سجن تدمر هو أسوأ مصير ممكن تخيُّله، هو القطيعة الكاملة عن كل ما له علاقة بالعالم. لا أدري كيف سنستطيع تحمُّل جهنم تدمر ونحن في أوضاع صحية لم تترك فيها جولات التعذيب ما يقوى حتى على المشي أو الوقوف.. بعضنا سُحِب من المستشفى قبل استكمال العلاج، فهل يعقل أن يرسلونا إلى تدمر، ونحن على هذه الحال؟!
في اليوم التالي نقلونا من الزنازين وجمعونا في غرفة واسعة نسبياً، ثم ألحقوا بنا دفعة جديدة جاءوا بها من فرع فلسطين.
صرنا أربعة عشر رفيقاً، تسعة أعضاء لجنة مركزية: محمد حسن معمار، أكرم البني، وجيه غانم، سمير الحسن، عباس عباس، يوسف البني، فرج بيرقدار، نزار مرادني، راشد صطوف، وخمسة عسكريين: نعمان حبيب، محمد الصمودي، محمد الجبوري، عدنان خضور، سليمان منصور.
إلى أين ستفضي بنا اللعنة الأخيرة في هذه الرحلة الدامية؟ّ!
كنا نستجمع الاحتمالات ثم نفرشها على شوك القلق والتساؤلات.
رفع أحدنا كفّه طالباً الحديث:
- عندي خبر يا شباب. الحقيقة هو رأي سمعته من سجين سياسي قديم في الفرع، ويبدو أنه بيقدر يتشمَّم الأخبار.
- وين وكيف التقيت معه؟
- البارحة مساء أثناء الخروج إلى التواليتات. يعتقد الرجل أن تحويلنا إلى سجن صيدنايا أمر مستبعد، وأن المرجَّح هو نقلنا إلى سجن المزة، وربما إلى تدمر لفترة عقابية، يمكن تمتد إلى ستة شهور.
ـ غير وارد على الإطلاق، علَّق أحدنا بطريقته القطعية، وغير منطقي أبداً. شو مبرِّر أخذنا إلى تدمر، ورفاقنا اللي كانوا هناك، نقلوهم جميعاً إلى صيدنايا؟!
قال آخر:
ـ يا رفاق.. بتعرفوا أن عضو اللجنة المركزية "مضر الجندي" شوهد لمرة واحدة أثناء التحقيق، وبعدها انقطعت أخباره، وبالتالي فنحن أمام احتمال أن يكون استشهد أثناء التعذيب، أو احتمال أن يكون عنده معلومات خطيرة ما لازم نعرفها، ولهيك عزلوه عنّا، وإما أنه انهار وتعامل وخرج. ورغم أرجحية احتمال استشهاده كونه يعاني من الربو، فأي واحد من الاحتمالات السابقة، بيخلّي أمر عزلنا أو إرسالنا إلى تدمر أكثر من وارد.
تناقشنا طويلاً بشأن كل الاحتمالات، إلى أن ضاق أبو ضيا ذرعاً:
- بلا مقطوع من حديثكم يا شباب. أكثر من القرد ما مسخ اَلله. إذا قرروا يبعتونا لتدمر مين فينا بيقدر يقول لا؟
عاد النقاش إلى ديدنه مع التركيز هذه المرة على كل ما يتعلق بالاحتمال التدمري الأسود.
تزاحمت الافتراضات والهواجس والتساؤلات والاقتراحات، ولم نتفق سوى على نقطة واحدة هي رفض ما يسمونه "التشريفة" هناك، أو مقاومتها والاحتجاج عليها بكل السبل الممكنة.
- أسوأ ما في التشريفة يا شباب هو اسمها. مفارقة فظيعة أنهم يستقبلوك بمئات الجلدات، ويسمّوا هالإستقبال "تشريفة".
- يا سيدي اِسمها كيّس. وإذا بدك المظبوط فأسوأ ما فيها نوعية السياط التقيلة.
- شو بتفرق عن سياط فرع فلسطين؟
- السياط بفرع فلسطين مصنوعة من الكابلات الرباعية تبع الكهربا .. يعني الكبل اللي جوّاه أربعة أسلاك مجدولة.. ما بيشكي من شي.. تقيل وبيفلع اللحم فلع. بس السياط اللي بسجن تدمر مصنوعة من قشاط مروحة الدبابة.
- يعني القشاط أفظع من الكبل؟
- تنينين ألعن من بعض بس بتختلف الطعمة.
- المهم لازم كل واحد فينا يبقى مصرّ على رفض التشريفة.
- نعم لازم.. ما استطاعنا إلى ذلك سبيلا، على قولة الشاعر محمود درويش.
كان تعامل السجانين معنا أقرب إلى الحيادية، ولكن فجأة تغيّرت نبراتهم وهم يعيدون توزيعنا على المنفردات، حيث أمضينا يومين كابوسيين، ليُخرِجونا بعدهما ويسوقونا إلى ميكروباص أنيق، جعل أحدنا يعلّق متفائلاً:
ـ ما دام النقل بهالميكرو السياحي الأنيق فعيِّنوا خير، لأن النقل لتدمر بيكون عادةً بالسيارة "القفص".
ما كدنا نجلس على المقاعد حتى أحضروا الطمّيشات والكلبشات.
ـ الكل إيديه خلف الظهر.
كانت النبرة آمرة وقاطعة.
لا أدري لماذا تصرُّ المخابرات العسكرية على استيراد هذا النوع من الكلبشات الاسبانية الصنع!
صحيح أنها أنيقة ولامعة، ولكنها في منتهى اللؤم.
سامحكم الله أيها الإسبان.. لا أنكر أن أجدادنا، احتلُّوا بلادكم فيما مضى، وهذا رغم كل شيء يؤسفني حقاً، ولكن ألم تجدوا طريقة أخرى غير هذه لردِّ الجميل؟!
ـ انتبهوا إلي جيداً.. الجميع رأسه دون مستوى المقعد اللي قدّامه، وأي حركة يميناً أو يساراً رح تكلّفكم غالي.
صمت ضبابيّ عائم وكثيف، يضفي عليه فحيح "اشطمان" الميكرو شيئاً من القشعريرة.
اتجه الميكرو شمالاً ثم شرقاً ثم شمالاً..
شوارع دمشق بالنسبة لي معروفة جيداً.. لقد مشيتها مراراً خطوة خطوة، بل إني أعرف أطوالها، وتقاطعاتها، وانعطافاتها إلى حد أني كنت أرسم خرائط مواعيد المراسلين الحزبين في جميع مناطقها عن ظهر قلب.
تجاوز الميكرو ساحة الأمويين باتجاه الشرق، ما يعني أن احتمال سجن المزة لم يعد وارداً.
هذه أول مرة أدرك فيها بعمق، مدى الأهمية والكيفية التي تعمل بها الحواس الأخرى لدى المكفوفين.
اجتزنا مفرق منطقة مساكن برزة، الذي يبدأ من عنده الطريق الرئيسي إلى سجن صيدنايا.. بقي هناك احتمال أن يأخذ المترو طريقه إلى صيدنايا عبر مفرق "معلولا". لم ينقطع الأمل بعد.. أصبحنا على مقربة من مفرق "أبو الشامات ـ تدمر"، فإذا اجتزناه فإن سجن صيدنايا هو محطتنا الأخيرة.
للتساؤل مطرقة ثقيلة وعنيدة: لماذا يأخذوننا إلى صيدنايا عبر مفرق معلولا، بينما طريق "برزة ـ تل منين"، أقصر وأسهل؟!.
هواجس تدمر أشبه بحرائق متتابعة تنشر دخانها في الأعماق.
ـ أبو البلوزة الكحلية راسك لتحت.
سجن تدمر هو أسوأ مصير ممكن تخيُّله، هو القطيعة الكاملة عن كل ما له علاقة بالعالم. لا أدري كيف سنستطيع تحمُّل جهنم تدمر ونحن في أوضاع صحية لم تترك فيها جولات التعذيب ما يقوى حتى على المشي أو الوقوف.. بعضنا سُحِب من المستشفى قبل استكمال العلاج، فهل يعقل أن يرسلونا إلى تدمر، ونحن على هذه الحال؟!
المشكلة أن العميد مظهر فارس، رئيس الفرع، موتور وحاقد، ولطالما قال أننا
أسفل أشخاص مرّوا في حياته، وأننا عذَّبنا جلاَّديه أكثر مما عذبونا!
ـ يا كلاب.. ما إن ترفع الطمّيشة عن عيونكم، حتى تحدِّقوا في وجه المحقق بنظرات وقحة، لا تستطيعها حتى القحبات.
وشرف أمي لنسِّيكم الحليب اللي رضعتوه يا عرصات.
فجأة انعطف الميكرو بحدَّة إلى اليمين مصوباً جهة الشرق.
اللعنة اللعنة.. هذا مفرق أبو الشامات. إنها تدمر إذن!!
لقد احترق الحبل الأخير من مظلَّة الوهم.. كل شيء يحترق ويحترق ويحترق.
إنه السقوط الحرّ.