نهاية العالم أو تلاشي أثر الكارثة

2017-03-01 07:00:00

نهاية العالم أو تلاشي أثر الكارثة
سلافوي جيجك

قبل الإنتخابات الأميركية، أعلن سلافوي جيجك، بأنه كان سيصوت لترامب لو أنه أميركي، باعتبار هيلاري كلينتون النموذج الأكثر سوءاً بين مرشحي الرئاسة. وجهة نظر جيجيك، هي أن العالم بحاجة إلى حدوث كارثة كبرى، يصاب على إثرها بالصدمة والفزع. فهو عالم يعيش، مأخوذاً بالتكنولوجيا والإنفلاش المعرفي والاستهلاك، حالة نكران للأزمات التي تلم به. كما لو أنها ذروة الحضارة الإنسانية. أما توجيه البشر للاهتمام بمسألتين أساسيتين، البيئة والهندسة الوراثية، فليس إلا إحدى سبل السيطرة على الوعي بالأزمات البشرية كالفقر والأمراض والبطالة والجوع والموت بالحروب أو بالكوارث الطبيعية. إننا إذن قبالة مجالات جديدة للتحكم وإدارة البشر. فالعالم يعيش اليوم أشكالاً جديدة ومموهة من الأبرتهايد. أبرتهايد يمثله النظام الرأسمالي العالمي، والذي يغلق على حياة أكثر من مليار شخص، بجعلهم يعيشون في أحياء بائسة ومدقعة الفقر حول العالم. 

لكن جيجك يرى أن النظام الرأسمالي فشل، وفشله يتجسد في كونه بات أصغر حجماً لكن أكثر شراسة. إنه نظام أشبه بوحش يتغذى على أكل نفسه. لقد توقف عن النمو. ولم يعد قادراً على تطوير أدواته، لذلك يعتاش على بث منظومات أخلاقية مغلوطة في المجتمعات، توحي للمستهلك بأنه عندما يقوم بشراء سلعة ما، فإنه يساهم في إنقاذ أو مساعدة شخص آخر لا يراه. شركات كستاربكس تنتهج هذه السياسة. ويمكن نقل الصورة إلى سوق الفن حتى، الذي بات في مطرح منه، قائماً على معادلة تستثمر بحثها في نماذج بشرية بائسة، لابتكار أعمال فنية باهظة الثمن، إلا أنها تهدف فيما تهدف، إلى مساعدة أولئك المساكين. هذا ما فعلته فنانة أميركية برسمها أطفال أفارقة عراة يحملون حقائب غوتشي مثلاً، على لوحات وقمصان. ثم بيع هذه لقمصان واللوحات بأسعار باهظة نسبياً. ثم تخصيص جزء من الأرباح لمساعدة أولئك الفقراء. 

إلا أن النظام الرأسمالي، رغم ذلك، لا يزال قادراً على التجسد في نماذج تبعث على الإرباك، كما هو الحال في بعض دول آسيا، كالصين وسنغافورة. بمعنى أن كلا الدولتين تقدمان نموذجاً ناجحاً لرأسمالية على قطيعة نسبية مع الديمقراطية. فالرأسمالية لا تتعلق بالجشع والطمع والأنانية، وإنما بكونها إيديولوجيا. والعالم الذي يصنفه جيجيك، على أنه عالم ما بعد الإيديولوجيا، هو في الواقع عالم يعيش نمطاً آخر من الإيديولوجيا، يقوم على الكسب السريع والاستهلاك والسيطرة والمادية. وبالتالي فإن على المعايير الأساسية في هذا النظام أن تتغير. إن نظاماً اقتصادياً يمكن أن يهدده فوران بركان آيسلندي (إيافياتلايوكل)، كما حدث في إبريل 2010، هو بالضرورة نظام يعاني خللاً ما. كما هو حال الميديا. فحين تهاجم محموعة متطرفة قرية يملكها أثرياء، يرد الإعلام ذلك إلى دوافع راديكالية تتعلق بديانة وثقافة "إرهاب"، ولا يلتفت الليبراليون إلى جوهر المسألة المتمثل في أن فقراء مسلحين يهاجمون أثرياء ينعمون بسلطة وافرة وبامكانهم ترويع آلاف البشر من حولهم بنفوذهم الإقتصادي.  

يعزو سلافوك جيجيك القمع السياسي والاجتماعي الذي واجهه العالم، إلى الإيديولوجيا. وهو ما يدفعه إلى العمل على تحليل الإيديولوجيا كمفهوم. إنطلاقاً من فهمنا له، نستطيع أن نعارض الرأسمالية سياسياً، محققين بالتالي الغاية الأخلاقية المتمثلة في دفع العالم نحو العدالة الإجتماعية والمساواة وبالتالي توزيع الثروات بشكل عادل. إلا أن هذا الهدف اليوتوبي، يظل عرضة للتهديد بطبائع الإنسان العنيفة. لقد تعرف الإنسان على نفسه عبر ممارسته، وسعيه إلى الهيمنة واستغلال المحيط وترويع البيئة وترويض الحيوان في عدوه الإنسان/الآخر. من هنا، يبدو العالم كأنه منصة لم تفرغ يوماً من سعاة للنفوذ والسيطرة. إنهارت النظم القديمة، في امبراطوريات مثل الرومانية والفارسية، لأسباب كان منها بسطها نفوذها على حيز جغرافي ضيق، وبالتالي فإن توسعها الإستعماري، كان منوطاً دوماً بتماسك المركز فيها، وقدرة هذا المركز على الإيحاء بالقوة والإدارة والسلب. لم تكن الحروب القديمة أقل فتكاً. في بعض المعارك، كان يحدث أن يقتل مائتي ألف جندي دفعة واحدة. مع فارق أن الحروب القديمة حكمتها أخلاقيتان أساسيتان، الأولى تمثلت في احترام المقاتلين الموتى، وإعطاء الفرصة لدفنهم، والثانية هي إقامة المعارك الكبرى في مساحات مفتوحة، كمعارك الرومان ضد القبائل الجرمانية أو المعركة الشهيرة ما بين اسكندر الأكبر والفرس. 

العالم الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية إذن، يشهد نهايته. لقد شارف هذا النظام الرأسمالي على النهاية. ومن أبرز نتائجه ما يعيشه عالم من تفسخ أخلاقي يجب التمرد عليه. يقاسم الكاتب خالد خميسي جيجك رؤيته إلى حد ما، مقدماً في كتابه "2011، نقطة ومن أول السطر"، بانوراما لثورات العالم الحديث، منذ أوائل القرن العشرين، كما يحلل العالم الذي نعيش مالياً وسياسياً ورقمياً، معيداً إيانا إلى حقيقة أن الأزمات الإنسانية، التي نتجت عن التطورات العسكرية حول العالم أو الحروب أو تغيرات عالم المال، ليست بطارئة تماماً. فالعالم شهد سلسلة من الثورات الكبرى وحركات الإحتجاج، أولها تلك التي حدثت بين عامي 1916-1923 (الثورة العربية الكبرى، الثورة الروسية، الثورة المجرية، الثورة الألمانية، الثورة المصرية)، ثم ثورات 1968 (ربيع براغ، مظاهرات الولايات المتحدة، إيطاليا، تشاد، بولندا، اليابان، موريتانيا، ألمانيا، انكلترا، إسبانيا، كندا، المكسيك، ايرلندا الشمالية، سيراليون، مالي، كونغو برازافيل، بنين) ثم ثورات الألفية الثالثة ومنها ما حدث في الشرق الأوسط. لكن العالم اليوم يواجه بحسب خميسي، مشكلات لم تسبق أن استفحلت بهذا الشكل، في بنية نظامه السياسي والاقتصادي. فهذا العالم لا يعاني من كارثة رأسمالية وحسب، وإنما كارثته الكبرى تتعلق بالأخلاقيات التي نشأت عليها الأمم. فالمنظومات الأخلاقية القديمة لم تعد نافعة. ذلك أن حيواتنا باتت مواد للبحث والسيطرة ومجتماعتنا عينات تدار من مكاتب بعيدة وسرية. وربما لو ترك العالم يعيش بفطرته، والكلام لجيجيك، لتلاشى تقريباً كل أثر للكارثة التي نعيشها اليوم.