الوقت من دم...

2024-01-11 10:00:00

الوقت من دم...
Dumile Feni, Figure Studies, 1970, Pen, ink and watercolour, 50.8 x 66cm

فيما الدمُ، كلمةُ السرِّ المنتصِرةُ للحياة، دونَ أن تسألَ التاريخ وكتبه المنحولة عن معاني التفوُّقِ العرقي، وقانونِ الغاب، وتجريدِ الشعوبِ من حقوقِها الإنسانيةِ المشروعة، وفق الدساتيرِ الوضعيةِ والسماويةِ على حدٍّ سواء. لا لشيء إلا لكون التاريخ لغة المنتصر أو الموهوم بالانتصار، ولو على حساب جماجم الأطفال والنساء والعجائز.

الوقتُ من دم، جملةٌ لربما تصفُ شكلَ الحياةِ المستهدَفة بكلِّ مُقوِّماتِها في الأراضي الفلسطينية من نهرِها إلى بحرِها.. فلا مكانَ آمنٌ فوق الأرضِ، ولا مكانَ مُحتمَلٌ للسكينةِ والهدوءِ تحتَها.

 ليس في الزمنِ الراهن وحسب، ولكن منذ مئةِ عامٍ ويزيد، هي عمرُ بَدءِ المشروعِ الصهيوني المُذّيَّلِ بتوقيعٍ مشؤومٍ لشخصيَّةٍ مستعمِرة تُدعى بلفور، وأكثرَ من خمسةٍ وسبعين عاماً من النكبةِ الحرام.

الوقتُ من دم، وكذا هي حياةُ الفلسطينيِّ وهو يئِنُّ تحت وَطأةِ احتلالٍ فاشي، لم يَسمَعْ من قبلْ عن قوانينِ الصراعات، وربما عن المُتونِ والحواشي المُشكِّلةِ لسننِ الحياةِ الجامعة بين أعراقِ البشرِ وعقائدِهم، وإن فُرِضَ عليهم العيشُ بين مركزٍ منتصرٍ وهامشٍ مغلوب.

الإشكاليةُ في بعدها الأخلاقيّ، تكمن في المركّبات الأيديولوجيّة لهذا المركز المُتسيّد ضمن بنيته الكليّة، وهو يساند ويدعم صورته المُهجّنة للاستعمار بكلّ مفرداته الحداثيّة، عسكريّة كانت أم اقتصاديّة أم ثقافيّة، على الرغم من حالة الّلا يقين التي تسيطر على البشريّة غرباً وشرقاً.

أما الوقتُ، فهو مُفردةٌ تبدو غائبةً عن قواميسِ لغةِ المنظومةِ الدَّوليَّةِ العاجزةِ أحياناً، والمتآمرةِ في مرّاتٍ كثيرة، حيث النفاقُ السياسيُّ الذي تمارسه القوى العظمى وحلفائها، لا يكمُنُ في ازدواجيَّةِ المعاييرِ وحسب، ولكنه ينطلِقُ أيضا من مُقاربةِ المصالحِ العمياءِ، لغطرسةِ القوَّةِ المبصرة وخطاباتِها المرتبطة بالمركزيَّةِ الأوروبيَّةِ الاستعماريّة، في تعاملِها مع الهامشِ المستعمر.

فيما الدمُ، كلمةُ السرِّ المنتصِرةُ للحياة، دونَ أن تسألَ التاريخ وكتبه المنحولة عن معاني التفوُّقِ العرقي، وقانونِ الغاب، وتجريدِ الشعوبِ من حقوقِها الإنسانيةِ المشروعة، وفق الدساتيرِ الوضعيةِ والسماويةِ على حدٍّ سواء. لا لشيء إلا لكون التاريخ لغة المنتصر أو الموهوم بالانتصار، ولو على حساب جماجم الأطفال والنساء والعجائز.

ولأسبابٍ تتعلقُ بالماضي والحاضرِ والمستقبل، يُطِلُّ علينا بين كلمتي الوقتِ والدم، حرفُ الجرِّ بمجرورِهِ "مِن"، على نحوٍ يُشيرُ إلى جغرافيا الشرقِ وتاريخِ الشرق وخيراتِ الشرق، ذلك المكانُ المُدجَّجُ بالحضارةِ الإنسانية في أبهى تجلياتِها المستهدَفة منذ الوصايا العشرِ وتفسيراتِها في علمِ الأديان، مروراً بالفلسطينيِّ المطارَدِ المصلوبِ الأول، المسيحِ عليه السلام، وصولاً لابنةِ القلبِ، روحِ الروح التي استهدفتها القنابلُ العمياءُ بعيونٍ مبصِرةٍ وهي في سنواتِ عمرِها الغَضِّ الذي لم يرَ من الحياةِ سوى القصفِ والدمارِ وصورِ مقابرِ الأرضِ المفتوحةِ على شرفةِ السماء.

القصةُ إذن، ليست قصةَ الوقتِ المفخَّخِ بالدم، منذ السابعِ من شهرِ الغفران في العقيدةِ التوراتية، قدرَ ما هي قصَّةُ الإنسانِ الفلسطينيِّ العالقِ بين أنيابِ الاحتلالِ الاستعماري وقهرِهِ المزمِنِ منذ سبعةِ عقودٍ وأكثر، كما صرَّحَ بالقولِ أنطونيو غوتيريش الأمينُ العام للمنظومةِ الدَّولية، وصوتُها الحرُّ إلى حينِ إسكاتِهِ تارةً بالتهجُّمِ عليه، وأخرى عبر اتهامِهِ بالانتصارِ للإرهابِ وِفقَ المواصفاتِ الإسرائيلية، والمعاييرِ الأمريكية وفرقة الكورالِ الاستعماريّ السابق بريطانيا وفرنسا وألمانيا وايطاليا. فهذه طبائعُ الأمورِ حسبَ المقولةِ التاريخيّةِ الرائجة منذ الحربين الأولى والثانية، "القوي عايب". 

اليومَ، تنظُرُ شعوبُ العالمِ بأسرِهِ، كما لم تنظُرْ منذ القرونِ الوسطى، إلى دبلوماسيَّةِ القُوى العظمى وهي تُقرِّرُ وتتحكَّمُ في القانونِ الدَّولي الإنسانيّ، وتعريفاتِهِ الزائفة في مكانٍ، والأصيلةِ المستحَقَّةِ في غيرِهِ؛ فإسرائيلُ هنا في المشرقِ العربي، لا ينطبِقُ عليها، ما ينطبِقُ على روسيا هناك في شرقِ الأرض، حيث الإنسانُ الأبيضُ لا يجبُ أن يمَسَّهُ السوادُ، ولا يحِقُّ لأحدٍ أن يساويَهُ بأيٍّ من ألوانِ الطَّيفِ البشريِّ أينَما كان.

وهذا بابٌ قد يفتَحُ أو يعيد فتح أبواب جحيمِ الصِّراعاتِ الدينيَّةِ والمذهبية والعرقية، ليس فقط في حدودِ الشرقِ، ولكنه الجحيمُ الذي حتمًا سيزحَفُ بكلِّ أبعادِهِ وأشكالِهِ لكافَّةِ أرجاءِ الأرض. لذا نجد دولة حرة كما جنوب أفريقيا، صاحبةُ التّجربةِ الأنضجّ على جبهةِ الصّراع العرقيّ في أقسى أشكالهِ البغيضة، وهي تتقدّمُ بما لم تتقدّمْ به أو إليهِ أيّ من دولِ الشّرقِ مسلوبةِ الإدارةِ والإرادة، لا لتثبتَ جريمة الإبادةِ على المحتلّ المستعمِر وحسب، وإنما لتقول للبشريّة بأكملها، إن لم نستفق اليوم، ستضربُنا الفجيعة غداً.

 فهل تعي هذه القُوى أنَّ لغةَ الخطاب المسكونة بهواجِسِ الأساطيرِ، ونَزعَ الصفةِ الإنسانيَّةِ عن الآخَرِ قبل تحقيرِهِ وقتلِهِ وسحلِهِ، وَجهانِ لعُملةٍ واحدةٍ، هي عملةُ العنصريَّةِ التي قد تجُرُّ الكرةَ الأرضيَّةَ إلى وبالِ الصراعاتِ القاتلة في صورةِ حروبٍ مفتوحةٍ نعلمُ جميعاً متى ولماذا بدأت، ولكنَّ أحداً لا يعلمُ كيف تنتهي.