مطبخ أمي

2024-01-22 11:00:00

مطبخ أمي
Sliman Mansour, Orange Fields, 2014

تحب أمي صناعة الطعام وتحفظ أطباقنا المفضلة، وأطباق جميع أقاربنا وأصدقائنا، وتُعدُّها بتوازن نحاول فهمه، وصناعة مذاق يُحاكيه بلا فائدة ترجى. كنت أحاول إقناعها قبل الحرب بأن تلغي غدائنا الأسبوعي وأن يقتصر الأمر على الزيارة، لم أقتنع أنا بهدر هذا القدر الكبير من الوقت والجهد لإعداد الطعام،

تُذكّرنا أمي في الصباح وفي كُل حين بضرورة تقنين استخدام الماء، وأن نضع إناء في المغسلة لجمعه بعد التغسيل وتنظيف الأواني لاستخدامات أخرى. "احنا أحسن غيرنا" جملتها الأثيرة في الحرب. أخبرتُ أختي أنني قَصَصت شعري، تذرَّعت بقلة الماء والشامبو. كيف لي أن أعتني به في ظل كل ذلك! لكنني أعلم أن ذلك كله ليس سبباً. يُقال في الأمثال من يَرى مصائب الغَيْر تهونُ عليه مُصيبته، فكيف أرى مصائب الناس تتجسَّد بيني وبين كل شيئ. حتى سقف البيت يتراءى أمامي كل ليلة مشهداً من مشاهد الهدم، والبتر، والأجساد الرمادية. تُردد أمي من جديد؛ احنا أحسن من غيرنا، فجدتي لم تبخل علينا بالخالات اللاتي نزحنا نحن إليهن بالتتالي حتى وصلنا رفح، وبعدها لا أعلم هل سنكون حقاً "أحسن من غيرنا" أم سنكون لامسنا قاعاً ما لنكبتنا الجديدة.

لكن أمي بجملتها الأثيرة تلك، اختلفت تماماً بعد أن عَلٍمت أن بيتنا أيضا قد قُصف. لم تعد تتكلم كثيراً، واحتَّل وجهها سكون عميق، وإذا وجَّهنا لها حديث ما تجيب بشيء من النَزَق. حتى ذكّرَها يوماً طفلي بصفائح اللحم وعجين التي اعتادت أن تُعدها لنا بشكلها اللولبي. حاولتُ منعه من ذلك، لكنها أصرت أنها سوف تصنعها خلال الأيام المقبلة. حاولتُ أيضاً تذكيرها بأننا نعاني من شُح في الطَحين، والوقود، و في كل شيء، وأنني لا أحب أن أَعِدَ الأطفال بشيء لا أستطيعه، لكنها لم تستَجِب لمواعظي. وفي خلال يومين، بعد أن أوصت على اللحم بسعر تضاعف نتيجة فوضى الحرب وتجَّارها، أعدت العجين، وبدأنا بإعداد الصفائح لِخَبْزها، ثم قالت وهي تحدِّق باللاشيء: راح مطبخنا! قالتها بشيء من التساؤل والشرود، وانفجرت بالبكاء. لم أستطع مواساتها بكلمة واحدة، فأنا أيضاً على شفير الانهيار، تبددت الكلمات أمام دموعها ودموع خالاتي، فبكينا جميعاً في المطبخ، رغم أننا لم نبكي عند أول سماعنا للخبر، خبر قصف بيتنا، ثم بيت خالتي التي نزحت معنا، ثم خبر قصف بيت خالتي الثالثة، كأننا أدركنا لتوّنا أن تلك الأيام ذهبت إلى غير رجعة. 

تحب أمي صناعة الطعام وتحفظ أطباقنا المفضلة، وأطباق جميع أقاربنا وأصدقائنا، وتُعدُّها بتوازن نحاول فهمه، وصناعة مذاق يُحاكيه بلا فائدة ترجى. كنت أحاول إقناعها قبل الحرب بأن تلغي غدائنا الأسبوعي وأن يقتصر الأمر على الزيارة، لم أقتنع أنا بهدر هذا القدر الكبير من الوقت والجهد لإعداد الطعام، لكن محاولاتي كانت دوما تبوء بالفشل، مقابل توعُّدها بالغضب الالهي، فلم تقتنع أمي يوماً أن أخي كان يتبع نظام غذائي ويجب أن يمتنع عن مأكولاتها، وأنني أسرق من الوقت وقتًا للدراسة والعمل والعناية بالأطفال، ولا أستطيع إضافة المفتول، وكعك العيد، ولف الدوالي إلى كل ذلك، لكن كيف تلقانا بأطباق فارغة! هذه هي محنتها. 

اختلاط المشاعر في ظل ما نشهد من فواجع إنسانية، وما تعيد ترتيبه ظروف الحرب فتفرق بين عائلات وتجمع عائلات أخرى ببعضها في حالة نزوح مستمرة، يراكم ألماً جمعياً يُقطِّع أوصال العائلات تحت مطرقة الخوف، والقصف، والعوز. فأختي التي نزحنا إلى بيتها منذ أول أيام الحرب، ثم أخذناها ونزحنا جميعاً إلى وسط غزة، حيث الوجود الآمن كما يدعي جيش عدونا الأخلاقي، استطاعت وعائلتها الذهاب إلى مصر لامتلاكهم الجنسية، بعد أن تقاسمنا لفترة المكان، والطعام، والكثير من الحزن. كان وداعاً قاسيا علينا جميعاً، فلا نعلم متى نلتقي من جديد. أرسلت إليَّ بعد وصولها تُخبرني بأنها تشعر بالذنب، كأنما تركتنا نغرق وأبحرت في قارب النجاة الوحيد.

نحاول استهلاك أقل قدر ممكن من الطاقة الشمسية لمشاهدة الأخبار ليلاً، ظهرت حارتنا مرة في تقرير صحفي خلف المراسل، يمشي ويصف حجم الدمار، كنا نود لو ندخل داخل الشاشة، "لو تذهب الكاميرا من هنا أكثر!" رغم كل الهدم واختلاط معالم المكان شعرنا ببهجة لحظية لرؤيتها. حارتنا، التي تبعد عن مكان نزوحنا مسافة لا تتجاوز الساعة ونصف، تبعد الآن عنا مسافة أيام وأشهر، والكثير من المجازر والجثامين الملقاة على الطريق " الآمن". أحاول استحضار أي منطق للغة بايدن، ومجلس الأمن. ولا أفهم تعابير الانتصار والهزيمة في ظل كل هذا الفقد، أعلم أن جسد طفلي هو وطني. لكن موعدنا مع الاخبار، موعد مع أمل قد يخبرنا في أي لحظة أن قوة خارقة ستوقف الحرب وأننا سنعود، سنعود رغم كل الدمار والموت؛ وأن نستظل بما تبقى من حياة...