الحفر في إنسانية المغتصب 

2017-02-10 03:10:00

الحفر في إنسانية المغتصب 
مدينة درسددن الألمانية بعد القصف . ١٩٤٥

اختارت مجلة تايم أدولف هتلر رجل العام لسنة 1938. وأظهرت قاعدة بيانات الأكاديمية السويدية، أنه رُشّح لجائزة نوبل للسلام في العام التالي. هتلر نفسه، كان قد أعلن بأنه إن دخل حرباً، فسيكون ذلك من أجل السلام. استند الفوهرر طبعاً على قاعدة شعبية كبيرة. واعتبره كثر بأنه دينامو عصر النهضة الجديد الذي ستقوده ألمانيا في كل أوروبا. أتى ذلك بعد التغييرات الجذرية التي أحدثها النازيون في ألمانيا لينتشلوا البلاد في غضون سنوات قليلة من خانة الدول البائسة ويضعوها في مقدمة العالم على المستويين الصناعي والعسكري.

ألمانيا كانت قد دفعت ثمناً باهظاً بعد الحرب العالمية الأولى. فالعقوبات التي فرضها الحلفاء عليها جعلت الكساد الألماني يسبق نظيره الأميركي بعشر سنوات. إذ ساد التضخم والبطالة، محطماً كل آمال الشعب الألماني بأي مستقبل ممكن. وملأت البورنوغرافيا السوق كما سادت الجريمة وانتشرت المخدرات، حد أن العديد من الأطفال الجوعى كانوا عاجزين تماماً أمام عمليات بيعهم وشرائهم كدمى جنسية. إضافة إلى الارتفاع الكبير في معدلات الإنتحار. استغل هتلر كل هذا، ملقياً اللوم على اليهود ومن خلفهم أوروبا، متهماً فرنسا وبريطانيا بسرقة المواد الأولية من الأراضي الألمانية لتعزيز اقتصاديهما.  

خطاب الحزب الوطني الاشتراكي هذا كان كفيلاً لضمان انتخابه برئاسة هتلر، ليقود ألمانيا ويغيّر المعادلة كلياً. ازدهرت البلاد إقتصادياً بسرعة قياسية، اختفت البطالة، وبدأت المشاريع المالية والإستثمارات الكبيرة تشق طريقها. انتشل الحزب النازي ألمانيا من هوة اليأس، لجعلها دولة عظمى في سنوات قليلة، وبدا كل ذلك للألمان بمثابة ربيع. ما دفع بمجلة التايم لاعتبار أدولف هتلر رجل العام لسنة 1938. إنجازات النازيين هذه على المستوى الداخلي، بقيت خارج التاريخ المتداول والحديث. ذلك أن خطاب الفوهرر  المقيت والمترفع والمليء بالكراهية تجاه اليهود والألمان الشيوعيين، ومثليي الجنس والأفارقة، كان بمثابة مسودة لإعلان الحرب. أما المدنيون الألمان، فلم يتصوروا أن الرغد الذي وسم حياتهم فجأة هو دَين سيكون عليهم تسديد أقساطه وبصيغة جرائم حرب على يد القوات الروسية من جهة، والأميركية والبريطانية من جهة أخرى.

الكاتب توماس غودرتيش يكشف في كتابه "عاصفة من الجحيم- موت ألمانيا النازية"، جرائم الحلفاء هذه. ويتقاطع بحثه، بشكل من الأشكال، مع كتاب اليوميات "امرأة في برلين" (دار المتوسط، ترجمة ميادة خليل) الذي فضّلت كاتبته (الصحافية مارثا هيلرز) أن تظل مجهولة الإسم، ولم يكشف عن هويتها إلا بعد وفاتها (2001) بعامين. تحوّلت يوميات هيلرز إلى فيلم سينمائي (2008)، فيما أصبح مؤلَّف غودريتش فيلماً وثائقياً (2015). والكتابان يحكيان الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين الألمان بعد دخول القوات الروسية والأميركية والبريطانية والفرنسية إلى ألمانيا، ويتكاملان. ذلك أن واحداً منهما يحمل بعداً شخصياً أما الآخر فيكشف عن ظرف عسكري يفسّر ما جرى. 

الجحيم بدأ في هامبورغ، عبر تكتيك قصف سيبتكره البريطانيون والأميركيون (وينستون تشرشل، الذي اقترح إغراق ألمانيا بالغاز السام، والعسكري آرثور هاريس) وسمي آنذاك بـ"القصف البساطي" مستخدمين أطنان من القنابل الفوسفورية. نفذته القوات الجوية الملكية البريطانية وطيارو الولايات المتحدة، ودون ضوابط أو تفرقة. الأطفال والنساء ورجال الإطفاء والإسعاف كانوا من بين ضحاياه. ولم توفر المدارس، الكنائس، المستشفيات والمنازل بأن أحرقت بالكامل. حتى أن اسفلت الطرقات اشتعل ليتحول إلى أنهار متحركة. أما أولئك الذين قفزوا في قنوات المياه، فقد ماتوا من الإشعاعات الحرارية فيما تحولت الأقبية إلى أفران. وفي اليوم التالي، ظهرت المقاتلات الأميركية لتبيد الآلاف من المشردين الألمان ممن نجوا من قصف الليلة السابقة. وصل ارتفاع ألسنة اللهب مجتمعة إلى ثلاثة أميال أما درجة الحرارة فبلغت 1500 درجة مئوية. سميت العملية بعملية غامورا. ولم يتوقف القصف إلا عندما أدرك البريطانيون والأميركيون أنه لم يتبق هناك شيء لتدميره. 

كرست الحرب منذ تلك اللحظة، مبدأ "المجزرة والترهيب" كطريقة لتكبيد العدو الخسائر الأعظم. إنه الهولوكوست المنسي، شأنه شأن الهولوكوست الأفريقي، على يد ملك بلجيكا، الحكاية التي تطرق لها ماريو بارغاس يوسا في روايته "حلم السلتي". لقد كانت تلك حرباً امتداداً لهمجية أوروبية لم تفلح الفلسفة الألمانية ولا مبادئ الثورة الفرنسية ولا الآداب والفنون جمعاء في حجبها أو لجم نوازعها الفردية العنيفة. 

كان الهدف معاقبة ألمانيا بشدة، بحيث لا يعود مجال لأي نهضة سريعة أو تنام لقوى قومية أو فاشية. تكررت العملية في مدن أخرى منها برلين وميونخ وشتوتغارت وكولونيا، كذلك درسدن المدينة التحفة في ذلك الوقت، لاشتمالها على أجمل المباني العمرانية في التاريخ. وهذه كلها دمرت خلال نصف ساعة. فاق ضحايا قصف درسدن عدداً ضحايا قنبلتي هيروشيما وناكازاكي مجتمعتين. وعندما أدرك طيار أميركي بأن ثمة زرافة متبقية على قيد الحياة في حديقة الحيوان، طارد الزرافة المذعورة ليقتلها بنيران رشاشه المدفعي. 

هذا الموت السريع، استتبع بآلية موت أخرى، أكثر بطئاً ودموية وألماً. بدأ الأمر مع الزحف الروسي من الشمال الذي تضمن كتائب من المغول وبعض دول آسيا، وهؤلاء عرفوا من قبل رفاقهم الروس بخلوهم من الرحمة. أما قادة تلك الكتائب فكانوا من الضباط اليهود. وهؤلاء آثروا تنفيذ عمليات انتقامية رداً على محارق النازيين المشينة أو الهولوكوست، كما قُتِل ألمان في تشيكوسلوفاكيا وأقيمت معسكرات اعتقال لألمان آخرين في بولندا تحت إدارة يهود منتقمين. إلا أن الأوامر التي أعطيت للروس لم تقتصر على القتل، بل تضمنت الاغتصاب والتنكيل. وتراوحت أعمار الضحايا بين من كن أطفالاً في الثماني سنوات وجدّات في السبعينات. 

كان لاغتصاب النساء رمزية، تمثلت في تدمير الروح المعنوية للشعب الألماني، لكن أيضاً "تلويث" أرحام "العرق الآري". كان الاغتصاب يحدث في أماكن عامة أيضاً، وأحياناً كانت الفتاة تغتصب أمام أفراد من عائلتها بما في ذلك الأخ أو الأب أو حتى أطفالها وزوجها، ويتناوب عليها عشرون جندياً أو أكثر. ولم يكن سلوك الأميركيين والبريطانيين أفضل، حيث تعرضت ملايين النساء للاغتصاب حالما غزت قوات هؤلاء ألمانيا من الغرب. رغم ذلك، فإن برلين التي دخلها الروس بعد المعركة الشهيرة التي حملت اسمها، فقد ظلت محل فظاعات الاغتصاب الجماعي وتأكدت بعد نشر "المجهولة" هيلرز عام 1959 يومياتها "امرأة في برلين"، الكتاب الذي لم يقتصر على قسوة في عرض تفاصيل اغتصابها من قبل الروس، ضباطاً كانوا أم جنوداً، بل عكس كذلك قدرة ذهنية مذهلة في النفاذ إلى هواجس النفس والحفر في الوجود فلسفياً والتفوق على العدو أخلاقياً برؤيته إنساناً تتنازعه متناقضات عديدة، لا مجرد مغتصب، قبل أن تختار الكاتبة ضابطاً روسياً من بين مغتصبيها الكثر، لحمايتها.