مخيم العائدين و "واحد واحد واحد"

2016-10-20 06:14:25

مخيم العائدين و
جامع خالد بن الوليد

الحكاية الثالثة

ذهبت إلى  حمص دارساً لمادة اللغة العربية في "جامعة البعث" في أواسط الثمانينيات، كانت المدينة معروفة بتنوعها الطائفي، ففيها كل طوائف سورية وتشعر أن فيها أكثر، ومعها بدأت تجربتي الأولى مع الغربة، وككل ضيف أحببت التعرف على المدينة بكل تفاصيلها.

 ذهبت طالباً للعلم على هامش المهمة التي أرسلني بها الحزب الشيوعي الفلسطيني، وهي مهمة تأسيس خلية للحزب هناك، كنت خارجاً أو داخلاً -لست أدري بالضبط- من أزمة عاطفية يومها، ولم يكن الأمر سهلاً علي على الإطلاق، فعلي أن أجاهد نفسي، أن أبدأ حياة جديدة في مدينة جديدة لا أعرف إلا اسمها، وأعرف أن خالداً بن الوليد مات ودُفِن فيها في مسجد يحمل اسمه، وأعرف كذلك ما يُحكى عن طرافة أهلها.

وصلتها يوم الأربعاء وفي مخيلتي أنني سأجد الناس يتساقطون من الضحك و أن أصوات قهقهاتهم تصل السماء بالأرض لأنه يوم عيدهم، هذا ما خطر في بالي فوجدت الأمر عادياً جداً.

 هي مدينة صغيرة قياساً بمدينة دمشق. هدفي الأول الذي قصدته هو مخيم العائدين في جنوبها، فهو المكان الوحيد الذي أفهمه ويفهمني، وأستطيع منه أن أبدأ وأسعى إلى أي مكان في العالم، لا يختلف مخيم العائدين في حمص عن مخيم اليرموك كثيراً إلا أن أهله يفوقون أهل اليرموك طيبة وأصالة، لم تفسدهم الحداثة التي طالت مخيم اليرموك، ولا أنسى ما حييت تلك الحفاوة التي غمرني بها أوائل أصدقائي هناك (أحمد وناجي ومعتز وبسام ونايف.....)

الشيء الثاني الذي لا يختلف فيه المخيم وجود المُخبِر، وكان مُخبِر المخيم من بيت السعدي وقد حذّرني أصدقائي من خطورته وأذاه، صحيح أن الحزب الشيوعي الفلسطيني لم يكن محظوراً ولكنه ينشط دون تصريح، قلت لهم يومها: لدينا في اليرموك سبعون من هذا السعدي وهذا يتناسب مع عدد سكان اليرموك، فقد جرت عادة النظام على تقسيم سورية إلى قطاعات متناسبة مع قدرة المخبر على تغطيتها، هذا عدا عن المخبرين المتطوعين.

 كان هذا السعدي شخصاً قميئاً كريهاً يشبه مساعداً في أحد مطابخ الجيش العربي السوري، وفياً للنظام لدرجة أنه حتى عناصر القيادة العامة المعروفة بولائها للنظام كانوا يكرهونه، وكان يعمل لصالح فرع الأمن العسكري، وهو نموذج مصغر عن آلاف المخبرين الذين اعتمد عليهم النظام للهيمنة والقمع وجمع المعلومات والتدخل في كل صغيرة وكبيرة في كل بيت من بيوت السوريين.

 من المخيم خرجت إلى حمص المدينة، وبدأت علاقتي معها عن طريق جامعة البعث، في كلية الآداب، قسم اللغة العربية. لم يكن الاسم رديئاً فقط، كانت الكلية كلها رديئة أيضاً، صدمني بناؤها فهو في الحقيقة بناء مدرسة عادية لا يليق بجامعة ولا يقترب بشكل من الأشكال من هيئة الجامعة المفترضة، هذا في أواسط الثمانينيات بعد أكثر من ستة عشر عاماً من الحركة التصحيحية المجيدة (انقلاب حافظ الأسد 1970).

 في سورية كلها أربع جامعات فقط هي: (جامعة دمشق وجامعة حلب وجامعة تشرين في اللاذقية وجامعة البعث في حمص).

تجاوزت أمر شكل الجامعة وأحببتها، بالأحرى تعلقت بها، تعرفت فيها على إلهام.. نعم إلهام هذه الفاتنة التي ستخرجني من أزمتي العاطفية  لتلقي بي بعدها بأزمة أضيق منها وتتوالى الأزمات، هي فتاة مسيحية شقراء تشبه ممثلة سورية اسمها (إغراء)، والتي حضرتُ كل أفلامها عشرات المرات، ومازلت أذكر كل تفصيل فيها، وظلت تراودني في أحلام النوم واليقظة أيضاً..

 بالنسبة لإلهام  كنت الفلسطيني الأول الذي تراه شخصياً بهذا القرب، وأنا كنت راغباً بالاقتراب منها أكثر وأكثر، لا لشيء إلا لتتعرف علي أكثر فأكثر (صدقوني إن أردتم!!)، كنت أشعر أنها تريد اكتشافي كأنها تبحث عن برهان لفرضية ما في رأسها، وأنا كنت راغباً بمنحها كل فرص الاكتشاف وأفكر في الوقت ذاته بحجم الأذيّة التي سأسببها لها إن أنا اقتربت إلى الدرجة التي أرغب بها، رغبتي في لمسها لم تتوقف عند حد إلا ذلك الحد الذي وضعته هي (أنت مسلم وغريب) سببان كان علي أن أقتنع بأنهما كافيان لأغض النظر وأكبح رغباتي الجامحة، لم يكن الأمر يسيراً علي، وتحولت إلهام إلى حلم يراودني نائماً ومستيقظاً ليخلصني من حلم  (إغراء).

غبطني لأنه منحني ثقة كبيرة بقدرتي على أن أكون قاسماً مشتركاً وأنني كفلسطيني أُعتبَر فوق الطوائف، وينظر إلي على أنني حالة يمكن الثقة بها من الجميع، وآلمني لأنني شعرت أن الولاء للطائفة أعمق بكثير من الولاء لوطن جميل اسمه سورية متعدد الطوائف، ولنقل ملوناً بالطوائف

العائلة المسيحية الوحيدة التي كنت أعرفها سابقاً هي عائلة رفيقي في الحزب الشيوعي الفلسطيني (أبو القاسم) والحقيقة أنني لم أعرف الفرق واقعياً بين المسلم و المسيحي من خلالها، كان أبو القاسم مثلاً يحفظ من القرآن الكريم أكثر مما أحفظ، ويعيش مع عائلته بطريقة لا تختلف في شيء عن أية عائلة مسلمة في المخيم.. باختصار، كانت عائلة فلسطينية تشبه عائلتي في كل شيء إلا أن صلواتهم تختلف من حيث الشكل.. حتى لقبه أبو القاسم ليس اسماً حركياً، قاسم هو اسم ابنه الحقيقي، وقد حدث فعلاً أن إحدى بناته (نسرين) تزوجت من شاب مسلم (وائل)، ربما ليس بالسهولة نفسها التي يتزوج بها المسلم مسلمة، ولكنهما تزوجا فعلاً ومازالا يعيشان حياتهما الجميلة مع أولادهما.

في حمص كان أصدقائي من جميع الطوائف، السني والعلوي والمرشدي والإسماعيلي والمسيحي... 

حدث مرة أنني كنت جالساً مع صديقين تعرفت عليهما في الجامعة، أحدهما علوي والثاني كنت أظنه كذلك، لم يكن الأمر يعنيني أبداً، ما يعنيني أنني سعيد بعلاقتي معهما، كنا نتجاذب أطراف الحديث، وحدث أنني لموقف ما قلت لصديقي الذي كنت أظنه علوياً: (حِلْ عن ربي) هي كلمة اعتدنا على قولها في المخيم ولم يكن لها أي معنى من معاني الإساءة، استغربت أن صديقي هذا انتفض كأنني شتمته بأقذع الشتائم وثارت ثائرته لدرجة أنني ظننته سيضربني لا محالة، ولكنه لم يفعل واكتفى بخطبة عصماء حذرني فيها تحذيراً شديداً إذا أعدت ما قلته مرة ثانية، ثم انسحب غاضباً دون أن يسمع مني شيئاً، بقيت صامتاً مذهولاً أتساءل: ما الذي اقترفته بلساني؟ لِمَ كل هذا الغضب؟!  أخرجني صديقي العلوي (خضر) من صدمتي، و أخبرني بأن ذكر الرب أمامه بهذه الطريقة هو إساءة كبيرة، خصوصاً إذا كان بحضور علوي، يومها عرفت أن صديقي (موسى) كان مرشدياً، بل يومها عرفت أن هناك طائفة اسمها "المراشدة" نسبة إلى مؤسسها (سلمان المرشد) وهي في عداء خفي مع العلويين.

قلت لخضر: 

- سأتبعه إلى بيته. وطلبت منه مرافقتي.

 فقال لي مبتسماً:

- وجودي معك هو المشكلة... ونصحني بعدم الذهاب والانتظار إلى الغد.

قلت له:

- دُلَّني على بيته... لن أنتظر للغد.

استقبلني على مضض، شرحت له موقفي، وأننا نلغو بهذا الكلام وصارحته بأن لا علاقة لي بمشاكلكم، ولن أغير طبيعتي بسببها، لم يتطلب الأمر جهداً كبيراً ليقتنع ببراءتي، ولكنه أخبرني بأن يكون الأمر بيننا (يعني ألا يكون بحضور علوي) كان كلامه في الجامعة موجهاً لغيري ولكن عن طريقي.

يومها أدركت أن الأمر في العمق على غير ما يبدو من تسامح على السطح، وأدركت أن العلاقة الجيدة مع الفلسطيني لها علاقة باعتباره طرفاً فوق طائفي، وللحق فإن هذا الإدراك الأخير غبطني من جهة وآلمني من جهة أخرى: غبطني لأنه منحني ثقة كبيرة بقدرتي على أن أكون قاسماً مشتركاً وأنني كفلسطيني أُعتبَر فوق الطوائف، وينظر إلي على أنني حالة يمكن الثقة بها من الجميع، وآلمني لأنني شعرت أن الولاء للطائفة أعمق بكثير من الولاء لوطن جميل اسمه سورية متعدد الطوائف، ولنقل ملوناً بالطوائف، بدا لي الأمر يومها أن هذه الألوان مجرد قشرة إن حككناها فإن لوناً بالغ السواد سيظهر من تحتها. لون طائفي شديد القبح هو اللون الحقيقي، في الحقيقة لم يكن هذا تنوعاً طائفياً بل هو -بتعبير أدق- تجمُّعٌ طائفي.

حين رُفع شعار "الشعب السوري واحد" كان هذا تعبيراً عن الرغبة الشديدة بنسيان ما فرضه النظام بين الأب والابن من تمييز طائفي والبدء بمرحلة جديدة وصفحة جديدة يكتبها جميع السوريين على اختلاف طوائفهم، وكان نوعاً من نفي الواقع ومحاولة للدفاع عن الوحدة الوطنية التي نجح النظام في تمزيقها طوال عقود من حكمه، وهو يستثمرها الآن باللعب على أوتارها، وجنَّد لها الجنود المجنَّدة، حتى يخيل للمرء أن النظام الأسدي منذ يومه الأول كان يحضّر لهذه الساعة التي سيعلن فيها السوريون أنهم شبعوا استبداداً ولم يعودوا ليقبلوا أن يعاملوا على أنهم قطيع، الآن "الشعب يريد".