها القصف العشوائي من الطائرات والتدمير المتعمد الذي يهدف إلى ترويع السكان المدنيين، والذي أصبح نموذجاً يُفرض على نطاق واسع ابتداءً من الحرب العالمية الثانية - من دريسدن وكوفنتري إلى هيروشيما وناغازاكي. بناءً على منظومة الجنرال الإسباني إيميليو مولا الذي ساهم في الانقلاب العسكري قائلاً: "يجب أن نزرع الرعب... علينا إعطاء الإحساس بالسيطرة من خلال القضاء بلا شك ولا تردد على جميع الذين لا يفكرون مثلنا". شاركه في الانقلاب الضابط الألماني ڤون ريختهوفن بتصريحه: "التأثير النفسي يُعد أهم من الأسلحة". حاملاً شعار "الصدمة والذهول"، عقلية عنصرية شمولية بُنيت على أنقاض الأبنية المدمرة والجماجم المكومة، تقوم بتمكين الشرّ وتطبيق سياسة فصل عنصري مباشرة وفجّة. مهّد ذلك المنطق الوحشي لجرائم إسرائيل وأمريكا في فلسطين والعالم و قاد إلى تدمير بغداد على يد التحالف الدولي في عام 2003. لسخرية القدر يصرّح نتنياهو اليوم بأن حربه على غزة هي حرب وجودية، ليس فقط لإسرائيل بل للحضارة الإنسانية، وبأن من يحاربهم ليسوا بشراً بل معتدين على القيم الأوروبية الحديثة. نفهم من قوله أن الإنسان الفلسطيني لا قيمة له ويجب أن يُقصف ويموت. 

في الوقفة التضامنية التي عملت عليها المنظمات الحقوقية وبلدية الغيرنيكا، تم الإعلان عن المبادرة الشعبية باسم "غيرنيكا-الفلسطينية"، حيث قاموا بتنظيم تظاهرة حاشدة في المكان الأكثر أهمية في بلدية بيسكايا، وهو الـ "باسياليكوا"، هناك عندما قامت الطائرات النازية بقتل آلاف من المدنيين، بما في ذلك العائلات والأطفال. فقام المئات من الأشخاص بتشكيل فسيفساء بشرية عملاقة، تمثل العلم الفلسطيني وجزءاً من لوحة "غيرنيكا" لبابلو بيكاسو. طالبوا المجتمع الدولي بالتدخل لوقف القصف على غزة تحت شعار"العالم والتاريخ لا يمكن أن يقبلوا بغيرنيكا جديدة" وألقت بطلة مسلسل لا كاسا دي بابيل الممثلة إيتزيار إيتونيو خطاباً مؤثراً قائلة: "غيرنيكا تلك البلدة التي شهدت مجزرة ملعونة من بين كل المجازر التي شهدها تاريخ الإنسانية، تدعو إلى وضع حد للمذبحة المستمرة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، وتدين بقوة وغضب أي تواطؤ في هذه الإبادة الجماعية، سيحمل المواطنون الفلسطينيون أصواتنا من غيرنيكا أينما كانوا، قتلاكم قتلانا… بيوتكم المدمرة بيوتنا، أرضكم المحتلة هي أرضنا المحتلة، وبناتكم وأبناؤكم هم أبناؤنا". في تصريح شديد اللهجة خاص في مفارقته التي تقتضي التنديد بوحشية لم تتغير رغم مرور الزمن. 

ليس من السهل إعادة إحياء ذكرى مجزرة قام التاريخ بطوي صفحتها، بالإضافة إلى أنه من الصعب على سكان مدينة تعرضت لإبادة جماعية محاكاة أصوات الحرب والرعب الذي لم ولن ينساه الوعي الجمعي الإسباني والأوروبي، خاصة بعد القوة البصرية التي قام بيكاسو بتشكيلها في لوحته الغيرنيكا. بألوانها الغامضة من الرمادي والأسود، تظهر بتفصيل محزن معاناة الناس والحيوانات في أثناء سقوط القنابل على رؤوسهم. واحدة من أشهر لوحات القرن العشرين. رسمها لصالح الجناح الإسباني في معرض باريس الدولي لعام 1937 وجاب بها العالم للترويج للمجزرة بعد أن أقسم أنه لن يعود إلى بلده المُحتل من قبل الفاشية حتى يتمتع شعبه بالديمقراطية ومات في منفاه دون تحقيق حلمه.

يعود شبح بيكاسو مجدداً هو والمدينة التي ألهمت لوحته ليمثلان أمام الفاجعة ويحاكيان ألم الفقدان والحسرة وانعدام العدل بألم مدينة غزة الثكلى بضحاياها وفاجعتها التي تفوق الوصف والخيال. فتراجيدية الحدث وتخليد الكارثة في لوحة بيكاسو جعلت المجزرة رمزاً لمكافحة الحرب. 

ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها تشبيه الغيرنيكا بغزة. فقد استعاد "غزة جيرنيكا" عنوان كتاب أعده مجموعة من الصحفيين بقيادة مصطفى البرغوثي، بالتعاون مع منظمته، "مرصد فلسطين"، اسم وروح البلدة الباسكية على غلافه لوثيقة بالتفصيل ما حدث خلال 18 يومًا من هجوم إسرائيل على غزة في عيد الميلاد عام 2008، الذي أسفر عن مقتل 1400 فلسطيني، ووفقاً للبرغوثي، أن الهدف من الكتاب هو مقاومة الرؤية الإسرائيلية للأحداث، ووصف ما حدث بدقة.

الكتاب استند في محتواه إلى إعداد "تقرير جولدستون" حول جرائم الحرب خلال عملية الرصاص المنصوبة في غزة. يقدم الكتاب جدولاً زمنياً يومياً للأحداث خلال ثلاثة أسابيع من الهجمات، بالإضافة إلى شهادات الضحايا والأطباء وبعض الهجمات التي وقعت في الضفة الغربية خلال الفترة نفسها ويشرح البرغوثي أيضاً السياق والخلفية والعواقب لفهم الأحداث بشكل أفضل، مشدداً على أن إسرائيل لم تنسحب فعلياً من غزة في عام 2005، وأنها استمرت في السيطرة على المياه والجو والحدود وحركة السلع والأشخاص.

هدف الكتاب واضح جداً: "أمام نزاع من هذا النوع، يسود دائما السرد الإسرائيلي حول ما حدث؛ هذه المرة أردنا محاربة تلك الرؤية المتحيزة ووصف ما حدث بدقة وبأقصى دقة لما حدث حقًا؛ في كلتا الحالتين كانت هناك قوة فاشية ظالمة تهاجم المدنيين الأبرياء بهدف هدم معنوياتهم وإرادتهم؛ في كلتا الحالتين لم تنجح. هذا جعل غيرنيكا في وقتها عنوانًا للتضامن الدولي، أيضاً اليوم فلسطين".

فبعد مرور الكثير من الأحداث والتغيرات السياسية في أوروبا خاصةً بعد صعود تيار اليمين المتطرف المعادي للعرب من اللافت للنظر أن وقفة إسبانيا التضامنية تُعتبر مفاجئة في ظل الصمت العالمي الغربي وعدم اعترافه بجرائم إسرائيل الوحشية خاصة بعد فتح دفاتر الحرب العالمية الثانية وما أنتجته من كوارث على شعوب العالم وسياسات الدول. تُعيد تلك الحرب تقاليدها وشعائرها وطقوسها ولكن هذه المرة في ظل نفاق وتناقض حكومي غربي وتحت فيضانات السوشيال ميديا متشعبة المذاهب والأفكار. من المهم الإشادة بالوعي الشعبي المتضامن مع القضية الفلسطينية، فحتى لو أن الحكومات تغضّ النظر عن المجازر المرتكبة في غزة إلّا أن صحوة الشعوب تُعد من أهم سمات هذه المرحلة. على الرغم من عدم قدرته وتأثيره على وقف إطلاق النار وتمرير المساعدات الإنسانية ولكن حدثاً كهذا يستطيع أن يحرّك حسّاً شعبياً و ثقافة تضامنية تجاه الفلسطينيين افتقرت لها القارة العجوز.