نظرية الفراغ التاريخي الصهيونية

2023-10-31 10:00:00

نظرية الفراغ التاريخي الصهيونية
NABIL ANANI, Jerusalem 2, 2023 138.5 x 300 cm

لكن ما يزيد الفُكاهةَ مازيّةً هي طراوة المواقف العربية من الجزيرة العريبة مُقارنةً بالمواقف العربية الأخرى وحتى غير العربية من جماهير طوكيو إلى جماهير مدن الولايات المتحدة وكندا رغم أنَّ نظرية الفراغ التاريخي تشمل اعتبار تراثهم الحضاري وما انبثق عنه في المنطقة وغيرها أقلَّ قيمة من غيره.

أستذكر الآن في خضم ما يحدثُ في غزّة عبارة صديقي ع. ع. كُلَّما ناقشنا الاصطفافات السياسية والعقائدية المحيطة بنا وهي: "نحن نعيش في حقبة العصور الفُكاهية." مُتخيّلًا بذلك الأجيال القادمة كيف ستقرؤنا تاريخيًّا وتقرأ مُعتقداتنا ومواقفنا ومن نحن وكيف أصبحنا ما أصبحنا عليه. ولعلَّ الإعلام الغربيّ الآن أكثرُ ما يزيد من فُكاهة صورتنا حيث استطاعت الصهيونية الدفع بنظريات مُغرقة في الما بعد حداثية في الدراسات التاريخية إلى حدودٍ جديدة عبر إدانة ما حصل في السابع من تشرين الأول مقارنين إياه بالهولوكوست أو المحرقة اليهودية ومتناسين بكل وضوح تاريخ الاحتلال في المنطقة منذ الاستعمار الأوروبي مرورًا بعصابات الهاغانا وكل الحروب والمجازر والتهجير والتقتيل بما فيها قصف غزة كل سنتين تقريبًا منذ سبعة عشر عامًا.

أيّ إن السردية الإعلامية الجديدة الآن تتبنى أنَّ ما بين الهولوكوست النازي وهجوم حماس في السابع من تشرين الأول على المستوطنات الإسرائيلية كان فراغًا، لم يحدث خلاله أيُّ شيء، التاريخ فارغ لا يحمل مُسببات ولا معطيات للتحليل ولا سوابق يمكنها أن تُفسّر السابع من تشرين الأول. الفراغ التاريخي الذي يفصل فعل المقاومة عن النكبة وما بعدها وتحديدًا حصار غزّة في السنوات الأخيرة لن يحمل بالطبع أي شكل من أشكال إمكانية تفسير ما حصل. وبعزل المقاومة، وفي هذه الحالة حماس، عن النكبة وفعل الاحتلال وتاليًا عن حصار القطاع، يجعل التفسير الوحيد للعملية العسكرية التي قام بها عناصر الحركة هو التعطُّش للدماء والهمجية الطبيعية التي فيهم. ففي ظل الفراغ التاريخي، هذه النظرية الفذّة في علم التاريخ، لا يُصبح النظر قابلًا للابتعاد عن الحاضر المباشر ويتم هذه على المنصات الإعلامية بشكل صارخ عبر طرح سؤال إدانة السابع من تشرين الأول على كل متحدِّثٍ ناشطٍ في مجال القضية الفلسطينية دون طرح السؤال عينيه لأيّ متعاطفٍ مع إسرائيل سواء عن قتل ما زاد عند كتابة هذا المقال عن 8300 شخص في غزة أو عن الأوضاع المعيشية قبل العملية.

لم تكتفِ النظرية التاريخية الصهيونية منقطعة النظير عند هذا الحد، فالإعلام ليس كافيًا هُنا، بل حتى الدعوة العنيفة لأنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، بالاستقالة لمجرّد التفكير بمحاولةٍ بدت له ناضجة بوضع الأمور خارج إطار الإدانة والتنديد وردود الفعل وأخذها إلى حيّز التحليل العقلانيّ عبر التصريح بأنَّ العنف في غزة لم يأتِ من فراغ Vacuum ووجب النظر إلى المسسبات أيضًا، فنزلت عليه اللعنة الصهيونية وربما عليه الآن أن يكون شاكرًا بأنَّ هذا الغضب لم يؤدِ إلى تدمير منزله وتهشيم أطرافه وحرق وجوه أبنائه بالفسفور الأبيض. ممّا يعني الآن أنَّ الأكاديميا الغربية والإعلام الغربي ستأخذان منحىً جديدًا مع نظرية الفراغ التاريخي في تفسير الأحداث الراهنة مستعنين فقط بالنظريات التطبيقية المباشرة من علومٍ أُخرى. يبدو أنَّ الصهيونية في طرحها الأول لهذه النظرية نحت نحو البيولوجيا وعلوم سلوك الحيوان فقد وضعت إطارًا لعملية الإبادة الجماعية في غزّة بوصف الفلسطينيين بأنّهم حيوانات بشرية. لكن من يدري قد تتفرَّع نظريات تطبيقية جديدة في هذا المجال لتشمل المزيد من أدوات التفسير لكل ما سيحصل في غزة والضفة لاحقًا في ظل الفراغ التاريخي الذي عاشته المنطقة على مايبدو منذ الهولوكوست. وأقول المنطقة فحسب لأنَّ الحادي عشر من أيلول لم يُشمل في هذه النظرية فمن الواضح أنَّ الإعلام الغربي لا يزال يعتقد أنّها حدثت بالرغم من أنَّها حسبما فَهِمْت من الترتيب الزمني وقعت في وقتٍ ما بين الهولوكوست والسابع من تشرين الأول من العام الجاري. بالطبع لا قُدرة لدي على الإحاطة بمجمل ما تتضمَّنه هذه النظرية الما بعد حداثية فكوني شخصيًا أميل جينيًا لأن أكون حيوانًا بشريًا على كوني بشريًا خالصًا قد يجعلني قاصرًا على فهم نظرية الفراغ الحضاري الصهيونية بشكلٍ كامل، ولكنّه أضحى من الواضح أنَّ المُستقبل سينطوي على إمكانية تجريم مُنكريها. فكما حصل مع غوتيريش، قد يُصبح إنكار الفراغ التاريخي، أي إنكار ألّا شيء بتاتًا حدث قبل السابع من تشرين الأول بمثابة إنكار المحرقة اليهودية؛ أي تهمةً بمعاداة الساميّة.

ومن هُنا أيضًا ننتقل إلى المزيد من فكاهة هذه العصور، فقد تبدو مُعاداة السامية منطقية في أوروبا حيث الهويات الإثنية تعنيهم كثيرًا ومعظمهم ليسوا ساميين وبالتالي يمكنهم أن يُعادوها. لكن ماذا تعني هذه التُّهمة هُنا تحديدًا؟ فشعوب منطقة شرق المتوسط، الذين لا يُشاركون الأوروبيين بالهوس الإثني في تعريف ذواتهم، هم ساميون بالأساس  يتحدرون من شعوبٍ ساميّة سكنت المنطقة قبل خروج الدين اليهودي نفسه، ويتحدَّثون اللُّغة العربية الساميّة التي تُعتبر من أقدم اللُّغات على الكوكب ولا يزال متحدثوها الآن يستطيعون الولوج إلى أدبها الذي يزيد عمره عن ألفٍ وخمسمئة عام. فكيف يُتَّهم هؤلاء (أي نحن) بمعاداة السامية؟ لعلَّ هذا يُفسِّر ما تُحاول نظرية الفراغ الحضاري، عندما استعانت بعلم سلوك الحيوانات، أن تُفسّره عندما نحت إلى القول إنَّ تأثُّر سُكان المنطقة وأبناؤها (نحن) بثقافة انبثقت من الجزيرة العربية ننحو نحو ساميّةٍ حيوانيةٍ تختلف عن ساميتهم البشرية مما يجعلنا منطقيًّا قابلين لمعاداة الساميّة (أي ساميّتهم البشرية) كوننا نتكلم عن ساميّة مختلفة، وهذا يجعل اتهامنا بالنازية التي اعتبرت أنَّ العرب عرقٌ ملوث كما اعتبرت اليهود يخلو من التناقض لديهم. لكن من يدري فكما أسلفت سابقًا، حيوانيتي المُتأصلة بي جينيًّا تجعلني قاصرًا عن فهم النظريات الصهيونية بالمجمل.

لكن ما يزيد الفُكاهةَ مازيّةً هي طراوة المواقف العربية من الجزيرة العريبة مُقارنةً بالمواقف العربية الأخرى وحتى غير العربية من جماهير طوكيو إلى جماهير مدن الولايات المتحدة وكندا رغم أنَّ نظرية الفراغ التاريخي تشمل اعتبار تراثهم الحضاري وما انبثق عنه في المنطقة وغيرها أقلَّ قيمة من غيره. فهل هذا يعني أنَّ هُناك فراغات تاريخية أُخرى؟ أي المزيد من الأحداث التي لم تحدث والمزيد من اللا شيء الذي يجب أن نعترف به قبل أن يوصل إنكارنا المتواصل للّا شيء، وإصرارنا المتخلّف على أنَّ هُناك أحداثًا قد وقعت بالفعل وأن نضع لها سردياتٍ مختلفة، إلى عكس عملية التطور فتكون إبادتنا ضرورة وجودية للحفاظ على البشرية من الانقلاب إلى ذلك الكائن الذي كُنّاه Homo Heidelbergensis قبل أن نصير بشرًا Homo Sapien لعلَّ كثرة الإنكار قد تُعيدنا إلى ما هو أبعد فنصبح Homo Erectus.

لا أدري، فما أنا سوى حيوانٍ بشري يعيش في حقبة العصور الفكاهية.