التحريض ضد السوريين... من يجيب عن الأسئلة؟

2024-04-18 02:00:00

التحريض ضد السوريين... من يجيب عن الأسئلة؟
Tammam Azzam, Syrian Museum, Andy Warhol

لا تخرجُ موجة الخطاب التحريضيّ ضدّ السوريين في لبنان هذه الأيام عن سابقاتها من حيثُ أنّها لا تخلصُ إلا إلى سؤالٍ واحد: إلى متى؟!

يُذكّرُنا خطابُ الموجة الجديدة/القديمة من العنصريّة ضدّ اللاجئين السوريين في لبنان، والذي عادَ إلى الواجهة خلال الأيام الماضية، على خلفيّةِ مقتلِ باسكال سليمان، المسؤول في حزب القوات اللبنانية، بما قالَهُ الكاتب الراحل والمسؤول الأسبق الرفيع في حزب الكتائب جوزف أبو خليل، في مقابلتهِ ضمن برنامج المشهد في العام ٢٠١٧ مع الإعلاميّة (الراحلة أيضًا) جيزيل خوري، في إطارِ مراجعتِهِ لسنواتِ الحرب الأهليّة وما سبقها وما تلاها، حينَ قالَ بأسىً صادق إنهُ وعلى الرغمِ من أنهُ لم يكن مقاتلًا، إلا أنّهُ لا يُبرّئُ نفسَهُ من المشاركَة في الحرب، من خلال امتلاكِهِ لمنبرٍ كان يقومُ من خلالهِ بالدفعِ إلى الاحتراب عبر تحريضِ المتحاربين، وقالَ في موضعٍ آخر جملتهُ التي تستحقّ التفكير: إنّ الإنسان يرفعُ صوتَهُ تلقائيًا إذا وضعتَ ميكروفوناً أمامه!

تُثبتُ دراساتُ الحروب الأهليّة أنّ نسبةً معتبرةً منها (إن لم تكن كلّها!) تشتركُ فيما بينَها بأنّ لها مجموعة من الوصفاتِ السحريّة للاقتتال: استعصاءٌ سياسيّ، حكومة ضعيفة تفتقد للسلطة، أو أخرى تفتقدُ للشرعية، تردٍّ اقتصاديّ وتصاعد مخيف للشرائح التي تعيشُ تحت خطّ الفقر، فضلًا عن البطالة وانعدامِ الفرص ونقص الموارد، تحريضٌ طائفيّ، تمييز عنصريّ أو عرقي، عدم استقرارٍ عام، أو إحساسُ فئاتٍ معيّنة بأنّها مغبونة الحقوق، فإذا وقعتْ عليها مَظلمةٌ، واستُمرئ ظلمُها ودام، وأٌقفِلتْ أبواب الرجاء، فقد تلجأ هذه الفئة إلى العنفِ في محاولةٍ لاستعادةِ المسلوبِ، أو لردّ المظلمة.

فإذا كان كلّ سببٍ من هذه الأسباب يكفي لوحدهِ لإشعالِ معركةٍ أهليّة، فإنّ اجتماعَها - أو معظمَها - في بلدٍ واحدٍ ضمنَ مجتمعٍ واحدٍ، كما في الحالةِ اللبنانيّة، تزامنًا مع جبهةٍ مشتعلة مع إسرائيل، وانقسامٍ حادٍ في المجتمع على الجهةِ التي تتولّى مهمة مواجهة الاحتلال وتستولي عليها، ممثلة بحزبِ الله (ولأسبابٍ أقدم وأكثر جذريّة من معركتهِ الحاليّة ضدّ إسرائيل) بالإضافة إلى مجاورة بلدٍ تحتلّهُ خمسة جيوشٍ أجنبية وعصابةٌ عائليّة حاكمة ساعدَها حزبُ الله تحديدًا في حربِها ضدّ السوريين، اجتماعُ كلّ تلكَ الأسباب في بلدٍ واحدٍ يجعلُ نجاتَهُ من براثنِ الحربِ ضربًا من ضروبِ المعجزات، ودليلًا دامغًا على أنّ المُعجزات يمكنُ أن تحدث!

ولكي لا يفتقرَ فيلمُ الرّعبِ إلى التشويق، ولكي لا يخلو من قنبلةٍ موقوتةٍ قد تغيّرُ مسارَ الأحداث، سيصيرُ وجودُ نحو مليوني لاجئٍ سوريّ هربوا بثيابِهم وبأسِرهم الناقصة للحفاظِ على ما تبقى منها، الشمّاعةَ المُثلى لتعليقِ كلّ أسبابِ الاستعصاء السياسيّ والاقتصاديّ على كواهلهم من جهة، وكيسَ المُلاكمةِ المثاليّ المتوفّر مجانًا لتمرينِ قفّازاتِ الذين يعجزون عن مواجهةِ الحِمار، فيكتفونَ بالنيلِ من البردعة!

ورغم أنّ مقاطع الفيديو المتداولة عمّا تعرّضَ – وما زال يتعرض - لهُ سوريون في بعض المناطق اللبنانية خلال الأسبوع الفائت، عقب اكتشافِ جثّة باسكال سليمان في سوريا، حظيت بعددٍ هائلٍ من المشاهداتِ، إلا أنها لم تكن كافيةً لمنع سياسيين ومسؤولين حزبيين ووزراء عن التحريضِ العلنيّ ضدّ اللاجئين السوريين في لبنان، لمجردِ وجودِ ميكرفونات أمامهم، على ما يحملهُ ذاك من خطرِ على حياةِ أولئكَ اللاجئين، في ظرفٍ مُهيّأ لانفلات الأعصاب والأفعال من كلّ عقال.

وإذا كانَ حزب القوّات اللبنانيّة، حاولَ من خلالِ بياناتهِ وعبرَ مسؤوليه وبعض أنصاره رفضَ التحريض وتعميم العقوبة، ورفضَ في الوقتِ ذاتِه الروايةَ التي ذهبت إلى أنّ الراحلَ قُتلَ من قبل عصابةٍ كانت تهدفُ لسرقةِ سيارته، واعتبرَ الجريمة تندرجُ ضمن خانةِ الاغتيال السياسيّ حتى يثبتَ العكس، والذي يعني فيما يعنيه أن لا اضطلاعَ للاجئين السوريين بها إذ لم يسجّل لحزب القوّات اشتراكًا في المقتلة السوريّة، بل سُجّل لهُ موقفهُ المعارض للنظام الذي تسبب بتهجيرهم، إلا أنّهُ دعا في الوقت نفسهِ إلى عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، كلٌّ حسبَ اصطفافهِ السياسيّ، بما أنّ هنالكَ مناطق "آمنة" تخضع لسيطرة نظام الأسد وأخرى تحت سيطرةِ المعارضة. وهي مقاربة غريبة، تلتقي، على نحوٍ أو أخر، مع الإعلانات الطرقية التي شاعت في بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا والدانمارك، والتي كانت تدعو السوريين للعودة إلى بلادهم التي "باتت آمنة" من أجلِ بنائها وبناء مستقبلها، أي أنها تفتقرُ لحساسيّةِ معرفةِ الوضعِ السوريّ عن كثب، فأيّ المناطقِ آمنة في سوريا؟!

وعلى الرغم من وجود أصواتٍ كثيرةٍ حتى اللحظة تعزو أسباب الحربِ الأهليّة اللبنانية إلى الوجود الفلسطينيّ في لبنان، ورغم أنّ الراحل جوزف أبو خليل نفسه أرجعَ أسبابَ الحربِ الأهليّةِ اللبنانية إلى غيابِ الدولة اللبنانية وعدم مقدرتها على ممارسة دورها وسقوط سيادتها مع وجود قوىً مسلّحة (فصائل منظمة التحرير الفلسطينية) مستقلّة ماليًا وعسكريًا وسياسيًا لا تخضعُ لسلطانِ الدولةِ، وتحظى بتشريعٍ ومباركةٍ عربيّينْ.

فإنّ ثمّة فوارق كبيرة وكثيرة تباعدُ بين حالةِ اللجوء السوريّ في لبنان والحالةِ الفلسطينية سابقًا، فاللاجئون السوريون ليسوا فصائل مسلحة، على الرغم من التصريحات التي أطلقها وزير المهجرين اللبنانيّ وأعلنَ فيها وجودَ نحوِ عشرين ألف مقاتل مسلّح في مخيّمات اللجوء السورية في لبنان، حازمًا قاطعًا غيرَ مترددٍ، متجاهلًا طرح التساؤلاتِ البسيطة الواجبة والحال هذه، كأن نتساءلَ عن تبعية أولئكَ العشرين ألف مقاتل؟ هل يخضعونَ لسلطةِ الجيشِ السوريّ الحرّ الذي أصدرَ بيانًا أدانَ فيهِ جريمةَ اغتيال باسكال سليمان، وقدمَ التعزية "للحكيم المناضل" سمير جعجع؟ أم يتبعونَ لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، التي تسيطرُ على جزء من الأراضي السورية وتعيشُ فترةَ اضطراباتٍ كبيرة في مناطق نفوذها مع مظاهراتٍ واحتجاجاتٍ توحي ببوادر انتفاضةٍ على سلطةِ قائدها أبو محمد الجولاني؟ هل يريدُ الجولاني تصديرَ أزماتِهِ الداخليّة أسوةً بما تفعلُهُ الدول عادةً بتسليحِ عشرين ألف مقاتل في مخيمات لبنان، الخاضع، على نحوٍ أو آخر، لسلطةِ حزبِ الله التي تُقاتلُ إلى جانب النظام السوريّ؟ وكيف يسمحُ الجيشُ اللبنانيّ وحزب الله وبقيّة الأحزاب "السياسية" المسلّحة في لبنان بوجودِ عشرين ألف مقاتلٍ مسلحٍ بين ظهرانيهم؟

لا غنىً عن القولِ أيضًا، إنّهُ إذا كانت منظمة التحريرِ الفلسطينية حظيتْ بوقتٍ من الأوقات بغطاءٍ ومظلّةٍ عربيّة، انتزعتهما لأحقيّتها في المقاومة، ولوضوحِ هدفِها وتراصّ صفوفِها وتنظيميتها فائقة الدقّة، ناهيك عن الشخصية الكاريزماتيّة للرئيس ياسر عرفات، فإنّ كلّ هذا لا ينطبقُ على حالةِ اللاجئينَ السوريين في لبنان، فهو من ناحية لا ينطبقُ على أيّ محاولةٍ سوريّة لخلقِ جسمٍ سياسيّ جامع يُمثّلُ القضيّة السورية ويفرضُ نفسهُ وأحقيّة قضيّتهِ على العالم بأسرهِ ويساهم بحماية السوريين في أيّ بقعةٍ من بِقاعِ الأرض. ومن ناحية أخرى ليسَ هنالكَ بين السوريين أيضًا من يلعبَ دورَ أبي عمار!

والأهمّ، أنّ المظلّة الوحيدة التي تحمي سوريي المُخيّمات المعارضين لنظام بشّار الأسد، إنما هي السماء ولا سواها، فالعربُ، دولًا وجامعةً (إلا من رحم ربي) اتخذوا قرارَ إعادةِ النظامِ إلى الحضنِ العربيّ، وأغلبيّة دولهم لا تمنحُ السوريين تأشيراتِ دخولٍ إلى أراضيها إلا في حالاتٍ محددة في بعض الدول ونادرة في بعضها ومستحيلة في دولٍ أخرى، وهي حالات لا تنطبق غالبًا على سوريي المخيّمات!

والحقيقة أنّ الطبقاتِ الأشدّ فقرًا من اللاجئين السوريين هي الأكثر تضررًا في حالات الهياج العام وغيابِ الضابطِ للانفلاتِ السلوكيّ، كالحالة التي نعيشها هذه الأيام.

ويصحّ والحال هذه أن نتساءلَ عن الدافعِ الذي يُبقي على اللاجئينَ السوريين في لبنان، تحت خطّ الفقر بخطوطٍ كثيرة، ضمن ظروفٍ غير صالحة للحياة البشريّة في مناطق عدة، ومع شعورٍ دائمٍ بالتهديد والخطر؟

هل يُمكنُ أن يكون هنالكَ سبب أكثر ترجيحًا من أنّ ما ينتظرهم في سوريا (المكان الوحيد الذي يفترض أنهُ قابل لاستقبالهم) ليس حياةً قاسيةً فحسب، فتلك يعيشونها في لبنان، بل الموت حصرًا؟!

لا تخرجُ موجة الخطاب التحريضيّ ضدّ السوريين في لبنان هذه الأيام عن سابقاتها من حيثُ أنّها لا تخلصُ إلا إلى سؤالٍ واحد: إلى متى؟!

ولا تخرجُ عن سابقاتها أيضًا من حيثُ أنّها لا تريدُ أن تصدّق أنّ الإجابة على سؤالِ الـ إلى متى الذي يستجدي زمنًا واضحًا ومحددًا إنما هي في دمشق. ونظامُ دمشق ليسَ يعطي بالًا للأزماتِ التي يخلّفُها اللجوء السوريّ على حياةِ المواطن اللبنانيّ، فهو لم يكن معنيًا بحياة السوريين أنفسهم ليكون معنيًا بحياةِ سواهم، بل إنّهُ كان معنيًا أكثرَ بموتهم وموتِ سواهم.