مرة سألونا عن حصة السجين اليومية من السجائر، وعرفنا منهم أن حصة السجين في إسرائيل سبع سجائر، ولكن مدير سجنهم كان، على حد وصفهم، عنصرياً ولئيماً، يعطي كل سجين ست سجائر، ما يعني أنه كان يسرق مئات السجائر من مخصصات السجناء يومياً.
كل ما سبق من تحقيقات وجولات تعذيب لم يكن إلا بروفات على فداحة العرض التالي.
مرَّ الليل كأنه يمشي في أوحال دبقة تحت غيوم كثيفة تندف جمراً ورماداً، إلى أن جاء في الصباح أربعة عناصر أمن، ليقتادوني من زنزانتي في قبو المبنى إلى الطابق الأول حيث غرف التحقيق.
في العادة كانوا يكتفون بإرسال عنصر واحد أو اثنين، فما الذي استجدّ الآن؟
فوق، كان كل شيء هستيرياً.. التحقيق وحركة المحققين وأسئلتهم ودخولهم وخروجهم وتهديداتهم. واضح أن هناك شيئاً خطيراً، ولكن عدم التركيز على مسألة محددة تسمح بالربط أو الاستنتاج، أغرقني بدوائر احتمالات ليس لها أول ولا آخر.
أيعقَل أنهم اعتقلوا كامل اللجنة المركزية في أحد اجتماعاتها؟
لم يحِنْ بعد الموعد الدوري لاجتماعات المركزية، ومن المستبعَد أن يكون هناك من دعا لاجتماع استثنائي لا ضرورة له.
ربما اعتقلوا المكتب السياسي على أحد المواعيد أو في أحد البيوت.
بعد حملة عام 1986وخسارتنا للعديد من الكوادر الوسيطة، ضاقت خيارات البيوت الآمنة، فاضطررنا مرّةً إلى الاجتماع في مطعم الفهد الواقع في أحد الشوارع الفرعية بين حي القصَّاع وحيّ باب توما. كان الاجتماع حينها مقتصراً على تداول آخر المستجدات الأمنية وتحرير العدد الجديد من جريدة "الراية الحمراء" الناطقة بلسان الحزب. ذلك الاجتماع منحني، في بداية اعتقالي، فرصة الاعتراف بأنه ليس لدى المكتب السياسي أي مكان للاجتماعات سوى مطعم الفهد.
قبل إعادتنا من فرع التحقيق العسكري إلى فرع فلسطين، تمكَّنّا من تهريب رسالة إلى الحزب تضمَّنت اعترافاتنا، ومن ضمنها اعترافي بأن مقرّ الاجتماعات الدائم للمكتب السياسي هو مطعم الفهد. أحد الرفاق كتب الرسالة مع مقدمة مفادها أنه قام بكتابتها، على مسؤوليته، بعد أن سمع أحاديث الرفاق عن تحقيقات كلٍّ منهم، وقام هو بتلخيصها من غير أن يخبِر أحداً بما يفعل. كان ذلك تحسُّباً لمحذور ضبط الرسالة أثناء الزيارة، وفي هذه الحالة ستكون المسؤولية فردية.
لسوء الحظ اتضح لاحقاً أن الرسالة ضُبِطتْ بعد شهرين في أحد بيوت قيادة الحزب، وأن إعادتنا من فرع التحقيق إلى فرع فلسطين كانت بسبب اعتقال اثنين من أعضاء المكتب السياسي هما أكرم البني "أبو النور"، ووجيه غانم الذي كان اسمه الحركي "زوربا"، وأنا ورَّطته باسم حركيّ آخر "هو أبو ذرّ". كانت علاقتي الشخصية بوجيه وطيدة وحميمة، فلم يستطع أن يرفض توريطي له باسم حركي قد تكون دلالاته الرمزية على النقيض من دلالات زوربا.
اعتقال اثنين من المكتب السياسي في آن معاً من شأنه أن يجعل منشار التحقيقات والاعترافات ومقاطعتها في ما بينهما أمراً في غاية الخطورة. لم يكن أمام الرفيقين من خلاص سوى الصمود وإنكار ما يواجَهان به من معلومات يمتلكها المحققون عن دور كل منهما في التنظيم، ومن اعترافات لمعتقلين سابقين وضعوا بعض المسؤوليات على عاتق أحدهما، كطريقة مجربة تساعدهم في نفي بعض مسؤولياتهم بتحميلها لرفيق لا يزال حراً، وأيضاً من وقائع ورسائل كانت قد صودرت من بيوت تمت مداهمتها سابقاً. ربما لهذا قال لي السجان جلال "هناك إنكار شديد".
صار حلم فرع فلسطين بتصفية الحزب في متناول اليد، ليس فقط فرع فلسطين، وإنما أيضاً السلطة بكامل أجهزتها الأمنية، ولذلك تم التعاون في حملة 1987، وربما لأول مرة، بين مختلف الفروع الأمنية، بقيادة فرع فلسطين، لتوظيف كل المعلومات التي يملكونها، وضرب كل ما لديهم من أهداف عاجلة ومؤجَّلة في جميع المناطق دفعة واحدة.
ومن أجل استقبال معتقلين جدد، نقلونا، نحن المعتقلين الأقدم، من المنفردات إلى المزدوجة الأولى، التي هي في الأصل مهجع مقسَّم إلى أربعة أقسام يعادل كل منها زنزانة مزدوجة، وذلك تحاشياً لأي تنسيق بين المعتقلين القدامى والجدد.
كان ذلك في النصف الثاني من عام 1987.
في تلك الفترة حدثت صفقة تبادل أسرى بين الاحتلال الإسرائيلي وإحدى فصائل المقاومة الفلسطينية. المحرَّرون الفلسطينيون/ اللبنانيون استقبلهم أهلهم في لبنان، أما المحررون الفلسطينيون/ السوريون فقد استقبلتهم المخابرات السورية على الحدود اللبنانية، وأحضرتهم إلى فرع فلسطين.
كان واضحاً أن المخابرات السورية محرَجة ما بين اعتبارها أن كل أسير محرَّر هو عميل إسرائيلي محتمَل، وما بين عدم منطقية اعتقال شخص مناضل اضطرت إسرائيل إلى تحريره، لذلك كان الحل العبقري لدى فرع فلسطين هو إبلاغ الأسرى المحررين أنهم مناضلون محترمون وعلى الرحب والسعة، غير أن الضرورات تقتضي الاحتفاظ بهم لبضعة أيام. ولكن احتراماً لتاريخهم النضالي سوف يضعونهم في مهجع يضم نخبة من الوطنيين المثقفين والمناصرين للقضية الفلسطينية.
كانت المفارقة فظيعة حين اتضح أن مجموعتنا هي المعنية بـ "نخبة الوطنيين".
في الحقيقة كنا سعداء باستقبال المحرَّرين، إلا أنهم لم يكونوا مرتاحين وهم يرون كيف يخرج بعضُنا إلى التحقيق ويعود على بطانية يحملها عسكريان، وحين يُفتح باب المزدوجة يرميان من فيها إلى الداخل.
كل يوم يأخذون عدداً منّا، ليعيدوهم بعد ساعتين أو ثلاث مشلشلين بدمائهم.
المحرَّرون يراقبون ما يحدث وكأنَّ على رؤوسهم عقارب وثعابين. ولكن إشارة وراء إشارة، وجملة بعد أخرى، إضافة إلى بعض الأخبار التي يعود بها الشباب من جولات التحقيق، دفعت أحد المحرَّرين للسؤال عن سبب تعذيبنا إلى هذا الحدّ الذي لا يمكن أن...ثم لم يُكمِل حديثه. تشجَّع آخر وسأل إن كان صراعنا مع السلطة صراعاً مسلَّحاً، فأخبرناهم أنه صراع مسلَّح من جهة النظام فقط، وأننا معارضون يساريون ديموقراطيون من حزب يدعى "حزب العمل الشيوعي".
حديث يجرُّ حديثاً إلى أن أدرك المحرَّرون أننا معارضون سياسيون سلاحنا الكلمة والجريدة والبيانات والشعارات لا غير.
سألناهم كما سألونا، فحدَّثونا عن أمور لا تستقيم مع عقلنا ومنطقنا. بعضهم تعرَّض لتعذيب جسدي دام أياماً، وبلغت أحياناً لدى بعضهم ثلاثة أسابيع، بدون وجود أي محامين، وبعضهم تعرّض أساساً لتعذيب نفسيّ، ولكنه أشار إلى أن هناك من تعرّض لتعذيب وحشي، ولكن ليس في المعتقّل الذي كانوا فيه. وأشار أحدهم إلى أن إكمال التعليم الثانوي أو الجامعي كان متاحاً لمن يرغب.
هم يحدثوننا عن أيام أو أسابيع من التحقيق بدون وجود محامين، ونحن نحدثهم عن شهور من الجَلد والسلخ والتعليق على السلَّم والفسخ وبساط الريح والكرسي الألماني والدولاب والكهرباء، والحالة ليست بوارد وجود محامين إطلاقاً.
مرة سألونا عن حصة السجين اليومية من السجائر، وعرفنا منهم أن حصة السجين في إسرائيل سبع سجائر، ولكن مدير سجنهم كان، على حد وصفهم، عنصرياً ولئيماً، يعطي كل سجين ست سجائر، ما يعني أنه كان يسرق مئات السجائر من مخصصات السجناء يومياً.
تُرى ما هي نسبة الحقيقة ونسبة المبالغة في أحاديثهم؟
حالهم وحالنا عالمان مختلفان بدرجات يصعب معها التقاط وجوه التشابه. الشي الوحيد الذي كنا متشابهين فيه ومتفقين عليه هو موقفنا من الاحتلال الإسرائيلي.
أسئلتهم وأسئلتنا تنتمي أيضاً لعالمين مختلفين، لذلك حين سألونا كم مرّة في الأسبوع يأتينا لحم فريش، لم نفهم قصدهم ب "فريش"، فقالوا: يعني لحم طازج مش معلبات. وعرفنا منهم أن حق السجين ستة أيام لحم طازج، وفي اليوم السابع لحم معلبات، ولكن مدير السجن العنصري اللئيم ذاته، كان يقدم لهم خمسة أيام لحم طازج ويومين لحم معلبات.
قال أحدهم: لكم أن تتخيلوا فارق السعر حين يقدمون لنا مئات الوجبات من لحم المعلبات بدلاً من اللحم الفريش!
كنت أسمع هذه الأحاديث، وأنا أتساءل: ما الذي يضير سلطاتنا لو اكتفت بسرقة حصصنا من اللحم الطازج ومن المعلبات؟
حقاً لم نكن نريد أكثر من أن يتركوا لنا لحمنا.. أعني لحم أجسادنا فقط.