غزة… وصدفة أن تكون حياً

2023-10-14 14:00:00

غزة… وصدفة أن تكون حياً
Palestinian children inspect destroyed buildings after Israeli air strikes in Gaza City on October 12, 2023. Abed Rahim Khatib / Getty

أذكر في واحد من عيون الكتب عن غزة، قرأت أنه في الحرب العالمية الثانية لم يبقَ في غزة سوى رجل وحمار يتمشيان في الدمار، لتقوم من جديد، وهدمت عدة مرات في الستينات والثمانيات، وهذه المرة من الخراب لن تكون الأخيرة لغزة التي غزاها البين.

لا أنام، وإذا نمت أحلم كوابيس، منذ السادسة صباحًا أبدأ أدُور، أمشي في الشوارع أركب الباصات، أذهب إلى دروسي أحيانًا وغالبًا أهرب، آلاف الأفكار في رأسي، مئات الشهداء يحلقون أمام عيني، حياتهم انتهت مبكرًا وأمامنا العمر كله نعيشه من دونهم، من دون مستقبلهم وأصواتهم وأمانيهم، ما هذا الظلم؟ لماذا هذا الانتقام يا الله؟ ما ذنب العائلات والأطفال. والناس الأبرياء.

تنهال أخبار متسارعة وكثيفة عن نزوح أهالي الشمال ومدينة غزة إلى الجنوب، رعب كبير، والمجازر الإسرائيلية مستمرة، توفيت شقيقة صديق لنا وعائلتها وأطفالها الملائكة، لقد أصبحوا الآن ملائكة فعلًا، وصديقنا في الغربة وحيدًا لا يصدق الخبر حتى الآن.

أدخل إلى دروس اللغة، تسأل مُدرستنا عن أول مرة خرجنا فيها مع والدينا، وعلي أن أجيب باللغة الفرنسية، من الصعب التذكر، كما أنني لم أبذل مجهودًا لأركز معها، من الصعب علي التركيز بدروس اللغة الفرنسية في الوقت الذي أتابع فيه الأخبار، طبقات من القلق والأفكار يجب أن أحفر فيها كي أصل إلى صفاء التعلم. ثم تسألني المُعلمة "أليس لديكم حدائق؟" نعم لدينا حدائق لكن ليس لدينا أطفال

أكثر من 500 طفل قتلوا في ستة أيام في قطاع غزة، لكن من يهتم بضحايا غزة، من يضيء لهم برج إيفل في باريس؟ الذي يضاء كل ليلة بالعلم الإسرائيلي، ليس لدي مشكلة في التضامن مع الضحايا في أي مكان، ولكن ماذا عن التضامن معنا أيضًا، هل نحن شفافين إلى هذه الدرجة، لا مرئيين.

قلق شديد على عائلتي في غزة، كل ساعة نتصل بهم لنتأكد أنهم أحياء، "أنتم مناح؟" مجرد أن تصبح الرسالة إشارة "الصح" على تطبيق "واتساب" بلون أرزق نرتاح، لكن كل شيء مؤقت، هي إجابات مؤقتة وتطمينات مؤقتة، ومن يعيش يكون على قيد المؤقت.

صوت الطائرات العادية فوقي في سماء فرنسا، يرعبني، أعيش داخلي الحرب، عيناي لا تريان سوى الموت، أمشي بلا روح، وأستغرب كيف يملكون من حولي رغبة في الحياة، لا أحد يهتز لموت قومي.

لقد أخطأت حين تركت تلك الأرض، لا تراودني منذ الصباح سوى هذه الفكرة، هل أستطيع الرجوع الآن؟ ربما لا أتفق مع الكثير هناك كما لا أتفق مع الكثير هنا أيضًا، لكن في الحرب نتشابه ونصبح كأننا واحد.

غزة تساوت بأرضها، عادت كما أتذكرها في طفولتي صحراء، وأشجار الصبار، عدا اليوم لا يوجد صبار بل جبال من ركام البيوت المهدمة والقطط المقتولة على الأرض، والأشجار المقصوفة.

لم أعد أتعرف على الأماكن التي تظهر في الصور، كذلك يفعل مليونا شخص تاه بهم الركام المتشابه عن منازلهم.

كل ما فعلناه أننا حاولنا أن نتنفس خارج القفص، نعم كانت هناك أخطاء لكن ألا يحق لمن كان محبوسا أن يخطئ حين يحاول النجاة.

ماذا عن المعتدي الذي تحول الخطأ لديه إلى آلة قتل "شرعية" يحميها نظام عالمي ويصمت عن جرائمه لأكثر من 70 عامًا. 

أحاول أن أكون عاقلة ولا أسخر من معلمتي حين تسألني إذا ما كانت هناك أماكن نذهب إليها للنزهة في فلسطين، أجبتها أخيرا بخليط من الفرنسية والإنجليزية "في الحقيقة أن أول حديقة وأول زحليقة في حياتي مع والديّ كانت حين تركنا فلسطين وسافرنا إلى الإمارات وأنا عمري 8 سنوات تقريبا.."

لا تعرف ولن تتخيل هذه الفرنسية الشابة أن متعتنا ونحن صغار كانت الخروج والاختباء من جنود الاحتلال في منع التجوال بالمخيم، أو نذهب لجمع الخضار من مستوطنات الاحتلال القريبة داخل القطاع مع جدي، ونغني "عوام الخميس جبلي قميص".

وأتخيل أن هذا الحرمان سيصبح أكبر مع تدمير القطاع، وحدائقه وشوارعه، ولن يخرج أحد في نزهة لجيلين كاملين قادمين على الأقل حتى بناء غزة من جديد.

تستمر الانفجارات، نتابع القنوات الإخبارية، أتلقى كثير من الرسائل لمغتربين ومغتربات يسألوني عن عائلاتهم، وإذا ما سمعت أخبار، لأن أحبابهم لا يردون على الهواتف، أحاول مساعدتهم والوصول إلى أكبر قدر من المعلومات عبر المصادر المفتوحة.

في البداية كان يصيبهم الرعب إذا ما كان البيت انقصف، ثم الخوف من موت كل العائلة بعد تسليم بالقصف، وبعد التسليم بالموت، إذا ما كان مات الجميع، هل يوجد أحياء، إصابات على الأقل؟ والآن هل يمكن دفن أحبابنا… والتعرف على جثثهم.

الأمل يتضاءل بالنجاة، الطيران يقصف الجميع، لا قنابل صغيرة مسبقًا قبل الكبيرة القاتلة، لا أهداف محددة، الصدفة فقط تجعلك بعيدا عن الاستهداف، لذلك فأنت تصل إلى درجة يصبح فيها انتظار موت أحبابك أكثر رعباً من سماع قصفهم في الحقيقة.

صديقتي دعاء عادت لمنزلها لتجلب قطتها العمياء التي لم تأخذها معها حين تهددت منطقتها بسبب السرعة والارتباك، فرجعت إلى المكان الخطر وجلبتها، رأيت صورتها تبكي وابنتيها تحضنان القطة في المنزل المؤقت الذي أوين إليه، "لماذا تبكين يا دعاء؟"، وجدت المكان موحش مخيف، شعرت أنني مشيت دهرا، الناس قلقة، لا تدري أين تهرب.

يسألني أحد المتابعين من الأردن، "هل نشهد نهاية غزة؟" غزة ليست الشوارع والمباني، هي الذكريات، التاريخ، الناس، وهذا لا يستطيع أحد سحبه، تنمو كل مرة مثل برعم صغير بين الصخور.

أذكر في واحد من عيون الكتب عن غزة، قرأت أنه في الحرب العالمية الثانية لم يبقَ في غزة سوى رجل وحمار يتمشيان في الدمار، لتقوم من جديد، وهدمت عدة مرات في الستينات والثمانيات، وهذه المرة من الخراب لن تكون الأخيرة لغزة التي غزاها البين.

أمشي بالشوارع، أرتدي الشبشب، والسماعات، والحاسوب على ظهري، أشعر أنني هكذا سأكون مستعدة للأفكار، وللأخبار السيئة لأركض إلى المنزل، أو أجلس وأكتب، متكسرة، روحي ويدي وقدمي، وحيدة مثل كلب يجول في مدينة مهجورة، فأنا هنا لا أرى الناس ولا الألوان ولا الضحكات أو أطفال المدارس، ليس هناك في عيني سوى الرماد والموت.