الطريق من مكتب ضابط أمن اللواء إلى الباب الخارجي يستغرق حوالي عشر دقائق، شعرت كما لو أنها عشر ساعات. كنت أمشي باتجاه الباب الخارجي وأنا أتوقّع بين حين وآخر أن يُلقَى القبض عليّ من أمامي أو من خلفي، ولكني وصلت إلى الطريق العام، وتوقّف لي أحد الميكرووات الذ
كل الإجراءات والتفاصيل تشير إلى أنهم ذاهبون بنا من مقرّ الكتيبة إلى قيادة اللواء.
كان معنا ضابط برتبة نقيب، لونه حنطي يميل إلى الأصفر بطبيعة الحال وربما زاده الخوف اصفراراً. قلتُ في نفسي: لماذا يقول لا إن كان يخاف من العواقب إلى هذا الحدّ؟
تباسط أحدنا في الحديث وسأله عن سبب وجوده معنا في صندوق سيارة "زيل" وهو برتبة نقيب، فردّ عليه بعنجهيّة: احترم نفسك حين تخاطبني.. ألا تعرف الأصول العسكرية؟
الأصول العسكرية تقتضي مخاطبته بلقب "سيدي" إذا كان مخاطِبه من رتبة أدنى.
لم أعرف في تلك اللحظة هل أشفق على النقيب أم أفقأ الأمور أمام عينيه. لقد بدا لي معارضاً للأسد، ولكنه من نفس الطينة. هدّأتُ نفسي واكتفيت بالقول: بعد قليل سينزعون رُتبك عن كتفيك، وتغدو ديكاً ممعوط الريش، ثم تركته في حاله وبدأت أتحدث همساً مع الاثنين الآخرين. شعر المسكين أني أكثر دراية بالاحتمالات القادمة، وأني أنسّق مع الآخرين بعض الإجابات على الأسئلة المحتملة، فاعتذر لنا وعاد جزءاً منا.
وصلنا إلى قيادة اللواء لنجد في انتظارنا حرّاساً تولوا اقتيادنا إلى قاعة استقبال، في آخرها باب يفضي إلى مكتب ضابط الأمن.
بدأ التحقيق مع الضابط النقيب، وحين خرج كان وجهه ليمونياً شاحباً، ثم أخذوا بعده عريفاً متطوّعاً، أعرف شهامته وأعرف أنه من بلدة كفر زيتة التابعة لحماة، وبعده أخذوا رقيباً لهجته دمشقيّة واضحة، ثم جاء دوري.
قال لي ضابط الأمن بلطف غير متوقَّع من ضابط مثله: فرصة طيبة أن نلتقي. نعرف أنك مثقف، ونحن نحترم المثقفين. ودعني أكن صريحاً معك، نحن نعرف عنك كل شيء، ولكننا لا نريد منك سوى سبب قولك "لا" في الاستفتاء على رئاسة القائد حافظ الأسد.
قلت: أنت تعرف أن الاستفتاء سرّيّ، وغرفة التصويت سرّية، والصندوق الانتخابي سرّي، فكيف تعرف إن كان تصويتي يتضمن لا أو نعم؟
قال: نعرف نعرف.
قلت: ولكن يجب أن تقنعني أنك تعرف، فالانتخاب على حد علمي سرّي.
قال: عناصر كل فصيلة أو سرية أو كتيبة أو فوج أو لواء أو فرقة في الجيش السوري مصنّفين حسب الأقدمية العسكرية. قائد كتيبتك رقمه واحد، وأنت رقمك 29. بطاقات الاستفتاء تشير إلى أن الرقم 29 قال "لا"، وأعرف أنك ستسألني كيف. أنت شخص مثقف وسياسي معارض ولا بد أنك تعرف شيئاً عن الحبر السرّي الذي رقّمنا به الأوراق وفق الأقدمية.
قلت: حسناً. اقتنعت أنكم تعرفون، وأنا فعلاً قلت "لا" التي تمثِّل حقي وقناعتي.
سألني لماذا، فأجبت لأني أريد رئيساً جديداً، فأنا لا أحبّ الثبات، لأنه استنقاع وموت.
قال: هذا بريجينيف رئيس الاتحاد السوفييتي. هل تعرف كم مضى على رئاسته؟
قلت: أعرف، ولكن من قال لك أني مع استمرار بريجينيف؟
قال: كيف وأنت شيوعي.
قلت: لا.. لستُ شيوعياً.
قال: أنت كتبت في جريدة تشرين، بحماس واضح، من أجل الإفراج عن الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم الشيوعي كما تعلم.
قلت: أنا سمعت في إذاعتكم، إذاعة دمشق، نداءً إلى الكتّاب السوريين الشرفاء، يدعوهم إلى أن يجرّدوا أقلامهم ويدافعوا عن الشاعر المناضل أحمد فؤاد نجم، وأنا صدّقت ذلك النداء وكتبت مقالتي، فهل عليّ أن أدفع ضريبة تصديقي لإذاعتكم؟
الغريب أن ضابط أمن اللواء كان هادئاً ومبتسماً، وأنهى الحوار بقوله: تستطيع أن تذهب الآن.
قلت: إلى أين؟
قال: إلى بيتك.
قلت: هل أنت متأكّد؟
ابتسمَ، وخرجتُ من مكتبه.
كنت أمشي في منطقة كل ما فيها يوحي بالصحراء، رغم أن المساحات التي يحتلها اللواء موجودة في ما كان يُعرَف قديماً بغوطة دمشق الغربية.
الطريق من مكتب ضابط أمن اللواء إلى الباب الخارجي يستغرق حوالي عشر دقائق، شعرت كما لو أنها عشر ساعات. كنت أمشي باتجاه الباب الخارجي وأنا أتوقّع بين حين وآخر أن يُلقَى القبض عليّ من أمامي أو من خلفي، ولكني وصلت إلى الطريق العام، وتوقّف لي أحد الميكرووات الذاهبة إلى دمشق، وعدت فعلاً إلى البيت.
بعد شهرين وربما ثلاثة جاءت رسالة إلى الكتيبة مفادها أنّ عليّ مراجعة إدارة المخابرات الجوية في مبنى آمرية الطيران القريبة من قيادة الأركان.
أخبرت من ينبغي أن أخبرهم بالأمر من الأصدقاء والأهل، وتوجّهت بقدميَ مشياً إلى مبنى آمرية الطيران.