التجربة الأوكرانية كظل للعالم الحديث

2017-05-16 00:00:00

التجربة الأوكرانية كظل للعالم الحديث
تمثال "Bitter Memories of Childhood" لذكرى الإبادة، في كندا

تقول الإحصاءات إنه خلال سبعة عشر شهراً فقط، قضى أكثر من عشر ملايين أوكرانياً نَحبهم. كان من بينهم حوالي ثلاثة ملايين طفل. تم ذلك بين عامي 1932 و1933، بسرية وتنظيم شديدين، في مجزرة مهولة ظل العالم ساكتاً عنها لعقود وتعرف باسم "هولو-دومور" وتسعى أوكرانيا اليوم لنيل الاعتراف بها. و"هولو-دومور" والتي تعني "وباء الجوع"، مفردة مركّبة مشتقة من كلمتي "الجوع" و"ووباء الطاعون" في اللغة الأوكرانية. 

تلك المجزرة كانت بايعاز مباشر من جوزيف ستالين الذي كتب إلى بعض معاونيه في عام 1932 منذراً بأن الوضع في أوكرانيا خطير للغاية، و"بأننا إذا لم نتخذ الإجراءات المناسبة، فسنفقد سيطرتنا هناك". وعلى هذا الأساس، أقيمت اجتماعات عدة وعاجلة، للخروج بخطة مناسبة تكسر العمود الفقري للأوكرانيين وتنقع أرواحهم بماء الجوع. قضت الخطة بسحب كل المواد الغذائية من أوكرانيا مع إقامة جدار عسكري على حدودها كافة بحيث يستحيل على أي مواطن المغادرة. حوّل السوفيات أوكرانيا بهذه الطريقة إلى سجن أو حلبة نازل فيها الأوكرانيون جلادهم الذي تنكر بهيئة جوع. وكان اللاعب الأبرز في ذلك الضابط ينريك ياغودا، الذي سبق هتلر في مجازره، كما سبقه في اتخاذه الشارب القصير علامة فارقة له. تمسك الأوكرانيون أولاً بما اختزنوه من حبوب وخضار ليقتاتوا عليها. فاستطاعوا تفادي الموت خلال الأشهر الأولى، الأمر الذي فاجأ ستالين وأغضبه. فأصدر أوامره بمصادرة ما تبقى من حبوب من مخازن الفلاحين الأوكرانيين، ما يعني إرسالهم مباشرة إلى أتون الموت. وهكذا، وجد الأوكرانيون أنفسهم ذات ظهيرة، خاليي الوفاض، يتفرجون على الجنود الشيوعيين وهم يحمّلون قوتهم على ظهر الآليات العسكرية ويغادرون. 

الشق الآخر من خطة ستالين قضى بمنع أولئك المزارعين من الحصول على حبوب بديلة من المدن القريبة، عبر شرائها أو مقايضتها بسلع أو مواد أخرى. فأقام الجنود السوفيات نقاط تفتيش على مداخل المدن، ومحطات القطارات. وسارعوا إلى منع المزارعين المتضورين جوعاً من مغادرة القطارات، والعودة إلى قراهم. حتى أن العديد من هؤلاء كان يقضي حتفه منهكاً لتلقى جثته على سكك الحديد، وتصبح مثاراً للرعب. فشلُ المزارعين في الحصول على الحبوب أو أي نوع من السلع، أفقدهم كل شعور بالأمل، وبالتالي الخوف. فلم يجدوا سبيلاً سوى التوجه فوراً إلى حقول القمح التي كانت تحت حراسة قوات الشرطة السرية السوفياتية المشددة، القوات التي حملت اسماً فضفاضاً ومموهاً هو "مفوضية الشعب للشؤون الداخلية" وتغير اسمها وهيكلها بتغير الظروف. إلا أنها بقيت ذراع الرعب التي أطلقها السوفيات لإبادة طبقات اجتماعية بأكملها، من مزارعين مستقلين، إلى أقليات من إثنيات مختلفة، وأفراد من الطبقات البرجوازية، وضباط برتب رفيعة، كما عدد من المفكرين والفنانين والناشطين في الحركة العمالية، وصولاً إلى اعدامات طالت عدداً من المواطنين بشكل عشوائي بوصفهم أفراداً من المعارضة بما في ذلك أعضاء من الحزب الشيوعي. 

لم يكن مستغرباً إذن، على الأوكرانيين، أن يطلق أفراد الشرطة السرية السوفيات، النار على كل من يقترب من حقول القمح. وسرعان ما استسلم هؤلاء لحتفهم، ليصبح منظر الأطفال والنساء والعجائز المتضورين جوعاً والمنتشرين على الطرقات، مشهداً يومياً وكارثياً مألوفاً. غير أن الغالبية العظمى من الأوكرانيين، توفوا بصمت في منازلهم. فكان أفراد الشرطة السرية يقومون بجمع الجثث من البيوت وإحصائها، قبل دفنها في مقابر جماعية بغية طمر المجزرة. مع ذلك، فإن بعض الأشخاص دفنوا وهم لا يزالون على قيد الحياة. حفر القبور الصغيرة، اتسعت لأرقام كبيرة من البشر، فهؤلاء لم يختلفوا في مظهر أجسادهم عن الصور الشهيرة لضحايا الهولوكوست الذين سيلحقون بهم على يد هتلر بعد عشرة أعوام على ذلك. بفارق أكثر هولاً وهو أن هتلر وبينما صادر الذهب من الضحايا اليهود وحوله إلى سبائك أودعها في مصارف سويسرية، فإن السوفيات صادروا ما صادروه من حبوب، نحو أوروبا، في شحنات بلغت ملايين الأطنان. ليقتات الأوروبيون خلال الثلاثينات على قمح الأوكرانيين المسروق. يمكن للقارئ هنا أن يضيف إلى "ليقتات الأوروبيون خلال الثلاثينات على قمح الأوكرانيين المسروق"، عبارة "دون أن يعلموا، على الأرجح، بذلك"، إلا أن الميديا الأوروبية والاميركية، نشرت في موازاة ذلك تقارير مروعة عن "وباء الجوع" الذي داهم أوكرانيا وأجزاء من روسيا. أي أن أصداء المجزرة دوت في مختلف أنحاء العالم الذي لم يبد أي تعاطف أو يتحرك بأي شكل. إلا أن موقف أوروبا على المستويين الرسمي والشعبي، ظل بارداً بعلمها أن مخابزها تصنع الرغيف من حبوب الفلاحين الأوكرانيين. فتقرر بشكل من الأشكال أن لا يصدر عنها أي سلوك أو ضغط لوقف المجزرة. 

ما حدث في أوكرانيا يقدم اليوم مثالاً، وإن "قديماً"، عن عالم لم يختلف سلوكه كثيراً عما سبق، فيفاضل بين إنسان وآخر، وقيمة بشرية وأخرى، ومجزرة ومجزرة. عالم يستفز الموتى الذين ينتظرون عدالة ما في قبورهم الجماعية. موتى يحتضنون بعضهم البعض تحت التراب ويبصقون كلساً ناشفاً من أسفل علينا نحن سكان هذه البسيطة العلويين، المزيّنين اليوم بالتكنولوجيا والجهل والترفع. أوكرانيا، في حكايتها التي تشبه ظلاً للعالم الحديث، ما زالت تبحث اليوم عن اعتراف دولي بهذه المجزرة. تماماً كما يسعى الأرمن، والفلسطينيون والعراقيون والأفغان وغيرهم كما السوريون الذين أصبحت بلادهم حالة للدراسة والاجتهاد الأكاديمي للحقوقيين الأوروبيين، كمادة دسمة يتزاحم على لقطاتها الصحافيون وتزدهر على خرائبها المنظمات غير الحكومية التي تعيش اليوم عهدها الذهبي.