لقد كُتب الكثير عن فلسطين بحثيًا وصحافيًا وشخصيًا باللغة العربية، قليلة هي الكتب التي تتناول التجربة الفلسطينية من وجهة نظر إنسانية شخصية باللغة الإنجليزية. حاولت أن أقدم تجربتي كإنسان، من وجهة نظري وبأسلوبي وأتوجه للقارئ العادي الذي يريد أن يفهم قضيتي. هذا الكتاب هو سرد لقصة معززة بالمصادر.
مع اقتراب انتهاء العام 2022 أصدرت دار C Hurst & Co Publishers Ltd.اللندنية كتاب "غريبة في وطني" للكاتبة والمحررة الفلسطينية فدى جريس (Stranger in My Own Land: Palestine, Israel and One Family's Story of Home). خاض هذا الكتاب معركة ضد التعتيم على محتواه من قبل دور نشر عديدة، حتى رأى النور وكشف عن حكاية مثيرة لمن حلمت بالعودة وحققتها إلا أن الاغتراب لا يزال رفيقًا لها!
ارتبط اسمها ارتباطًا وثيقًا بالسياق الفلسطيني وكان موضوعًا للحديث. بدأت فدى تكتب مذكراتها ومذكرات عائلتها منذ 12 سنة راغبة بنشر كتاب، وفي العام 2015 أرسلت لوالدها نسخة ظنت أنها مسودتها الأخيرة قبل النشر، ثم اتضح انها البداية فقط، فبدأت بإجراء مقابلات مع والدها وعمها وجمع المواد. كانت طريق الكتاب إلى النور محاطة بالكثير من المثبطات والمحبطات واكتشفت فدى أن نشر كتاب عن فلسطين خطوة أخرى في المسار السيزيفيّ.
فدى من مواليد بيروت عام 1973، كاتبة ومترجمة ومحررة، وهي ابنة مدير (سابقًا) مركز الأبحاث الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية المحامي صبري جريس، والذي تعتبر قصة عائلته نموذجًا مصغرًا لقضية شعبه. كان جريس ناصريًا التحق بحركة "الأرض" في الداخل الفلسطيني التي تم إخراجها عن القانون عندما حاولت المشاركة في الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية عام 1965؛ وتم التضييق على أعضائها من خلال الأذرع الأمنية الإسرائيلية التي لاحقت المؤسسين وقامت باعتقال بعضهم إداريًا. في العام 1970 انضم جريس الى صفوف منظمة التحرير وترك قريته فسوطة في الجليل نحو بيروت، حيث عملًا مديرًا لمركز الأبحاث ومستشارًا لياسر عرفات في الشأن الإسرائيلي. استشهدت زوجته حنّة في العام 1983 نتيجة انفجار سيارة مفخخة، تاركة وراءها ابنة وابنًا، رافقا والدهما خلال تنقلاته ثم عودته إلى فلسطين بعد اتفاق أوسلو.
لماذا تكتبين السيرة الذاتية في جيل يبدو مبكرًا لذلك؟
في مرحلة ما من الكتابة شعرت أني استوفيت ثلاثة أضلع مثلث في حياة الإنسان الفلسطيني، الفلسطيني المولود في الخارج، العائد إلى وطنه في الداخل، والمنتقل إلى رام الله. شعرت أنها التجربة الفلسطينية بمختلف تجلياتها، مساري المتنوع جدًا والمختلف كليًا في كل من هذه الأماكن اكتمل بغض النظر عن عمري. الجزء الآخر من السيرة الذاتية لم يكن متعلقا بي بل بالوالد وسيرته وكان مهمًا أن تكتب الان.
لعائلتك قصة مثيرة للاهتمام ولها خصوصيتها!
صحيح. والدي كان أول خريج جامعي من قريته فسوطة والقرى المجاورة. درس القانون وكان من أوائل المحامين الفلسطينيين في البلاد. كان يحمل الجنسيّة الإسرائيليّة بعد النكبة، لكنه انضم لحركة فتح وغادر إلى لبنان والتحق بمنظمة التحرير. نظرًا لدراسته المتعمقّة للصهيونية واتقانه اللغة العبرية واطلاعه الواسع عل معركة الحفاظ على الأراضي بعد النكبة، أصبح ثروة معلوماتيّة لمن انقطعوا عن فلسطين فأصبح مستشار ياسر عرفات للشأن الاسرائيليّ. أمي كانت أولى بنات فسوطة التي تدرس في الجامعة، أيضًا، غادرت مع والدي إلى بيروت وعملت في مركز الأبحاث الفلسطينيّ، آخر ما كتبت كان دراسة حول عمليات اسرائيل الانتقامية ضد الفلسطينيين، وقد استشهدت قبل نشر مقالها بشهر في واحدة من هذه العمليات.
بعد استشهاد والدتي انتقلنا إلى قبرص ثم جاء اتفاق أوسلو وعدنا إلى فلسطين، وتحديدًا إلى مسقط رأس والديّ، فسوطة. لم أكن أتوقع يومًا أني سأعود إلى فلسطين، فقد كانت حلمًا وعلمًا أرسمه على دفاتري المدرسيّة، كانت فلسطين هي مشاركتي في تظاهرات الحزب الشيوعي القبرصي، كانت انتماء وشغف بأدب كنفاني وشعر درويش، كانت الحفاظ على اللغة العربية في البيت وتبادل الرسائل مع الأقارب. العودة إلى فسوطة، والمواجهة المباشرة، وتعلّم العبرية والعمل في مؤسسات إسرائيلية خلق عندي حالة غريبة دفعتني للهجرة إلى كندا. عدت من كندا بعد 6 سنوات واخترت أن أعيش في رام الله، واليوم لا زلت غير متأكدة من كون قراري صائبًا. لم أصادف احدًا في الداخل ولا في رام الله عاش مسارًا كمساري أتحدث إليه ونتشاور ونتبادل التجارب، كل هذا كان جديرًا بأن يكتب!
إذًا هناك فلسطين التي تعيش في ذهنية المهجّرين واللاجئين وفلسطين الحقيقية؟
وصولي إلى فسوطة كان كقدوم زائر. تجوّل في البلاد وتعرّف على الأرض. كان "طاير عقلي" بجمال ما أراه. عندما بدأت الحياة اليومية الاعتيادية بدأت أرى "إسرائيل" التي لم أكن أراها في البداية، عندما بحثت عن عمل وعندما تعلمت اللغة بدأت أشعر بالضيق لأن الصورة بدأت تتضح أكثر، كانت هناك صدمة ثقافية وكنت أشعر ككائن دخيل. ازدادت حدّة صدمتي عندما وجدت عملًا في مؤسسة إسرائيلية، ففي أيام الخميس كان الطاقم يجتمع احتفاءًا باقتراب السبت ويدور حديث عن أوسلو والعلاقات مع الفلسطينيين، لأكثر من مرة كنت أنظر في وجوه زملائي وأسأل نفسي: من منهم كان يؤدي خدمته العسكرية عند اجتياح بيروت؟ كنت أخرج للتنزه في الجليل وانظر نحو لبنان وأشعر بحنين للمكان الذي ولدت فيه. وأتخيل اللاجئين من دير القاسي الذين يبعدون عن أراضيهم مسافة سفر لا تتعدى الساعة لكنهم لا يستطيعون العودة.
في حال توصلنا إلى اتفاق سياسي مع إسرائيل وتمكن الآلاف من العودة فإن مسارًا طويلاً سيكون بانتظارهم. مسار على الصعيد الشخصي والداخلي والسياسي. ليس الأمر سهلا كما كنا نحلم به. لا زلت في حالة تيه وحياتي صراع وجوديّ متواصل منذ أن هبطت الطائرة في فلسطين. هذا لا يقلل من شأن حلم العودة وليس إحباطًا لرغبة اللاجئين بل هو انعكاس لواقع أنا أعيشه يوميًا. أعي تمامًا أن مئات الآلاف يعيشون في قاعة انتظار، في طريق عودتهم المأمولة إلى فلسطين، وأنا كذلك في حالة انتظار وحريصة على قول حقيقة مؤلمة جدًا. الواقع ليس بيارات برتقال تنتظر أصحابها، الواقع مركب أكثر من ذلك، وأصعب.
اتفاق أوسلو رغم سوءه أعادكم للوطن!
وفقًا لاتفاقيات أوسلو أُذن بالعودة إلى الوطن لأشخاص عملوا في منظمة التحرير وكانوا من حملة الجنسية الإسرائيلية بعد النكبة. كان عددهم 49 وقد عاد فعليًا منهم حوالي 5 فقط. كان والدي على يقين بأن إسرائيل لن تلتزم بالمعاهدات فأنهى المعاملات بسرعة وعدنا إلى مسقط رأسه.
هل نشرت كل الحقيقة أم امتنعت عن نشر معلومات معينة في هذه السيرة الذاتية؟
لا يمكن نشر كل الحقيقة. أولًا بسبب كم المعلومات، فأنا أتحدث عن ثلاثة أجيال: جدي ووالديّ وأنا وأخي. هناك جوانب شخصية سقطت لأنها كانت ستبدو مقحمة في السرد. وهناك معلومات حول مضايقات وأحداث متعلقة بالسياسة لم تذكر بناء على طلب أبي وعمي الذي تم سجنه ظلمًا بتهمة تجسس باطلة في السابق.
لماذا كتبت باللغة الانجليزية؟
لقد كُتب الكثير عن فلسطين بحثيًا وصحافيًا وشخصيًا باللغة العربية، قليلة هي الكتب التي تتناول التجربة الفلسطينية من وجهة نظر إنسانية شخصية باللغة الإنجليزية. حاولت أن أقدم تجربتي كإنسان، من وجهة نظري وبأسلوبي وأتوجه للقارئ العادي الذي يريد أن يفهم قضيتي. هذا الكتاب هو سرد لقصة معززة بالمصادر.
صدر لك هذا العام مجموعة قصص قصيرة باللغة العبرية أيضًا. فلماذا العبرية؟
ترددت قبل الموافقة على ترجمة مختارات من مجموعاتي القصصية إلى "القفص" باللغة العبرية بسبب التفكير في الجدوى من محاولات تغيير وجهة نظر الإسرائيليين. كان الكتاب جاهزًا للنشر في العام الماضي قبل العدوان على غزة، وعند بدء العدوان توجهت بطلب إلغاء العقد وتنفيذ البند الجزائي وتم تجميد المشروع. لكن بعد حوالي 10 أشهر راجعت موقفي وتم نشر الكتاب. لقد لاقى الكتاب اهتمامًا إعلاميًا واسعًا لكني رفضت كل المقابلات والحوارات لأني أعرف بأن الإعلام الإسرائيلي يريد تشويه قصتنا أو بلبلتها وتقديمي لجمهوره وللعالم كوجهة نظر مغايرة وأنا لست وجهة نظر، أنا قضية! أريد لقارئ العبرية أن يتعرف على قصص مستوحاة من واقعنا، بكل مركباته، وسؤال الجدوى لا يزال قائمًا.
لماذا اخترت "غريبة في وطني" عنوانًا للكتاب؟
أول مقال نشرته في حياتي كان عنوانه "غريبة في وطني" نشرته صحيفة عربية تصدر في تورنتو وقراؤها محدودون جدًا. أنا مؤمنة أنه منذ أن غادرنا أرضنا في العام 1948 أصبحنا غرباء، وحتى من بقي على أرضه في الداخل غريب، والعائد إلى الضفة غريب. هذا الشعور بالغربة ليس خيارنا بل هو نتيجة لحالة الظلم اليومي التي نعيشها. وأنا التي أعيش منذ 13 عامًا في رام الله أشعر يوميًا بأني غريبة، وفي قريتي فسوطة أشعر بغربة مشابهة.