في ذاكرة والدي الشقيّة والتي كانت قد تجازوت الثمانين عاماً، ومثل بدويٍ أصيل ترتبط رؤياه بالجغرافيا وبقسوة المعيش تجد ثلاثة أمكنة، للغربة والنخوة والثورة: قضاء صفد ومخيم العودة ومخيم اليرموك.
لم يُرَد لي أن أكون مثل والدي بدوياً أصيلاً فحملت من الذاكرة نصفها و تعثّر النصف الآخر بسياسة الأنظمة القمعية لأنظمة ما يسمى دول الطوق. عشت اللجوء في اليرموك، وفي حواريه وأزقته تعلمت الحفاظ على ذاكرة المكان الأولى، وكأيّ دمشقي لا يعلم عن أجزاء باقي الوطن سوى ما أراد النظام خلال الأعوام الثلاثين أن يتعلّمه. كأيّ دمشقي كان يعتقد أن درعا فقط هي الراحة الدرعاوية وإدلب مجموعة "لوطيين" كتب على بوابة مدينتهم أهلاً بكم و بأولادكم. كأيّ دمشقي لا يعلم عن الحسكة سوى أنهم عتّالون يترزقون تحت جسر الميدان أو عند مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك، كنت أنا أو كنّا..؟ لا نعلم عن باقي المخيمات سوى ما أراده النظام والفصائل الموالية له.
مخيم النيرب أهله لا يطاقون ومخيم حمص طيبون وسذّج وأهل مخيم دنون وجرمانا درجة خمسون بسلّم الإنسانية أو أنهم خزان الثورة في إشارة إلى أن أهل هذه المخيمات للموت فقط، وأهل الرمل بسيطون ولا يفقهون في شيئ، ومخيم العودة بدو رحل لا انتماء لهم؟ حقيقةً لم أعلم أنّ هذه التسمية الأصلية هي الأولى لمخيم خان الشيح إلا في نهاية التسعينيات عندما التقيت والدي بعد سنوات طويلة في لبنان وسألته السؤال المعتاد لأيّ شخص طاعنٍ بالسن كنّا نقابله. كيف خرجتم من فلسطين؟ كانت المحطة الأولى مخيم العودة في سورية بعد خروجنا من النويرية، هكذا بدأ إجابته و كأن لهذا المكان وقع أنثى وهو المحب للإناث. قاطعته.. أين يقع مخيم العودة وأنا العارف ــ هذا ما كنت أعتقده ــ بتفاصيل المخيمات الأخرى ومواقعها.
ابن المخيم الذي لم يبتعد أكثر من 60 كم عن حدود قلبه الجنوبية لا يزال ينتظر ولكن هذه المرّة ليس العودة إلى فلسطين بل ينتظر أن يتوقف العالم المتمدن الذي يدّعي التحضر عن الصمت.. أن يصرخ بوجه القتلة، أوقفوا براميل الموت.. أوقفوا قتل محطتنا الأخيرة للابتعاد.. للمنفى.
في نواحي سعسع، هكذا أجاب والدي، وبطريقة الابن المناكف والذي وجد ضالته ليثبت لوالده خطأه قلت له بتهمكم: يابا مافيش مخيم اسمو العودة جنب سعسع. ودون تردد صرخ بوجهي العبارة التي كنت أسمعها في كلّ مرة أذهب فيها إلى مخيم سبينة لأزور أقاربي من عشيرة الكديرية. لك يا ابن الفلاحة بدك تعلمني الجغرافيا "هذه تسمية تطلق على الأولاد الذين تزوج أباؤهم البدو من إمرأة فلاحة أو من أهل المدن". صمت والدي قليلاً بعد ذلك كأن الذاكرة تعود به 50 عاماً إلى تلك اللحظة التي شعر بها بالأمان بعد أن تجاوز حدود فلسطين. كان مخيم خان الشيح المكان الوحيد الذي أشعرني أن إمكانية العودة إلى صفد ممكنة. لا أعلم أين رحل قلب والدي في هذه اللحظة التي قال فيها هذه الجملة، ولكنه تابع كلامه عن مخيم اليرموك فأعادني إلى تلك العصبوية المناطقية التي خلقها النظام. يابا لمّا قالولنا في مخيم ثاني بعيد 30 كيلو عن مخيم العودة حسيت إنو انضحك علينا وما عاد نرجع.
مخيم خان الشيح أو كما كان يسمى قبل الستينيات "مخيم العودة" أو كما يسميه والدي مخيم النخوة يدمّر ويقصف كما بقية الأمكنة التي تُدمر في سورية، والأرصفة العائمة بالدماء سوف تسلب ابن البدوي جغرافيا طريق العودة إلى بيارات البرتقال. ابن المخيم الذي لم يبتعد أكثر من 60 كم عن حدود قلبه الجنوبية لا يزال ينتظر ولكن هذه المرّة ليس العودة إلى فلسطين بل ينتظر أن يتوقف العالم المتمدن الذي يدّعي التحضر عن الصمت.. أن يصرخ بوجه القتلة، أوقفوا براميل الموت.. أوقفوا قتل محطتنا الأخيرة للابتعاد.. للمنفى.