محطات من شبكة سجون الأسد

ممالك الرعب والموت والجنون... وكان صراخ الرجل أقرب إلى أصوات بهيمية

2024-02-13 01:00:00

ممالك الرعب والموت والجنون... وكان صراخ الرجل أقرب إلى أصوات بهيمية
Tammam Azzam, the place, mixed media on board، 2020

لم يكن هذا هو الجانب المأساوي الوحيد في مصير عدنان قصّار، فقد جاءت أوامر، من جهة ما، بتعذيب الرجل في الساحة الرئيسية بعد كل فطور وغداء وعشاء، وذلك كنوع من الانتقام وكردّ على شماتة محتملة، من ضحية باسل الذي راح ضحية تهوّره. 

لا شك أن حرماننا من الزيارات طوال السنوات الماضية كان أشد وطأة على أهالينا مما هو علينا، فنحن نعرف على الأقل أننا أحياء، وأن الظروف يمكن أن تتغير، فنخرج من بطن الحوت. 

وعلى الرغم من أن محكمة أمن الدولة العليا في دمشق ليست أكثر من استطالة مخابراتية بمسوح "قانونية"، إلا أن محاولة انسجامها مع تلك المسوح اقتضت السماح لأهالينا بالزيارات التي تهاطلت علينا كأمطار رخيَّة أصابت أرضاً متشققة من العطش. 

- محمد الصمودي زيارة..

 - نزار مرادني زيارة.. 

عباس عباس.. يوسف وأكرم البني.. عدنان محفوض.. محمد حسن معمار.. بسام جوهر.. عدنان خضور...

كنا اتفقنا جميعاً على المطالبة بأن تكون الزيارة الأولى لكل منا في مكان حرّ لا يفصلنا فيه عن أهلنا فاصل كما هو الحال في غرفة الزيارات، حيث يقف السجناء خلف جدار من قضبان معدنية عليها أسلاك دقيقة ومتقاطعة كشِباك، وفي الجهة المقابلة يقف الأهل خلف جدار مماثل، يفصله عن الجدار الأول قرابة متر يتيح لأكفّ الكبار أن تصل وتتصافح، ويبقى الصغار يبكون لعدم تمكن أذرعهم القصيرة من الوصول.

*   *   *

حين جاءت زيارتي التقيت في الساحة بأخي إبراهيم ثانية. أبلغته أني سأطلب زيارة خاصة ضمن غرفة وليس من وراء شبكين، فإن رفضوا، فيمكنه الذهاب إلى الزيارة بمفرده.

للأسف لم توافق لي الإدارة على زيارة خاصة، وأنا ركِبتُ رأسي، فرفضت الزيارة وعدت إلى المهجع.  

كنت أتخيل وطأة ذلك على أهلي، ولكني لم أستطع قبول فكرة الزيارة من وراء القضبان بعد تغييب لقرابة ست سنوات.

بعد حوالي نصف ساعة جاء مدير انضباط السجن ليقول إن المدير وافق على أن ألتقي بأهلي ضمن إحدى غرف مكاتب السجن. سألته: وأخي إبراهيم؟

قال: هو زار ولم يعد ممكناً أن يزور مرة ثانية.

آخر مرة رأيت فيها ابنتي كان عمرها ثلاث سنوات ونصف، ولا شك أن الفتاة التي كانت تتوارى خلف أمي هي ابنتي التي صار عمرها تسع سنوات ونصف.

سألتها إن كانت تعرف من أنا، ثم هل عرفتني من تلقاء نفسها أم لأن أمي أخبرتْها، فقالت وهي تداري خجلها وارتباكها: عرفتك كما كنت أعرفك من قبل.

يا اَلله.. أهي حقاً تتذكرني، أم تتوهمني، أم يتهيّأ لي أنها قالت ما أتمنى أن أسمعه؟!

*   *   *

واضح أنه لم يعد هناك من مبرر لاستمرار عزلنا في الباب الأسود، ولاحقاً لم نستطع معرفة المعايير التي اعتمدتها الإدارة في توزيعنا على العديد من الأجنحة، إلا أنها استجابت لطلبات بعضنا ممن لديهم أقارب في الأجنحة الأخرى، فكان نقلي مع (محمد الجبوري وراشد صطوف وسمير الحسن ونزار مرادني وعدنان خضور وأكرم ووجيه البني ونعمان حبيب وعباس محمود عباس ومحمد حسن معمار) إلى المهجع الأول في الطابق الثاني الجناح ج يسار، حيث أخي إبراهيم ونصر سعيد وغسان مارديني وياسر مخلوف وسجيع التلّي وفاتح جاموس وعصام دمشقي وأصلان عبدالكريم وحسين محمد ورستم رستم وجهاد عنابة وعدنان بهلولي وحسن عبدالكريم وعبدالحليم رومية. أما المهاجع التسعة الباقية فقد كانت للإسلاميين على تنوعهم: حزب الأخوان المسلمين، حزب التحرير الإسلامي، وبعض الأفراد من ذوي التوجهات الإسلامية التي لم تتبلور كحالة تنظيمية.

أغلب الإسلاميين الذين هم في صيدنايا كانوا في تدمر، ولكن نقلوهم إلى صيدنايا لأنهم يعانون من أمراض عُضال وهناك تدخّلات ووساطات ورشاوى من أجل معالجتهم والحفاظ على حياتهم، أو لأن المحكمة الميدانية برأتهم من تهمة الانتساب للتنظيم، أو ثبت أنهم لم يقوموا بأي فعل عسكري، أو لاعتبارات أخرى يجهلها حتى أصحابها.

وكان يحدث أحياناً أن يعيدوا بعضهم إلى تدمر. حدث في الفترة الأولى لنقلنا إلى هذا الجناح أن أبلغوا أحد السجناء بقطع علاقته مع الجناح، ما يعني أنهم سيعيدونه إلى تدمر. كان ذلك محزناً للجميع، لا سيما أن ذلك السجين كان ودوداً ومحبوباً وسعيداً بأنه شفي من أمراضه وصار يمشي كالآخرين، إلا أنه فور إبلاغه بقطع علاقته مع الجناح عاد إلى ما كان عليه حاله في تدمر، فانحنى رأسه وظهره، وحين أخذوه لم يستطع المشي فصار يزحف ويهذي: حاضر سيدي.. حاضر سيدي. 

قال لنا من يعرفونه عن كثب أنه يحمل شهادة دكتوراه، وأنه من كبار خبراء الجيولوجيا في سوريا.

*   *   *

كانت الأيام الأولى لنا في هذا الجناح مكتظة بأخبار وتفاصيل جعلتني أشعر أني أقرب إلى أهل الكهف مني إلى الحياة وكثافة أحداثها وتسارع إيقاعاتها.

لقد صار واضحاً أن عضو اللجنة المركزية الرفيق مضر الجندي قد تعرَّض للتصفية تحت التعذيب حين كنا في فرع فلسطين، وأن الرفيق عماد أبو الفخر قد قُتِل في الباحة الخامسة في سجن تدمر، كما أخبرنا أحد من كانوا معنا في السيارة أثناء نقلنا من تدمر، وعرفنا أنهم أنهوا حياة الرفيق إحسان عزو عندما أنزلته إدارة سجن صيدنايا إلى المنفردات في الطابق الثالث تحت الأرض، ومنعت عنه أدوية القلب، وأن الرمز الأخير من قيادات الحزب "عبدالعزيز الخيِّر" ومن معه من قيادات الصف الثاني والثالث قد اعتُقِلوا في شباط 1992.

وعرفنا تفاصيل وأصداء كثيرة عن نهاية شاوشيسكو وسقوط جدار برلين وعودة الوحدة بين ألمانيا الغربية والشرقية، واحتلال صدام حسين للكويت وما نجم عنه من كوارث، وصعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر في انتخابات 1989 ثم الانقلاب عليها وحلها، وخسارة الجبهة الساندينية في نيكاراغوا للانتخابات عام 1990، والإفراج عن نيلسون مانديلا، واضطرار الجنرال اللبناني ميشال عون للهروب من لبنان إلى المنفى بواسطة سفينة فرنسية، واستقلال دول البلطيق وأوكرانيا وبولندا وجورجيا وبيلاروسيا وأرمينيا عن الاتحاد السوفييتي وانهياره وانهيار حلف وارسو إلخ إلخ.

*   *   *

وكان لدى الرفاق وفرة من المجلات والكتب تعوِّضنا عن الشحّ الذي عانيناه في تدمر، وفوجئت بأخي إبراهيم يعزف على العود بمهارة لافتة قال إن الفضل فيها يعود للموسيقي أسعد شلاش، الذي أقام لهم في سنواتهم الأولى في صيدنايا دورات لتعلُّم العزف على العود. حينها ذهبت بي ذاكرتي إلى أخي إبراهيم حين وهو في مرحلة المدرسة الابتدائية. كان يشدّ خيط نايلون بين مسمارين مثبّتين على خشبة، وبإصبعه ينقر فوق الخيط ويبتسم للطنين الخفيف الذي يصدر عن كل نقرة، ولهذا حين عدت من بودابست أهديته آلة موسيقية سطا عليها أخوه الأصغر، ثم سطت عليه الظروف فاضطر إلى الرضوخ لرغبة الأهل في أن يكون أحد أولادهم مهندساً رغم أن حلمه دراسة الأدب الإنكليزي. 

كان الرفاق يتركون لنا مساحة من الدلال كنوع من التعويض عما عانيناه في تدمر، وزيادة في الدلال عرض أخي إبراهيم علينا دورة لتعلُّم العزف على العود، وهكذا صارت الموسيقا جزءاً من برنامجنا اليومي، وسارت حياتنا بأفضل ما يمكن من استثمار الوقت في أمور تبدِّد الكثير من بلادة السجن ووحشته.

*   *   *

لا شيء يؤكد أننا على علاقة بالحياة وما يجري خارجاً سوى الزيارات بكل ماتنطوي عليه من لهفات وأوجاع.

هناك زيارات يبدو بعدها الجناح وكأنه في عرس، وزيارات يتحول بعدها الجناح إلى ما يشبه مجالس العزاء.

ولكن أفظع الزيارات هي تلك التي يضغط فيها الأهل على أبنائهم من أجل تنازلات سياسية، والأنكى أن الأهل لا يدركون أن تلك التنازلات في الغالب وعلى الأرجح مجانية. في الحقيقة كانت زيارات الرفيق حسن عبدالكريم هي الأقسى، فأخوه علي مثقف سلطوي طامح إلى ترقيات تجعله في صفوف كبار الخدم، وكان يريد من أخيه حسن أن يهدر كرامته عبر إدانة نفسه ومواقفه وخياراته السياسية، لعل ذلك يُسجَّل في صحيفة أخيه علي وبالتالي في رفع رصيده الذي يؤهِّله، غير أن حسن الصافي كمياه الينابيع لم يستطع أن يضع كتفه تحت قدم أخيه ليصعد.

*   *   *

في 21 كانون الثاني عام 1994 كان باسل الابن الأكبر لحافظ الأسد يسوق سيارته على طريق مطار دمشق بسرعة 280 كيلومتراً في الساعة، فجنحت به السيارة وأودت بحياته. 

حينها كان أحد المعتقلين في سجن صيدنايا يدعى "عدنان قصّار"، وهو معروف ببراعته وتفوّقه في سباقات الفروسية، غير أن باسل الأسد أحب أن يكون هو الفارس الذهبي، وما كان لعدنان قصَّار أن يرفض الأوامر، فرتَّب لباسل أمر الفوز، ولكن حين سألته إحدى العميلات إن كان باسل يتفوَّق عليه حقاً، همس لها بحقيقة الأمر، وهي همست لباسل بما سمعت، الأمر الذي أفضى إلى أن  يصدر باسل أمراً بسجن صاحبه. وبدلاً من أن يفرح عدنان قصَّار بموت باسل الأسد، راح يندب حظه العاثر واستحالة خروجه من السجن. 

لم يكن هذا هو الجانب المأساوي الوحيد في مصير عدنان قصّار، فقد جاءت أوامر، من جهة ما، بتعذيب الرجل في الساحة الرئيسية بعد كل فطور وغداء وعشاء، وذلك كنوع من الانتقام وكردّ على شماتة محتملة، من ضحية باسل الذي راح ضحية تهوّره. 

كان الضرب مجنوناً، وكان صراخ الرجل أقرب إلى أصوات بهيمية تتردد أصداؤها في أنحاء السجن وتتكسر على جدرانه وأسواره.

بعد أيام انقطعت أخبار عدنان قصّار، ثم علمنا من رفاقنا الذين هم معه في نفس الجناح، أنه تُقِل من عندهم، وهناك ترجيحات مفادها أنهم رحّلوه إلى سجن تدمر.. كان الرجل في منتهى اليأس والحزن، إذ كان يعرف أن الوحيد الذي يستطيع الإفراج عنه هو باسل الأسد الذي أمر باعتقاله، وباسل قد مات.

*   *   *