اشعروا بنا الآن وحوّلوا مشاعركم إلى فعلٍ فارق يمكننا أن نشعر معه بأخوة القضية وإلا فخذوا كلّ هذا المجد الذي تحسدوننا عليه وأعيدوا لنا حياتنا السخيفة قبل هذا "الهباء كامل التكوين".
نسمعُ عن قُرى وجُزر بدائية معزولة عن العالم، يقضي فيها الرّجال أوقاتَهم في البحثِ عن سُبل الحياة من صَيدٍ وجَمعٍ للحطب وتوفير ما يلزم من أساسيات العَيش. أما النساء فينهَضنَ من وجه الفجر يطحنّ القمح ويعجنّه ثم يخبزنه ثم ينشغلنَ بإعداد الفطور، فالغداء ثم العشاء. ويحلبنَ الغنم ويغسلنَ ملابس الأسرة حول الأنهار الملوثة ويكنسنَ المنزل ويركضنَ خلف الأطفال. ثم يمضي النهار ويدخلُ القومُ في الليل يتكاثرون بالتزاوج ليأتي أطفالٌ جدد كل يوم. ويكرر الأبناء الدورة الطبيعية لحياة أبائهم وتمضي الحياة هكذا لا أكثر ولا أقل.. لا أحد يعلم عنهم ولا يعلمون شيئًا عن العالم . اللهم إلا من فيلم وثائقي تعرضه القنوات الوثائقية التي لا يشاهدها إلا مثقّفو ليالي الشتاء الطويلة، ثم يذهبون من بعدها للنوم أو لأي فعل آخر.
انصرف العالم إلى أشيائه العادية، وانشغلنا نحن بأسلاك شبكة النت نعلق عليها كلامنا وأحلامنا آلامنا وصراخنا الذي لا يسمعه أحد. ننظف الأسلاك في كلّ صباح ونجدّد فعل الإرسال مرة أخرى. لا الشبكة اتّصلت ولا العالم سمع.
أسجل هذه الكلمات على الرّصيف أمام مدرسة صارت ملجأ. يركض الآن أمامي طفلٌ حافي القدمين على أرضٍ تجري عليها مياه الصرف الصحي. يتعلق الطفل بأذيال أمه شاردة الذهن وهي تدخل المدرسة بثوب الصلاة. نعم بثوب الصلاة. تسير نساؤنا في الشوراع بثوب الصلاة في هذا البرد، وهو يبكي ويتوسل إليها أن تشتري له كيس شيبس تضاعف سعره عشر مرات حتى أصبح أغلى من وجبة غداء قبل الحرب. تصرخ في وجهه : من وين أجيبلك حقه . ثم تصرخ أكث: من وين أجيب حقه يا الله من وين؟!
يبكي الصغير: بدي كيس شيبس بدي شيبس.
تمضي الأم تخبىء حسرتها، ويبكي الطفل من جديد: طب بدي شبشب.
هل سمع أحدكم بكاء الطفل وصراخ أمه؟ هل سمع أحد بكاء الآباء ليلا كمداً وحسرة؟ هل شعر أحد برجاء أب بأن يسافر بطفلته الجريحة ابنة الشهيدة أخت الشهيد قبل أن يسبق الموت كعادته إجراءات السفر؟ هل سمع أحد بكاء طفلة على أمّها وأبيها المفقودين تحت الأنقاض؟ هل سمع أحد بصرخة "لاااااا حسن ما مات" من أم على باب العناية المركزة رفضًا لخبر استشهاد طفلها الذي انتظرته خمسة عشر عامًا؟
هل وصل صوت معاناة الضحايا الّذين تطحنهم آلات الحرب الثقيلة! بالطبع لا . اللهم من قنوات فضائية تصنع ببطء شديدٍ أفلامًا وثائقية ستكون جاهزة بعد سنين ستنهش الحرب فيها مزيدًا من لحم الضحايا وتطحن عظامهم، قبل أن يشاهده مثقف الفيلم ثم يشعر بعدها بالملل أو الألم فينام.
اشعروا بنا الآن وحوّلوا مشاعركم إلى فعلٍ فارق يمكننا أن نشعر معه بأخوة القضية وإلا فخذوا كلّ هذا المجد الذي تحسدوننا عليه وأعيدوا لنا حياتنا السخيفة قبل هذا "الهباء كامل التكوين".
والسّلام عليك أيها الفلسطيني الوحيد للأبد وللأبد.
بين طفلين
(١)
ينام الطفل الإسرائيلي على سريره الدافئ مطمئناً إلى الضوء الأزرق الخافت في حجرته المستقلة، سعيداً بكرات الشيكولاتة وقطع البسكويت التي توفرها المساعدات الخارجية لأسرته، واثقاً أن بابا نويل لن يخلف وعده وأنه سيأتي ليلة رأس السنة وبعدها يحمل له الهدايا والحلويات.
في الصباح يتوجه لمدرسِته فيركب في باص مُلوَن و مُكيَف.
في قاعة الصف يكتب شرحاً بحِصَة الإنشاء والتعبير "العالم يحب إسرائيل شكراً للعالم الذي يستحق الحياة طالما أحب بلادي".
وفي حِصة الجغرافيا يرسم الكرة الأرضية ثم يضعها داخل قلب أزرق.
يصفق له الزملاء والمُدرسة الشقراء الأنيقة ،ثم يعود مسروراً لبيته يحدث أبويه عن مغامراته في المَدرسة.
تقبله أمه وتجلس و أبوه و أخته الصغيرة حول مائدة الطعام. يتابعون فيلم السهرة على شاشة عملاقة مثبتة إلى حائط في صالة البيت.
(٢)
الطفل الفلسطيني يتمدد في خيمة يفترش الأرض الباردة وقد لا يجد ما يلتحف به، فيلتصق بأمه ومن تبقى من إخوته أحياء بحثاً عن الدفء، تستفرد به أرتال الظلام وأسراب الخوف وتنهش لحمه أنياب البرد ومخالب الحرمان.
وكلما نجحت أمه في هدهدته أفشلت لها أصوات الانفجارات محاولاتها، فيفزع أطفالها تبرق خيمتهم بنيران القصف التي تسعى في السماء تحرق البيوت والأجساد و تلتهم فلول الأمان.
في الصباح ينهض يقاوم حبال النعاس التي تشده إلى الفراش فيسعى تحت المطر يرتجف برداً يبحث عن عيدان حطب صغير و قطع الكرتون يجمعها لتعد أمه وجبة الفطور.
يمر على مدرسته التي تحولت إلى مركز إيواء فيتذكر معلمته الشهيدة ويعد اسماء اصدقائه وزملائه الشهداء وعلى سبيل الوفاء يكتب أسماءهم جمعياً بقطعة فحم على مساحة فارغة في سور المدرسة الخارجي لم تنل منه بعد خيام النازحين.
في طريق عودته يتبادر لذهن الطفل سؤالاً لا يجد له جواباً: لماذا تخلى عنا العرب أوليس العرب أخوة؟
يطير السؤال ومرارة الإجابة مع ألسنة الدخان بينما تحاول أمه إشعال الحطب المُبلل الذي جمعه، فيضطر أن يجلس على ركبتيه لينفخ على الموقد بلا فائدة.
تتمتم أمه: ع الفاضي ياما.
يردد خلفها: ع الفاضي ع الفاضي هينا بنحاول.
-
اخواتك ماتوا من الجوع.
-
النا الله وبس ياما.