يعني بوضوح، ودون مواربة، هناك "ظروف إنسانية عالمية"، وقيم ومبادئ يتشارك فيها كل البشر، فالبشرية في صيغتها الحديثة، والإنسانية "المتطورة بسبب استمدادها قيمها من الرجل الغربي الأبيض"، رأت أن المعاناة اليهودية في أوروبا "ظرف إنساني عالمي"، قدمه يتسحاق باشيفس سينغر لهم في رواية "شوشا"،
1
على بعد 40 كم شمال شرق العاصمة البولندية وارسو، وفي قرية ليونسين الفقيرة، وُلِد في 1902 الكاتب الأميركي من أصول بولندية يتسحاق باشيفس سينغر، الذي اشتهر بالكتابة باللغة الييديشية، وكانت رواية "شوشا" هي أشهر أعماله على الإطلاق.
يتسحاق سينغر كاتب يهودي، وانتقل إلى الولايات المتحدة في 1935، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بأربع سنوات، ومع ذلك، استطاع في روايته "شوشا" (1974) أن يجسد لحظات خوف يهود بولندا من الاجتياح النازي، ثم لحظات الرعب التي واكبت هذا الغزو الألماني، وما أعقبه من عمليات قتل وتعذيب وإبادة بحق يهود أوروبا وبولندا. وربما تكون "شوشا" هي النص المركزي في إجمالي إنتاج سينغر، والتي بفضلها في المقام الأول، حصل في 1978 على جائزة نوبل.
تحكي الرواية أحوال المجتمع اليهودي في بولندا، عن طريق الراوي الطفل "تسوتسيك"، وعالمه المكون من أب متشدد دينيا وأم مكافحة، ثم بعض الجيران وعلى رأسهم الطفلة شوشا، التي ستصبح لاحقا حبيبة تسوتسيك.
بشكل كرونولوجي تصاعدي نرى تسوتسيك يكبر، ويتفتح وعيه، ويدرك الأوضاع في بلاده، ونرى كيف وقع في حب شوشا، محدودة الذكاء، والمريضة، وزواجهما. مرورا بعلاقات متشعبة مع شخصيات أخرى أغلبهم من اليهود البولنديين، الذين سيبدأون في التساقط واحدا وراء واحد، إما بالموت أو بالهروب بعيدا عن مسرح العنف ضد يهود أوروبا والذي تركز في بولندا حاضنة أشهر معسكرات الاعتقال مثل أوشفيتز وتريبلينكا.
إنها معاناة إنسانية حقيقية، ينقلها سينغر ببراعة، عبر 490 صفحة (الترجمة العربية من إصدار سلسلة الجوائز في مصر وترجمة سمير أبو الفتوح)، إذ يستطيع القارئ أن يشم من سطور الرواية رائحة الدم والرصاص والبارود واللحم المحروق. يموت أخو تسوتسيك وأبوه وأمه، وزوجته شوشا، وأبوها وأمها، وبعض الأصدقاء والأخوة، يمكننا وضع لائحة مطولة بأسماء القتلى الذين أعدمتهم النازية، على مدار 420 صفحة في الرواية من أصل 490.
لكن، ما الذي يقوله سينغر في الـ 70 صفحة المتبقية من شوشا؟
2
يقول الكاتب والمنظر الفرنسي جان ريكاردو (1932 – 2016)، "الحذف هو نوع من القفز على فترات زمنية والسكوت على وقائعها، إنها حالة من التنقل من فصل إلى فصل حيث تحدث فجوة في القصة".
ويقول الناقد المغربي حسن البحراوي: "القطع هو جزء من القصة مسكوت عنه كليا، وتتم الإشارة إليه فقط بعبارات زمنية تدل على مواضع الفراغ الحكائي من قبل (ومرت بضعة أسابيع) أو (مضت السنين)".
3
"مضى ثلاثة عشر عاما، وفي نيويورك ادخرت ألفي دولار من أجري بالجريدي الييديشية، وكذلك تلقيت 500 دولار مقدما عن رواية ستترجم إلى الإنجليزية، وقد قمت برحلات إلى لندن وباريس وإسرائيل (...) وفي مارسيليا ركبت سفينة متجهة إلى حيفا توقفت في جنوا، وكان غناء المسافرين حديثي السن يدوي طوال الليالي، الأغاني القديمة المألوفة، بالإضافة إلى الأغاني الجديدة التي انبثقت من الحرب مع العرب بين عامي 1948 و1951" صـ429.
فجأة، وبعد صفحات طويلة من المعاناة والقتل والعذاب، يستخدم يتسحاق باشيفس سينغر تقنية "القطع Cut" أو "الحذف" في السرد، ويقفز 13 عاما، من آخر نقطة رأيناه فيها هناك في بولندا، ليظهر بعد ذلك بسنوات ككاتب بولندي مهاجر إلى أميركا، كاتب مرموق ويكتب بالييديشية (لغة يهود شرق أوروبا) عمودا أسبوعيا في صحيفة "إلى الأمام" الأميركية الموجهة لليهود القادمين من أوروبا إلى أميركا، ويتحول خلال سنوات إلى كاتب مرموق يحظى بالمكانة والاحترام.
كان لابد لتسوتسيك أن ينجو ليحكي لنا ما صار، لقد هرب إلى أميركا، ترك وراءه ماضِ متفحم ومدمى، وبعدما صار كاتبا يشار إليه بالبنان، قرر تسوتسيك أن يقوم بزيارة إلى الأرض الجديدة التي تجمع بها اليهود في شرق المتوسط، أي إلى فلسطين المحتلة.
إنها خدعة، عملية توظيف لتقنية السرد لصالح الخسة، لصالح الاحتلال، لصالح القتل، لقد مات سينغر في 1991، أي أنه عاصر دولة الكيان منذ اللحظة التأسيسية ولمدة 43 عاما، غير أنه لم يأتِ في روايته من قريب أو بعيد على الأمة التي جرى احتلالها، الأمة التي ترفض أن تكون مكافأة لليهود نظير ما تعرضوا له في أوروبا، واختار أن يتعامل مع الفلسطينيين بمنطق "المسكوت عنه"، و"القطع" و "الحذف".
يستقبل اليهود المهاجرون من أوروبا إلى فلسطين، والذين باتوا يعرفون باسم "الإسرائيليين"، يستقبلون كاتبهم الييديشي الشهير تسوتسيك، يقبلون على لقائه، وأحد أولئك الذين احتشدوا حول تسوتسيك كان صديق الماضي والطفولة "هايمل"، وفي شرفة فندق مطل على شاطئ حيفا يقول هايمل لتسوتسيك: "طيب، أرض يهودية وبحر يهودي، من كان ليصدق هذا قبل عشر سنوات؟ إنها فكرة فاقت حد الجسارة، فقد كانت أحلامنا تتركز حول كسرة خبز أو طبق برغل أو قميص نظيف، من كان يحسب أن غير اليهود سيصوتون إلى جانب الأمة يهودية؟ ولكن آلام الولادة مازالت بعيدة من ناحية أخرى، فالعرب لا يريدون عقد معاهدة صلح معنا.." صـ433.
هكذا، وعلى هذا النحو البسيط إلى درجة العادية، تجاهل يتسحاق باشيفس سينغر، أن شعبا كاملا، كان يعيش هناك في فلسطين منذ آلاف السنين، وكأنما قام الكاتب البولندي بتطبيق فني للمقولة الصهيونية الكاذبة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" التي روّج لها زعماء الصهيونية تيودور هرتزل وإسرائيل زانجويل فاعتبر أن الفلسطينيين مجرد "فجوة في السرد لا داع لتوثيقها أو الالتفات لها. هكذا بجرة قلم، وباستخدام بياضات الصفحة، أو بالقفز فوق الصفحة البيضاء - والتي كان يجب أن تُحبّر بالحقائق الموجودة على الأرض – اختار سينغر أن يتعامى عن الحق، فقط لأنه ينتمي دينيا لتلك المجموعة التي احتلت البلاد بقوة السلاح وبالحيلة، اجتاحوها كالقراض في فراء كائن حي.
ثم جاءت لجنة جائزة نوبل، لتمنح في 1978، الجائزة ليتسحاق باشيفس سينغر، وتبرر حصوله على الجائزة بسبب "فنه السردي الحماسي الذي، بجذوره في التقاليد الثقافية البولندية اليهودية، يعيد الحياة إلى الظروف الإنسانية العالمية".
يعني بوضوح، ودون مواربة، هناك "ظروف إنسانية عالمية"، وقيم ومبادئ يتشارك فيها كل البشر، فالبشرية في صيغتها الحديثة، والإنسانية "المتطورة بسبب استمدادها قيمها من الرجل الغربي الأبيض"، رأت أن المعاناة اليهودية في أوروبا "ظرف إنساني عالمي"، قدمه يتسحاق باشيفس سينغر لهم في رواية "شوشا"، وهو بطبيعة الحال "ظرف إنساني عالمي" يختلف عن "الظرف الإنساني" القائم في فلسطين منذ 1948 والمتجلي الآن في غزة التي فقدت 16 ألف شهيد أكثر من ثلثيهم من الأطفال والنساء، ارتقوا جراء القصف الإسرائيلي المستمر على القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، ليسوا بالأمر الكبير بالنسبة لهذا السيد الأبيض الذي يصنع البارود ويوزّع الجوائز، فهم، ووفقا للنوبلي يتسحاق باشيفس سينغر ليسوا سوى "قطع في السرد"، وأرقام يمكن القفز عليها باستخدام بعض التقنيات الروائية.