ويبدو أن العجز الإسكاني والانفجار السكاني، إضافة إلى محدودية المساحة والموارد، تساهم مجتمعة في مفاقمة مشكلات سكان قطاع غزة الذين يعانون إلى جانب ذلك مشاكل عديدة متصلة بتراجع البنية التحتية والخدمات، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وشح مصادر المياه وموارد الطاقة خصوصاً في ظل أزمة الوقود الخانقة والانقطاعات المستمرة للتيار الكهربائي،
لم تكد غزة تنفض غبار العدوان الذي شنته عليها إسرائيل في الشهر الخامس من العام الجاري، حتى استيقظت بعد نحو خمسة أشهر على حرب جديدة شعواء تستهدف كل ما هو فلسطيني، وتشكل امتداداً لسلسلة طويلة من الحصار والاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة –بدءاً بالحصار الشامل منذ تشرين الأول 2007 وعملية "الرصاص المصبوب" التي شنتها القوة الاستعمارية على القطاع نهاية العام 2008 ومطلع 2009، والتي أسفرت عن أكثر من 1430 شهيدا فلسطينيا، منهم أكثر من 400 طفل و240 امرأة، إضافة إلى أكثر من 5400 جريح، كما دمرت أكثر من 10 آلاف منزل دمارا كليا أو جزئيا، لتتوالى الحروب بعد ذلك تباعاً في الأعوام 2012، ثم في العام 2014، يليه عام 2019، ومن بعدها حرب عام 2021 وحرب عام 2022، ذلك قبل أن تشن إسرائيل في التاسع من أيار عام 2023 عدوانها الأول على قطاع غزة في هذا العام، والذي تلاه العدوان الأخير والأكثر همجية في سياق الأحداث والمنعطفات التاريخية الفلسطينية.
لقد جاء العدوان الأخير في ظل حصار مطبق يحول دون وصول الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية والطبية ويحول دون إعادة إعمار ما تم هدمه –بل إن بعض المباني السكنية التي تم إعادة إعمارها مؤخراً تم قصفها وتدميرها على رؤوس ساكنيها وإجبار من بقي منهم على قيد الحياة على النزوح ومغادرة مساكنهم. ولم تقف إسرائيل عند هذا الحد، بل تجاوزت ذلك واستخدمت تقييد ومنع دخول مواد البناء الضرورة لإعادة الإعمار إلى غزة لتكريس سياستها الرامية إلى تركيع الشعب الفلسطيني؛ ما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد بشكل جنوني في ظل الطلب المتزايد عليها لإعادة أعمار القطاع، بعد سلسلة الحروب التي دمرت آلاف المنازل الفلسطينية هناك؛ حيث كانت التقديرات تشير إلى وجود نقص بنحو 120 ألف وحدة سكنية، ذلك قبل العدوان الأخير على قطاع غزة، والذي كانت حصيلته التقديرية الأولية، حتى مطلع كانون الأول، أكثر من 16 ألف شهيد ونحو 47 ألف جريح ونحو 7 آلاف مفقود، معظمهم من الأطفال والنساء. كما دمرت إسرائيل وتسببت بأضرار مختلفة تتراوح بين الهدم الكلي والضرر الجزئي لنحو 305 ألف وحدة سكنية، أي ما يزيد عن 60% من مجمل الوحدات السكنية، ناهيك عن الأضرار التي لحقت بالعديد من المستشفيات والمقرات الحكومية والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس وغيرها من المباني التجارية والخدمية –ويفوق هذا الدمار ما تسببت به الاعتداءات السابقة مجتمعة ويعد تجسيداً لما يمكن وصفه بنكبة الفلسطينيين وتغريبتهم الثانية وتكراراً لدمار هائل وخراب مهيب.
وفي ضوء التقديرات السابقة المتعلقة بوجود نقص واضح في عدد الواحدات السكنية قطاع غزة -لا سيما وأن العديد من الوحدات السكنية القائمة والمأهولة في قطاع غزة تفتقر إلى المتطلبات الدنيا لما يمكن أن يصنف باعتباره سكناً كريماً ولائقاً ولا تكفي لتلبية واستيعاب الاحتياجات السكنية لأهالي قطاع غزة- وبملاحظة حجم الدمار والوقت الطويل المطلوب لإعادة إعماره وما قد يترافق مع ذلك من احتياجات سكنية تطرأ بحكم الزيادة الطبيعية لسكان القطاع والتي تقدر بنحو 14 ألف وحدة سكنية سنوياً، فإنه يظهر جلياً وجود عجز كبير في عدد الوحدات السكنية التي باتت مطلوبة لتلبية الحاجة السكنية في قطاع غزة، ناهيك عن الحاجة الماسة والطارئة لإيواء عدد كبير من النازحين الذي فقدوا مساكنهم جراء تضررها والذين يقيمون لدى أقربائهم ومعارفهم أو في خيام أو في منشآت صحية أو تعليمية وأخرى أممية، وذلك من أصل نحو 1.9مليون نازح غادروا منازلهم إلى مناطق يروج لها أو يعتقد أنها أكثر أمنا أو أقل خطورة داخل قطاع غزة الذي استباحته إسرائيل بالكامل.
ومما لا شك فيه أن هذا الأمر يحيل إلى أزمة سكن حادة ومتفاقمة تضاف إلى تلك الحاجة التي كرسها الحصار والاعتداءات الإسرائيلية منذ العام 2007. وتبرز خطورة الوضع الراهن والمستقبلي في العجز المتراكم من الوحدات السكنية والخدمات والمرافق والمتطلبات الأساسية لرفع وتحسين جودة الحياة. ولا شك والحال كذلك -خصوصاً في ظل الواقع الحالي وما يتصل به من قيود متعلقة بتخطيط الحيز- أن النمو السكاني والعمراني في قطاع غزة لم يصاحبه تخطيط مماثل وموازٍ، كما يفتقر إلى وجود خطط تنموية شاملة لسد الفجوة من الاحتياجات المختلفة للسكان، مما أدى إلى وجود تداعيات سلبية على البيئة الحضرية وشكل أبعاداً خطيرة على مستقبل السكان. ولعل من أبرز محددات التخطيط للأوضاع الراهنة والمستقبلية في قطاع غزة هو الاحتلال الإسرائيلي وحالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة، الأمر الذي يؤدي إلى إفشال عملية التنمية ويقوض ركائزها، كما يشكل استشرافاً واضحاً لاحتمالية تفاقم الكارثة الإنسانية في ظل ضعف وتراجع الإمكانات المتوفرة لدى سكان القطاع.
وإذ يعد قطاع الإسكان أحد أكثر القطاعات تأثراً بالأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية التي سادت الأراضي الفلسطينية طيلة السنوات التي تلت العام 1967؛ فقد عمدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى إتباع سياسة تضييق مقصودة على الأفراد والمؤسسات الفلسطينية، وحدت من تطلعات الفلسطينيين ورغبتهم وإمكانياتهم لتأمين مساكن ملائمة لهم كحق أصيل من حقوقهم الأساسية التي كفلتها المواثيق الدولية؛ فهناك القيود على استخدامات الأراضي، وتعقيدات الحصول على التراخيص اللازمة للبناء، والحد من إنشاء وتطور المؤسسات وجمعيات الإسكان والاعتداءات المستمرة وتدمير الوحدات السكنية في مشاهد متكررة يتخللها استهداف واضح لمساكن المواطنين وتجريف لشبكات الطرق والصرف الصحي والمرافق والمباني العامة وتجسيد واضح لسياسة هدم المنازل الفلسطينية التي تشكل منهجية إسرائيلية قائمة منذ نشأة دولة الاحتلال عام 1948.
ويبدو أن العجز الإسكاني والانفجار السكاني، إضافة إلى محدودية المساحة والموارد، تساهم مجتمعة في مفاقمة مشكلات سكان قطاع غزة الذين يعانون إلى جانب ذلك مشاكل عديدة متصلة بتراجع البنية التحتية والخدمات، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وشح مصادر المياه وموارد الطاقة خصوصاً في ظل أزمة الوقود الخانقة والانقطاعات المستمرة للتيار الكهربائي، الأمر الذي دفع العديدين للبحث عن مصادر بديلة للكهرباء سواء من خلال ألواح الطاقة الشمسية أو تشغيل المولدات الكهربائية، وهو ما يلقي أعباء إضافية على كاهل المواطن الذي يعيش في سياق من الهشاشة والانكشاف المرتبط بضعف الإمكانات وانخفاض النمو الاقتصادي خصوصاً في ظل حالة عدم اليقين والجمود السياسي ناهيك عن الإجراءات والقيود والمعيقات الإسرائيلية والحصار المتواصل.
ومما لا شك فيه أن استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وما يرتبط بذلك من تقييدات على حرية الحركة والعبور من القطاع وإليه، إضافة إلى الكثافة السكانية العالية، التي تصنف ضمن الأعلى عالمياً، وارتفاع معدلات نمو السكان التي تضغط على قدرة المنطقة على استيعاب ساكنيها وتحول دون إمكانية مواكبة الموارد الطبيعية والبنى التحتية الأساسية والخدمات الاجتماعية لاحتياجات الأعداد المتنامية للسكان، ينذر بضغط كبير على قطاع الإسكان والتشييد حيث بات الوضع يدفع نحو ضرورة تلبية حاجات إسكانية جديدة نشأت في ظل الظروف والمتغيرات الراهنة، ويحتم وضع خطط لإدارة الكارثة والتعامل معها بما يكفل تلبية احتياجات السكان. ورغم ضبابية المشهد وصعوبة التنبؤ بموعد انتهاء الهجمة الشرسة وبما ستؤول إليه الأمور بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، إلا أن ما سبق لا يمنع من إخضاع التخطيط لنوع من العقلانية قدر المستطاع ووضع الحلول والخطط لمواجهة مخرجات هذه المشكلة التي تعتبر أحد أكبر معيقات التنمية المجتمعية والمحلية.