قال لي ريمون: المنشورات السياسية المعارضة هي كتيبك الشعري الذي تتحدث فيه عن إعدام الشاعر الإيراني خسرو جلسرخي، فقد رآك مدير مكتبنا وأنت توقِّع إهداءاتك لبعض الأصدقاء.
سوريا، من شمالها الذي يعرّيه الأتراك إلى جنوبها الذي ترتديه إسرائيل، ومن غربها الذي تتناوبه جنسيات متعددة إلى شرقها الذي لا تحتله الشمس. سوريا هذه سجن بكل ما تعنيه اللعنة من معنى، ولكنه سجن واسع نسبياً. الخدمة العسكرية الإلزامية في سوريا سجن أقل اتساعاً. أما المخابرات فتعني سجوناً ضيقة وتضيق إلى أن تغدو أضيق من رحمة الله.
بعد انتهائي من الخدمة الإلزامية قررتُ الإقامة في دمشق، وقد كانت السنوات الثلاث الأولى مخبوزة على نيران سيئة النية والفطرة. كنت أفترض أن شهادتي الجامعية تخولني العمل كمدرس لغة عربية، أو كموظف في مؤسسة ثقافية، ولكن ما من باب طرقته إلا عدت خائباً. قال لي أحد الأصدقاء أن أخاه يمكن أن يساعدني في تأمين عمل ضمن مؤسسة الإسكان العسكري، ولكنهم يطلبون شهادة الدراسة الثانوية فقط.
حين ذهبت لأسأل عن الأوراق المطلوبة للعمل قالوا لي إنهم لا يوظفون سوى من معهم شهادة الدراسة الإعدادية.
كأني أقبل بجهنم وجهنم لا تقبل بي.
بعد أسفار متعددة ما بين حمص ودمشق من أجل حصولي على وثيقة تثبت أني حائز على شهادة الصف التاسع أو ما يسمى شهادة الدراسة الإعدادية، وبعد تواصلات عديدة مع الشخص الذي سيساعدني على ضمان قبولي في الوظيفة، صدر قرار تعييني في المستودع المركزي لمؤسسة الإسكان العسكري.
قابلني مدير المستودع، وعلى ضوء المقابلة قرر أن يكون عملي في قسم "العدَّة والأدوات" الذي يديره أبو أحمد.
أبو أحمد يعمل في هذا القسم منذ تأسيس المستودع، ويعرف كل كبيرة وصغيرة فيه. سألته عن طبيعة عملي، فقال لي إنه يقوم بكل ما يلزم وليس بحاجة أي شيء، إلا عندما تأتي سيارة لتفرغ أو لتحمِّل بضاعة، فعندها يمكن أن أساعده.
أمثال أبو أحمد حالات نادرة. رجل خدوم إلى أقصى حد، متسامح إلى أقصى حد، صافي النيّة وفي منتهى الطيبة والكرم. يحضِر طعامه من بيته ويصرّ أن يدعو جميع الموجودين معنا أو بالقرب منا ليشاركوه طعامه. بين فرصة وأخرى يجهز الشاي أو المتة أو الكركدية أو الزوفا ويدعوني.
مع الأيام صار يعبّر عن ارتياحه لي، وأعبر له عن عدم ارتياحي لبقائي في المستودع من غير عمل.
سألني مرة بتردد وخجل إن كنت أعرف القراءة والكتابة، فقلت له أني حاصل على الشهادة الإعدادية، فقال: يعني تقدر تظبّط الأوراق وتكتب فيها المواد الداخلة على المستودع والخارجة منه؟
قلت: أكيد.
قال: بارك الله فيك. لقد أزحت عني همّاً كبيراً. كنت أستعين بجارنا فيصل بين حين وآخر، ولكني في الفترة الأخيرة صرت أخجل من تكليفه بذلك، فالرجل عمله كثير ولا يهدأ، وغالباً يرسلونه في مهمات خارج دمشق.
ثمانية عشر شهراً جعلت علاقتي مع أبو أحمد في منتهى الحميمية.
يوماً ما جاءني موعد لمقابلة مدير المؤسسة العقيد خليل بهلول، ليعاتبني كيف أعمل في مؤسسته على أساس الشهادة الإعدادية وأنا شاعر وصحفي وحائز على شهادة جامعية.
في النهاية قال لي: منذ اليوم سيكون مكانك عندنا في مكتب الإعلام. في المكتب أربع موظفين وأنت الخامس، وعندكم أسطول سيارات تستطيعون تحريكه في أي مهمة تخدم المؤسسة إعلامياً، ودوامكم حرّ وفق تقديراتكم، شرط أن أرى نتائج إيجابية، ولن أقصّر معكم في المكافآت.
في الحقيقة كنت أحنّ لرؤية أبو أحمد وأزوره بين حين وآخر، ويبدو أنه كان يبادلني نفس الشعور.
إحدى المرات رأيته مهموماً فسألته عن السبب. بدا عليه الخجل والتردد ولكنه لاحظ عينيَّ تشجعانه على أن يقول ما عنده، فأبدى رغبته في أن أتدبر أمره بحيث يستطيع أن يراني كل يوم.
للأسف لم يطل الأمر حتى أصدر العقيد خليل بهلول قرار طرد بحقي وحق المخرج ريمون بطرس بتهمة أننا نوزع منشورات سياسية داخل المؤسسة.
كانت الإمكانيات المهنية والعامة لمدير مكتب الإعلام ضعيفة إلى حد يجعله خائفاً من أن يحل محله أحد منا نحن العاملين معه في المكتب، وربما هناك من أقنعه بأن ريمون أو فرج سيكون هو المدير. الخلاصة أن الرجل اتهمنا عند مدير المؤسسة بتوزيع منشورات سياسية معارضة، لنجد نفسينا مطرودين خارج نعيم المؤسسة.
قال لي ريمون: المنشورات السياسية المعارضة هي كتيبك الشعري الذي تتحدث فيه عن إعدام الشاعر الإيراني خسرو جلسرخي، فقد رآك مدير مكتبنا وأنت توقِّع إهداءاتك لبعض الأصدقاء.
كنت أنا وريمون أول حالة طرد سياسي في تاريخ المؤسسة، ولطالما تباهى العقيد خليل بهلول، قبل حالتي وريمون، بأن مؤسسته تضم عمالاً وموظفين شيوعيين وناصريين وإسلاميين وغيرهم، وبأنه لا يعير أذناً لأجهزة المخابرات، فمقياس تقييم الأشخاص عنده هو العمل والإنتاج وليس الانتماء السياسي.
في سوريا كل الأبواب والطُرق وحتى الآفاق مسدودة أمامي، والفرصة الوحيدة الممكنة لعملي هي بيروت.
لا أدري إن كان خبر طردي وريمون من مؤسسة الإسكان العسكري وصل إلى أجهزة المخابرات أم لا، ولكن من باب الاحتياط رتَّبتُ أمر ذهابي إلى بيروت وعودتي منها بدون أن أمرّ على بوابات الحدود الرسمية.
علاقاتي ببعض فصائل المقاومة الفلسطينية أكثر من جيدة، ولهذا استطعت تدبّر أموري عبر ما يسمّى "الطريق العسكري" المخصص للجيش السوري ولفصائل المقاومة الفلسطينية.
جميل حسن يترقّى في المخابرات الجوية من ملازم أول إلى نقيب فرائد فمقدم، ولكنه لا ينسى أن يرسل لي حصتي من شتائمه وتهديداته، مع بعض المُفرَج عنهم، كما لو أن بيننا ثأراً شخصياً. تهديداته وحدها كافية لدفعي إلى تحاشي السفر عبر الحدود الرسمية.
كنت أعرف جيداً أن السوري عموماً والمعارض خصوصاً هو سجين سابق أو سجين راهن أو سجين مؤجَّل، وقد كنت أحاول تأجيل اعتقالي قدر الإمكان، مع أمل أن يكون، حين يحين أجله، على أيدي أي جهاز باستثناء المخابرات الجوية.
الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 حال بيني وبين أحلام بيروت وخططي على صعيد الأدب والنشر والصحافة، واجتياح أجهزة المخابرات السورية لكل ما له علاقة بالمعارضة حال بيني وبين بقية خططي لحياة عادية آمنة في سوريا.
طلبتْ مني قيادة الحزب أن أتخفَّى احترازياً، لكوني عضواً في اللجنة المركزية وعضواً في منطقية دمشق أيضاً.
لم أزر أهلي في تلك الفترة سوى مرة واحدة. دخلت القرية بعد منتصف الليل متلفعاً أو متنقباً بالشماغ الذي يلبسه عادة رجال القرية، وغادرت قبل الفجر.
أمي أيقظت ابنتي التي جاءت كعادتها وجلست في حضني. لفت انتباهي أن ابنتي تنادي أخي أبو خالد بابا. شعرت لحظتها بأن حزني ليل ثقيل لا يعدله في الحياة سوى اطمئناني وراحتي بأن ابنتي آمنة في حال اعتقالي، فأخي أبو خالد خير من يمكنه أن يكون أباً.