كيف يمكن لأدب أن ينقذ شعباً؟ آيسلندا نموذجاً 

2017-04-10 06:00:00

كيف يمكن لأدب أن ينقذ شعباً؟ آيسلندا نموذجاً 
من بين أقدم مخطوطات القرون الوسطى في "المتحف الوطني الآيسلندي"

لم يُعرف للأدب الآيسلندي وجود قبل القرن التاسع للميلاد. أما نشأة هذا الأدب، فهي مسألة يختلف الباحثون بشأنها، غير أن المؤرخ سيغورذور نوردال يعزو انطلاقته إلى العام ألف ميلادي، تاريخ كتابة أول قصيدة آيسلندية بعنوان " Völuspá"، والتي تحكي قصة نشوء العالم في الميثولوجيا النوردية، وتعد من أكثر القصائد دراماتيكية في الشعر الآيسلندي. غير أن ما يتفق عليه اليوم الباحثون الأوروبيون، هو أن آيسلندا قدمت إلى المكتبة العالمية أكبر إسهاماتها ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر للميلاد، والتي تمثلت بما يعرف بالـ"ساغا". والساغا، هي صنف خاص من المرويات، لم يجد حتى هذه اللحظة مرادفاً دقيق له في اللغة العربية. وهي تتضمن مجموعة من النصوص السردية والحكايات القصصية والملحمية التي تأخذ حيزاً في فترة تعد مبكرة من تاريخ آيسلندا. وتتناول التاريخ النوردي (الشمالي) والجرماني القديم، متكئة بصورة أساسية على رحلات الفايكينغ، كمنبع لها، بما في ذلك غزواتهم والمعارك التي خاضوها، كما تتتبع هجرات عائلات وقبائل جرمانية بالمقابل من دول اسكندنافيا وغيرها إلى آيسلندا. ثم تقف عند الصراعات الدموية التي فتكت بين الآيسلنديين وكانت في بعضها معارك طاحنة خاضها أفراد العائلة الواحدة ضد بعضهم البعض. 

و"الساغا" مكتوبة بالـ"Old Norse" أي اللغة النوردية القديمة وفق الترجمة الحرفية العربية لاسم هذه اللغة. أما الـ"Old Norse" نفسها، وهي لغة جرمانية شمالية تحدث بها سكان اسكندنافيا وما وراء بحارها خلال عصر الفايكينغ وحتى القرن الرابع عشر، فترجح الدراسات انها لغة تطورت عن شكل أقدم للغة اسكندنافية انتهى استخدامها في القرن الثامن ميلادي. غير أن هذه اللغة، اندثرت من اسكندنافيا في أواخر وأواسط القرن الرابع عشر، وتمخض عنها اللغات الجرمانية الشمالية الحديثة. ليتلاشى كل أثر للـ"Old Norse" من دول اسكندنافيا عدا آيسلندا، التي تمسكت بها، ولم يسمح المجتمع الآيسلندي بتطوير أية لغة بديلة اشتقاقاً منها، حتى أن من يريد أن يدرس اللغة النوردية القديمة اليوم، ليس عليه سوى التبحر في الآيسلندية.  

لقد أنقذت نصوص الـ"ساغا"، لغة كاملة من الضياع. أنقذت تلك النصوص اللغة التي كتبت بها. أما الآيسلنديون فأنقذوا الإثنتين معاً. كان بالامكان، مع تضعضع اللغة النوردية القديمة، واندثارها إلى لغات جرمانية حديثة، كالنرويجية والدنماركية والسويدية، أن تصبح الساغا إرثاً أدبياً مستوحداً، مستعص على القراءة، عبارة عن تراكيب غامضة غير مفهومة، ليس بامكان إلا قلة متخصصة من الأكاديميين والباحثين والمهتمين الإطلاع عليها وقراءتها وتحليلها وتفكيكها. إلا أن الآيسلنديين حسموا الأمر بأن ظلوا متمسكين بلغتهم الـ"Old Norse"، عبر تمسكهم بعلاقة خاصة مع أدبيات الـ"ساغا" وحفاظهم عليها من التلف أو الضياع لقرون، بل وحتى يومنا هذا، إذ يمكن العثور على النسخة الأصلية من تلك النصوص معروضة في المكتبة التابعة لجامعة آيسلندا. 

كانت آيسلندا بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر، مجرد جزيرة بركانية تتمركز وسط مياه المحيط الأطلسي، ينطلق منها ما تبقى من سليلي الفايكنغ، إلى العالم. حتى أن ليفور إريكسون، أقلع منها ليسبق كريستوفر كولومبوس في اكتشافه أميركا، بنحو خمسة قرون. أما الآيسلنديون فلم يفُتْهم يوماً واقع أنهم قلة من البشر، موزعون على بساط من الحمم البركانية المتخثرة، في جزيرة قطبية، تفتقر إلى الموارد الزراعية والغذائية والمواد الأولية. فلا جيران يمكن الإتصال بهم عن طريق البر، ولا خيار سوى مقارعة قوى الطبيعة والصمود أمامها، بما في ذلك البراكين المائة والثلاثين المنتشرة على امتداد البلاد. من هنا، لم يكن أمامهم إلا العزوف نحو الذات، الذات الجمعية، ومحاولة تحقيقها، في كل كارثة أو تهديد أو مناسبة. ساعدت في إعلاء هذا الشعور أصولهم القبلية كجماعات جرمانية في الأساس. فركزوا مجتمعهم في وحدات عائلية صغيرة، تحكمها أواصر قبلية، لكن يكون للأم فيها سلطة مطلقة حين يغيب الأب في رحلات صيد السمك البعيدة في المحيط.  وفي الشتاءات الطويلة، لم يكن بوسع هذه العائلات إلا العزوف نحو المعرفة التي مثلت إحدى أدوات هذا الصراع مع الطبيعة وتذليل العزلة والمناخ الكئيب، كما كانت سبيلاً لفهم الذات وأبعادها. 

كان على الذات الآيسلندية، التي قد تهدد الطبيعة بسحقها في أية لحظة، أن تنتقل من كونها ذاتاً فردية لتصبح ذاتاً جمعية، وأن تتغذى معرفياً عبر الحفر بديانتها، وآدابها ولغتها، وموروثها التاريخي والإنساني والحكايا المتناقلة شفوياً والعادات الاجتماعية كما التمسك بتقاليد أصبحت اليوم فلوكلوراً لا يعرف الآيسلنديون إلى الآن لماذا هم متمسكون به. وهكذا، كانت العائلة تجتمع في حلقات قراءة لمرويات الـ"ساغا" ونقاش لهذه الكلاسيكيات التي ستشكل الدينامو لكل ما سيولد من أدب آيسلندي خلال القرون اللاحقة. حلقات قراءة جمعت أجيالاً مختلفة ببعضها. هكذا، يمكن القول، وإن بشيء من الرومانسية، بأن الأدب الآيسلندي أنقذ الآيسلنديين من الإندثار، في مخض صراعهم مع قوى الطبيعة ، كما منحهم علاقة يومية، وأشد عمقاً، مع تاريخهم وذلك بسبب تداخل الوثائق الأدبية القديمة بذاكرتهم اليومية وعاداتهم. 

أما بعض الأسماء التي وردت في الـ"ساغا" مثل سغفريد وبرونهيلد وأتلي والتي تحضر كذلك في بعض الأعمال الأوروبية الكلاسيكية، فهي تمثل شاهداً على العادات والتقاليد والأساطير التي قدمت مع القبائل الجرمانية خلال القرن الرابع والخامس والسادس ميلادي. فهذه الملاحم، الساغا، لا تعكس فقط الأسس التي ألفت المجتمع الآيسلندي، وإنما تقدم ملمحاً قوياً عن عادات القبائل الجرمانية كما آدابهم وطرقهم في السرد. وعلى الرغم من أن الدراسات ترجح بأن من كتب هذه الملاحم، وهم مجهولون (عدا سنوري ستورلوسن وستورلا ثورذارسن)، كانوا ذووي خلفية متديّنة، إلا أنهم تركوا نصوصاً تعكس مجتمعات لم تبالِ بالكنيسة كثيراً، وظل قسم منها وثنياً. 

يبقى أن ارتباط الآيسلنديين بتلك النصوص، لم يكن مرتكزاً فقط على بعد بسيكولوجي، وإنما لأن هذه النصوص عكست جزءاً حيوياً، غامضاً وإشكالياً من تاريخ الآيسلنديين، كذلك ذاكرتهم. فهي كانت قد قُرِئت مراراً وتكراراًخلال عشرات السنين، أضف إلى رمزيتها كوثيقة للاستدلال على تاريخ آيسلندا القديم، منذ تأسيسها كمستوطنة قبل أن يتم تقسيم الأراضي ووضع القوانين وهيكلة المجتمع والسعي إلى الحد من الصراعات العائلية والقبلية. صراعات كانت قائمة كذلك على مبادئ الشرف والأحقية، وأدخلت آيسلندا القديمة في حرب أهلية ضروس في القرن الثالث عشر، ما دفع بالنرويج إلى التدخل وإحكام سيطرتها على الجزيرة قبل أن تتولى الدنمارك هذه المهمة لستة قرون. رغم هذا التعاقب الكولونيالي، تمسك الآيسلنديون بتلك النصوص (الساغا)، وعندما نقلت إلى السويد والدنمارك في القرنين السابع عشر والثامن عشر، نجحوا باستردادها. لقد كانت علاقتهم بتلك النصوص إذن علاقة سياسية كذلك، سلوكاً صامتاً يستنكر الكولونيالية، دون لجوئه إلى العنف. وهو ما سوف يفعله الآيسلنديون لطرد الأميركيين الذين ظلوا متمركزين في بعض القواعد العسكرية على الجزيرة حتى عام 2005.