"الإلغاء الثقافي للفلسطينيين"

وحدة الثقافة في وجه الإلغاء والعمى الأخلاقي

2024-02-15 10:00:00

وحدة الثقافة في وجه الإلغاء والعمى الأخلاقي
Ameni Abida, Saved Fish (2021-2023). Ahmed and Nana saving their fish in Gaza. Ahmed Belal took the original photo

هذا التقارب بين الفاشية السياسية الإسرائيلية والسياسة العالمية يبدو اليوم متقارباً أكثر من أي وقت سابق، خاصة لدى الحكومات والوزراء الذين يدعمون الاحتلال، التي بدأت تهدد بشكل صريح وواضح لسياسة الإلغاء الحقوقي لكل منظمة غير منحازة لإسرائيل. 

الجملة ذاتها تتكرر أمامنا جميعاً "لن ننسى ولن نسامح" مهما بدت الجملة مكتوبة بيقين حتمي يواجه النسيان، إلا أنها تذكرني شخصياً بالفعل الفلسطيني الأول وهو الكلام، أن نحكي، لا لنثبت للعالم شيئاً أكثر من أننا جزءٌ من هذه الحكاية، وكوننا مثل جميع الشعوب التي تتعرض للمحو والإبادة نخاف أن نَنسى ونُنسى، لذلك نحكي، ندخل حلقات الكلام التي تعيدنا لرواية الحكاية من البداية. حتى صار الكلام دوائر لا تنتهي لشعب يواجه النسيان. 

منذ السابع من أكتوبر صار الاعتراف بصوتنا يعني أن نستعيد آخر وجوه اليقين بحكياتنا، كيف يصير التحدث معنا وعنا وحولنا كوننا شعباً يتعرض للإبادة، يشبه تماماً ما فعله خليل بطل الكاتب الياس خوري في روايته رواية "باب الشمس"، عندما جلس كامل الرواية ليحكي مع جسد يونس الهامد في غيبوبته، لم يحكي له لينام، ولم يسأله كي يصحو من سباته، بل تكلم كي لا يُنسى. 

لنكتشف في هذا الزمن الذي يشبه الهاوية، إن العالم يتبع سياسة قائمة على فراغ معياري لا يريد به الاعتراف بالجريمة، ولا يريد لمن يرى الجريمة ويتابع سياقاتها التاريخية والإنسانية والاجتماعية، الاعتراف بها، وعندما اكتشفت حكومات الاستعمار الكلاسيكي أنها غير قادرة على التحكم بالصورة التي تريد تصديرها لشعوبها عن الفلسطيني في الإعلام، قاموا باختزال العالم في جماعتهم، لِيُخرِج الشعب الفلسطيني من الزمن والتاريخ، ليكون محاصراً الآن في رفح جنوبي قطاع غزة بلا حقوق، مثل الإنسان البدائي الأول في كهفه الأول مقطوعاً من الضوء والماء والطعام مدركاً أن الوحوش آتية ولن ينقذه أحد، عقدة الاستخصاص هذه التي تتبعها السياسية الأميركية وبعض الحكومات الأوروبية لمواكبة اللايقين الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، زادت إيماننا بأن الرب الذي خلقته السياسية العالمية لن يكون للجميع، لأن تطبيق كل ما وصل إليه من حقوق وحرية وأفكار وديمقراطية لا يستند إلى حقيقة مشتركة، بل على عقدة الاستخصاص المركبة التي تحجب القيمة عن الشعب طالما يمكن طمس الجريمة من خلال الاختزال والحجب. 

ونحن نتابع ما يحدث الآن في سياق الحجب والإلغاء المتبع من الحكومات ومن الجامعات والجمعيات والمؤسسات الثقافية والحقوقية، ندرك أن كل ما تم إنتاجه من ثقافة وما يتبعها من علاقات سياسية وفنية، قائمة على تكريس العقاب وضبط العمى الأخلاقي والاستعداد لتبني ثقافة معادية للديمقراطية، أكثر من كونها جاهزة لخلق روابط ومساحات أعمق تأثيراً لاستيعاب الاختلاف وضمان مبدأ حرية التعبير بأقل تعريفاتها بساطةً، لتنتقل أعمق أفكار الثقافة من خطابات تقبل الاختلاف، إلى خطاب يكرس مبدأ العقاب والإلغاء، ليدرك أي مثقف أن التصدي للوضع الثقافي الراهن يتطلب شجاعة قد تخرجه من السياق الذي ينتمي إليه، في مرحلة "حتى ما قبل السابع من أكتوبر، بيد أن الشجاعة سمةً فقدها المثقفون، شجاعة الوضوح والجرأة والمواجهة، لنرى النسخة الحديثة من التخلي المفاجئ عن المسؤولية المشتركة تجاه، إبادة الشعب الفلسطيني في غزة اليوم، وخيانة الثقافة باللامبالاة والحاجب والتضليل إلى جوار سلطات القمع والمشاركين في الجريمة. 

مع استمرار الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، استعاد الفن دوره الأول كوسيلة للمواجهة، لننتمي دون قصد لشكوك تيودور أدورنو الدائمة بدوافع الدولة وهي تبدي اهتماماً خاصاً في الفنون، ليتم إفراغه من نظرته الثورية والنقدية، ويصير مبنياً على الترفيه، عندما يحب العالم أن يرى الفلسطيني وهو يسافر دول العالم لكي يرقص، متناسياً الاحتلال، ولكن غير مستعد لرؤيته وهو يقتل هذا التجريد الذي يفتت النظرة لجسد الفلسطيني فكرة وجوده ورؤيته للعالم ورؤية العالم له، ليتم مواجهتها اليوم من مئات المثقفين والفنانيين من حول العالم، بعد توقيعهم على عريضة تدعو إلى مقاطعة المؤسسات الثقافية الألمانية بتهمة قمعها صوت الفلسطينيين، من بينهم الكاتبة الفرنسية الفائزة بجائزة نوبل للآداب في 2022 آني إرنو، ولانا ناستاسيتش الروائية البوسنية والصربية الحائزة على العديد من الجوائز، ليعيدوا الثقافة بمفهومها الكامل نحو دورها الأول كونه وسيلة لقيادة التطور الاجتماعي نحو وضع إنساني عالم يرى ويكتب وينقد ويعترف بالآخر.

ذلك في مرحلة بات من الصعب إحصاء جميع حالات الإلغاء والحجب التي ترتكبها الرقابة الألمانية والعالمية للفنانيين والمثقفين من حول العالم، ليعلن المثقفون تنظيم أنفسهم، خاصة عندما يكون العنف المؤسسي يناط بممارسات غير واضحة، مثل الرسالة التي تم إرسالها للفنانة الفلسطينية سامية الحلبي، من جملتين من مدير المتحف جامعة إنديانا ديفيد برينمان، بإلغاء العرض رسمياً في بلومنغتون في ولاية إنديانا، دون تفسير واضح، أو التعرض للتعذيب من قبل اللوبي الإسرائيلي، كتعرض الكاتب ديزموند كول، إلى الهجوم من قبل أصدقاء "مركز أصدقاء سيمون ويزنتال في كندا" لأنه قال "فلسطين حرة". 

ما يؤكده الإلغاء والحجب اليوم، أن النظام المطلوب بناؤه للثقافة هو أن تكون بلون واحد بنظرتها للفلسطينيين، وأي نظرة تستعيد للفلسطيني إنسانيته تشكل تهديداً على صاحبها، لتتحول المؤسسات الثقافية والفنية اليوم إلى مكتب أمني ضخم يديره رجال أمن معدّون لتنفيذ الأوامر وعدم الإجابة على الأسئلة. لنشهد كيف تحول قانون "الولاء بالثقافة" الذي ناقشه الكنيست الإسرائيلي عام 2018، إلى سياسة عالمية اليوم، يضمن فيها الاحتلال استهدافه المباشر للنشاطات المناهضة لسياسة الاحتلال والتي تدين سياسات الإلغاء والهجمات الوحشية بحق الفلسطينيين. هذا التقارب بين الفاشية السياسية الإسرائيلية والسياسة العالمية يبدو اليوم متقارباً أكثر من أي وقت سابق، خاصة لدى الحكومات والوزراء الذين يدعمون الاحتلال، التي بدأت تهدد بشكل صريح وواضح لسياسة الإلغاء الحقوقي لكل منظمة غير منحازة لإسرائيل. 

قبل يومين صرحت الرئيسية السابقة لمجموعة الصداقة الفرنسية الإسرائيلية، والوزيرة الحالية للمساواة الجندرية والتنوّع وتكافؤ الفرص الفرنسيّة أورور بيرجيه ضمن مقابلة مع Radio J المتشدد بتأييده السياسية الصهيونية، عن نيتها جراء مسحٍ دقيق لجميع التصريحات الصادرة عن المنظّمات النسوية للتأكّد ما إذا كانت منحازة بالشكل المناسب لإسرائيل، كي وتثبت أنّها تستحقّ تمويل الحكومة الفرنسية. لنيّتها سحب التمويل الحكومي منها. 

تقول الصحفية والنسوية الفرنسية Ariane Lavrilleux/أريان لافريلو لـ "رمان الثقافية " إن التصريح ومضمونه مثير جداً للقلق، لأنه يطالب المنظمات النسوية بإعطاء نوع معين من التصريحات تجاه السابع من أكتوبر، في حين المؤسسات النسوية تعمل على موضوع الإجهاض وحقوق العمل والدخل المتساوي ومحاربة التمييز الجندري، وليس من مهمتها أن تقدم تصريحات خارجية، لذلك من المزعج جداً، أن تحاسب الدولة كل من لا يدين إسرائيل، خاصةً أن الحكومة لا يحق لها أن تطلب من المنظمات اتخاذ مواقف محددة، وهذا الأمر يتعارض مع حرية الاشتراك وفقاً لقانون 1901 الأساسي في فرنسا ويتعارض مع حرية التعبير التي يضمنها الدستور، لذلك أتمنى أن تعود الحكومة لحس المنطق وتحترم الدستور وإيقاف هجومها على المجتمع المدني، لأن هذا ليس أول هجوم فعلياً، لقد بدأت أرى في فرنسا ممارسات ديكتاتورية معينة تشبه التي رأيتها وعشتها في مصر من قبل المؤسسة العسكرية المصرية بين عامي 2013-2014 عندما كانت مهمات الحكومة المصرية تضييق مساحة المجتمع المدني، وهذا سيء جداً بولاية ديمقراطية. أخيراً أتمنى من المجتمع المدني أن يقوم بردة فعل بوجه محاولات الترهيب والمحاسبة التي يتعرض لها".

لم يعد يقتصر السؤال اليوم في هذه المرحلة الطويلة، على سؤال من يدير الأمور؟! ليكون السؤال أعمق حول معنى هذه الإدارة إذا لم تكن قادرة على تبني موقفاً أكثر إدراكاً للواقع ؟ وإلى أي حد سياسية العمى والمعاقبة وحجب الأصوات وإلغائها تعني أن الثقافة مازالت قادرة على المواجهة؟ يبدو أن ضمن جولة أولى فقط، وأن الثقافة والفنون وخطاب الحرية والحقوق سوف يخوض نضالاً طويلاً، حتى يستعيد صوته وقدرته على امتلاك رؤيته دون نظام المراقبة المفروض اليوم.