غنائم المخرِجات الإسرائيليات من الأرشيف الفلسطيني

2022-02-02 12:00:00

غنائم المخرِجات الإسرائيليات من الأرشيف الفلسطيني
stills from Karnit Mandel’s: Shalal: A Reel War

بعيدًا عن أسلوب كل من المخرجتين أو نواياها، بعيدًا عن الأخلاقيات المهنية في التعامل مع مواد أرشيفية وأخرى تتم مناقشتها بينهما، بالنسبة لنا الأرشيف الفلسطيني المفقود منذ استولى عليه الجيش الإسرائيلي هو جزء من القضية ككل.

من على منصة إعلامية ثقافية إسرائيلية، تراشقت المخرجتان رونا سيلع وكرنيت مندل الاتهامات حول أخلاقيات التعامل مع مواد بصرية تعود إلى الأرشيف الفلسطيني المنهوب من بيروت منذ العام 1982. تتم مناقشة الإرث الفلسطيني وضرورة الإشارة إلى مصادر المواد المنشورة في أفلام إسرائيلية الدعم والإنتاج.

من جهة تدّعي سيلع أنها تقدم مواد الفيلم بمصادقة ومعرفة شخصيات سينمائية فلسطينية كجزء من تثبيت الحق الفلسطيني في هذه المواد، فيما لم تفعل مندل ذلك. ووصف هذا التغييب لأصل الصورة وصاحبها بأنه تصرف استعماري. تدّعي مندل من جهة أخرى أنها تقدم الفيلم من وجهة نظر إسرائيلية هادفة إلى تعريف الجمهور الإسرائيلي بهذه القضية التي يكتنفها الكثير من الغموض والسرية حول "مخبأ" الأرشيف اليوم.

بعد قراءة مقالاتهما رأيت صراع إيجو محمومًا حول الأسبقية في نشر مواد تاريخية هامة وشؤون فنية أخرى غاب عنها الفلسطيني وحضرت فيها الـ "أنا" بقوّة.

الغنائم السينمائية المنهوبة

مؤخرًا، قامت القناة الثامنة الإسرائيلية بعرض فيلم يحمل اسم "غنائم" (Shalal: the reel war - 2021) للمخرجة كرنيت مندل وهي باحثة في الأرشيف. يعتمد هذا الفيلم على محتوى 117 شريطاً فيلمياً فلسطينياً عثرت عليها المخرجة صدفة خلال عملها في أحد الأرشيفات الإسرائيلية، فتنطلق في رحلة للعثور على المزيد من الشرائط، مع كل ما يتقاطع مع ذلك من التساؤل حول دوافع نهب الارشيف الفلسطيني، وأسباب حفظه في الأرشيف العسكري، أو ربما في أرشيف آخر تحت مسمى "مواد تصنيف أمني" أو "مواد استخباراتية" أو "مواد مقيدة" غير قابلة للعرض أمام الباحثين أو الجمهور. 

يعتمد فيلم مندل بالأساس -كما في عدد كبير من الأفلام الإسرائيلية- على نقد المؤسسات التي يصعب التواصل معها والحصول على معلومات بصورة تتناقض مع الحق في المعرفة ساري المفعول في دول ديمقراطية! ففيما نسير على محور محاولة مندل التواصل مع إدارة الأرشيف العسكري طمعًا في تلقي الإجابات حول مكان الأرشيف الفلسطيني وكيفية تقديم طلبات للاطلاع على محتواه، نتوقف عند نقاط تماس مع شخصيات كان لها حضور في هذا الأرشيف، فنستمع إلى آخر من اطلع على محتوى الأرشيف قبل نهبه، صبري جريس، ومدير الأرشيف العسكري سابقاً وآخرون.

تعرض مندل لقطات مصورة من أماكن فلسطينية متنوعة، يظهر على بعضها سنوات الإنتاج ويغيب عن آخر. نستمع إلى أصوات المصورين وهم يخاطبون الناس "كملي امشي كملي" يقول مصور لامرأة تحمل طفلًا وتسير في الشارع. تختار مندل عرض ما عثرت عليه من المواد على مرأى فلسطينيين ثلاثة: الباحثان صبري جريس ومصطفى كبها والسينمائي عنان بركات. يؤكد ثلاثتهم هوية المواد ويؤكدون على أن التوثيق السينمائي الفلسطيني بدأ قبل النكبة بكثير، ويحرصون على التأكيد أن الشعب الفلسطيني له هوية ثقافية وقومية وتاريخ وجذور نجحت العدسات بتوثيقها.

بالمقابل تطالع مندل بعض المواد الأرشيفية الإسرائيلية من الفترة ذاتها التي تعرضها الأشرطة الفلسطينية، تقارن مواد إعلامية بثها التلفزيون الإسرائيلي لجمهوره بالمواد الخام كاشفة كيفية التلاعب بالمواد ومونتاجها بصيغة تتلاءم مع الرؤية الصهيونية محشوة بأنصاف المعلومات والتشويه. تصاحب هذه السيرورة بيروقراطية المؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية التي تمنعها من الوصول إلى معلومات واضحة وصريحة حول مصير المواد السمعية والبصرية التي كانت جزءًا من أرشيف منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت وصادرها الجيش الإسرائيلي خلال حرب لبنان عام 1982.

نداء عاجل لإنقاذ الأرشيف

في فيلمها "المنهوب والمخفي" (Looted and Hidden - 2017)، كما في مقالها، تؤكد رونا سيلع أنها خاضت نضالًا طويلاً للوصول إلى مواد اعتبرت سرية وحصلت على مواد أرشيفية وصوراً وحتى أفلام اعتُقد أنها مفقودة -مثل فيلم "النداء العاجل" لإسماعيل شموط- مواد مرئية توثق الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال منذ الستينات حتى مطلع الثمانينات. تقدم سيلع قراءة لشهادة أحد الجنود الإسرائيليين الذين قاموا بعمليات النهب خلال النكبة بما في ذلك بتفريغ محتويات جيوب المقاتلين الفلسطينيين بعد استشهادهم، وتصرح أن والدها نفسه كان شريكاً في سرقة ستوديو المصوّر خليل رصاص، وكيف كانت رونا طفلة تعبث بهذه الصور التي تم التبرع بها فيما بعد لأحد مراكز الأرشيف الإسرائيلية.

صحيح أن من يتعاملون مع التاريخ الفلسطيني من الباحثين الأكاديميين الإسرائيليين قلائل، إلا أن إسهامهم في كشف الحقائق يعتبر مهماً في الكفاح الطويل وحرب الروايات على الوجود الفلسطيني. وخاصة محتويات المؤسسات التي تعرضت للنهب من قبل إسرائيل مثل مركز الأبحاث الفلسطيني، ومؤسسة السينما الفلسطينية. وهي المؤسسات التي حافظت على التاريخ الفلسطيني المرئي والمكتوب. وما من شك أن سيلع تعمقت في بحثتها وأجادت اختيار شخصياتها لارتباطهم المباشر والوثيق بالأرشيف المنهوب.

يعرض فيلم سيلع صورًا من الأرشيف الفلسطيني مقابل صور أرشيفية وثقت الحياة في الدولة العبرية الناشئة، مع الحرص على الإشارة إلى مصادر المواد وسنوات صناعتها، وهي نقطة الخلاف المركزية بين سيلع ومندل. في الخلفية قراءة بصوت رونا نفسها حول سيرورة العمل على هذا الفيلم ومحتواه، وقراءات أخرى تقدم ردودًا وشهادات منقولة عن خديجة حباشنة، ود. صبري جريس.

شهادة المُشاهد

رغم محاولة سيلع التعبير عن تضامنها والاعتراف بالحق الفلسطيني إلا أنها تستخدم التسمية الرسمية للجيش "IDF" -جيش الدفاع الاسرائيلي- حتى خلال حديثها الشخصي عن العملية. وتقرأ على مسامعنا شهادة حصلت عليها من أحد الجنود الذين تواجدوا خلال نهب الأرشيف واطلعوا على بعض محتوياته فتقتبسه واصفًا الصور التي عُثر عليها في مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت خلال عملية نهب الأرشيف: "رأينا أنفسنا في الصور، أحد الجنود ميّز نفسه في إحدى الصور فعرفنا أننا مستهدفون" وفي هذا الاقتباس تبرير لسرقة الأرشيف يتفق تمامًا مع ما يقوله بيني ميخالسون (ضابط استخبارات ومؤرخ عسكري إسرائيلي) في فيلم مندل: "وصلنا إلى مكان هو بالأصل لنا (يقصد أرض فلسطين)، وأخذنا المواد (...) هذه مواد استخباراتية نتعرف من خلالها على مخططاتهم وتحركاتهم" (يقصد منظمة التحرير).

بعيدًا عن أسلوب كل من المخرجتين أو نواياها، بعيدًا عن الأخلاقيات المهنية في التعامل مع مواد أرشيفية وأخرى تتم مناقشتها بينهما، بالنسبة لنا الأرشيف الفلسطيني المفقود منذ استولى عليه الجيش الإسرائيلي هو جزء من القضية ككل. إن كل لقطة مهما كانت جودتها أو مكان تصويرها أو مصورها، تعني لنا فصلًا من رواية كاملة حول تاريخ يتم العمل بشكل منهجي ومنظم على محوه وطمسه، ومحو معالم الوجود الفلسطيني قبل العام 48. 

لا تغريني مسميات "لقطات لم يسبق عرضها"، بل يهمني الدافع من وراء عرض الكنز بعد العثور عليه. هل تعرض المواد بغرض كشف رواية مغيبّة أم طمعًا في اعتلاء سلم السباق السينمائي؟ إن ما يهم كل فلسطيني هو أصل الصراع، ووجود لا تستطيع إسرائيل إلغاءه، لكنها وباختيارها نَهب الأرشيف واخفائه عن العيون تعرف تماماً أنها قادرة على بناء رواية بديلة وربما أرشيف بديل!

يعكس هذان الفيلمان حربًا أخرى، ليست حرب النار والدم بل حرب التحكم بالسرد وصياغة رواية تحرم الشعب الفلسطيني من امتلاك تاريخه المصوَّر أو حتى الاطلاع عليه. لا يسعف الشعب الفلسطيني أن يملك سينمائي واحد قصاصات من الأرشيف أو أن يظهر آخر في فيلم وهو يتمتع بمشاهدة لقطات سينمائية للمرّة الأولى مؤكدًا على فظاعة نهب الأرشيف وكأنه مذبحة أخرى تُسطّر في سجل مذابح الشعب الفلسطيني. إن الإطار الأكبر لحرب الروايات بين المخرجتين بعيد عنا، إنها حرب احتكار المعلومات والوصاية عليها، وإن لم يكن هذا من مُخرَجات الاستعمار فماذا يكون؟!