قرر فوزي أن يزور مدينته، وهذه المرة ليس كمتسللاً. كان يحمل فقط بطاقة كصحفي وبطاقة أخرى من الصليب الأحمر. وفي الطريق الى القدس الى الرملة وعند إحدى نقاط لتفتيش الإسرائيلية قبض عليه وأودع في سجن الرملة الذي بقي فيه لمدة أسبوع ليصار بعدها إلى ترحيله الى عمان.
توقف قلب فوزي في الأول من شباط عام 2014 وهذا تاريخ آخر لسقوط مدينة الرملة. فالرملة تسقط كلما يسقط أحد أبنائها! قابلت فوزي في الثلاثين من آذار عام 2005 في بيته الكائن في الصويفية في مدينة عمان من أجل تسجيل شهادته حول النكبة التي مزقت المجتمعات الفلسطينية ورمتهم في المجهول. جلس فوزي، الصحفي المرموق، من أجل الإجابة على الأسئلة، على عكس ما اعتاد عليه أيّ صحفي. لم يُدرك كلانا أنّ المقابلة ستطول وتمتد الى ست ساعات. كنّا في مشروع التاريخ الشفوي التابع للمنصة الإلكترونية فلسطين في الذاكرة (palestineremember.com) قد أعددنا ما يقارب الثلاثين صفحة من الأسئلة نستخدمها كأساس للمواضيع التي ستغطيها المقابلات مع اللاجئين عدا عن مئات الأسئلة الاستدراكية التي توجه على من يتم اختياره بموجب منهاجية دقيقة.
ولد فوزي في مدينة الرملة التي وصفها كل من عاش بها أنها منبسطة مثل كف اليد. وبعد التمهيد والتعريف عن النفس بدى لي فوزي وهو يتحدث عن مدينته وكأنه ينزل عليها برفق من السّماء: ذكر الشوارع والعائلات والمدارس وأصدقاء الطفولة وصيد الطيور في القرى المجاورة والقراءات الأولى من الكتب المستعارة من المدرسة الأميرية. كان مستمتعا بالحديث عن أسماء الضواحي المتعددة في المدينة والتي يطلق عليها "سَكَنَة" مثل: سكنة الخيري و المحص وزبانة وفانوس والمقلبين والكافوري وسكنة الجمل التي ولد فيها، وحي النصارى والنبي صالح في إشارة إلى المنطقة المجاورة للمسجد الأبيض التي تحوي مقام النبي صالح، وغيرها. أتذكر كيف كانت تبرق عينيه وهو يسرد أسماء هذه السكنات والضواحي وكأنه يعدد أسماء أبنائه.
أنجبته أمّه مؤمنة محمود البسومي في التاسع من أيلول عام 1936، والده هو عبد الرزاق محمد ابراهيم البسومي. ويتذكر فوزي كيف كانت تأخذه أمه وهو صغير إلى الحمام التركي في المدينة. وضحكت وقتها في سرّي لأني تذكرت كيف أني، مثله، ذهبت مرة برفقة أمي الى الحمام التركي، المشهور "بحمام النصر" في قلب مدينة عمان؛ وثار خلاف على باب الحمام حول ما إذا كان عمري يسمح بدخولي أثناء الوقت المخصص للنساء.
كان فوزي يصلي في طفولته في مسجد المغاربة القريب من منزله الكائن في أول شارع مدرسة البنات. كان إمام المسجد صالح الشريف، العالم الأزهري الضرير. وعلى يدي هذا العالم تعلم فوزي حفظ القرآن الكريم. وكان فوزي محباً للمدرسة الأميرية التي دَرَس بها حتى الصف الخامس الابتدائي. ويتذكر مكتبتها وقاعة عرض الأفلام، وخاصة الأفلام ذات البعد الدعائي العسكري التي تظهر الحلفاء في صراعهم مع دول المحور إبّان الحرب العالمية الثانية. ويذكر بفخر معرفته ببعض أبناء مدينته الطلاب أمثال خليل الوزير، أحد أبرز قادة الثورة الفلسطينية، ويذكر كذلك غالب توأم جهاد اللذان كان والدهما يدير حمّاما في الرملة يسمى حمّام الوزير.
لن يكون الحديث مكتملا مع أحد أبناء الرملة دون ذكر السوق التجاري وكيف يتحول كل يوم أربعاء الى ملتقى تجاري نابض بالحياة عندما يحضر أبناء القرى المجاورة الذين كان فوزي يحب أن يقول باحترام شديد: إخواننا الفلاحين. كانوا يحضرون ما تنتجه قراهم من سلع لبيعها في السوق. ومن هذه القرى: يٍبنَة، العباسية، صرفند، عنّابة، سلمة، النعاني، السافرية، بيت دجن، وقرى أخرى. وعندما كان يفرغ الفلاحين من بيع منتجاتهم من خيار وفقوس ولبن وبيض وعنب وتين وتوت ومنتجات أخرى، يقومون بشراء الاقمشة والملابس وما تيسر من تجار المدينة بما جَنوه من نقود، لتكتمل بذلك حلقة اقتصادية أساسية في المجتمع الفلسطيني.
ولم ينس فوزي أن يذكر مقهى البلّور، ملتقى رجال السياسة والثقافة، حيث كانت تُعقد الجلسات عندما يحين موسم الانتخابات البلدية. وكذلك مقهى أسعد حصوة ملتقى تجار المدينة. وكذلك مقهى رياض ومقهى الشنّاوي الذي كان يتحول في المساء إلى مسرح العرائس-الدُمى- وخاصة في شهر رمضان. كان ارتياد المقاهي بالنسبة للشيوخ سلوكاً مقبولاً حيث يلعب مرتادو المقاهي الشطرنج والدومينو. وذكر أماكن الحلاقة ومحلات التصوير وخص بالذكر استوديو فلوطي، وبعد النكبة أصبح صاحبه المسيحي الرملاوي البير فلوطي مُصوّرا في القصر الملكي الهاشمي. ولم يَفُته أن يَذكر سينما الأندلس الصيفية في حي المقلبين التي كان يملكها آل الخيري. وكانت السينما تعرض أيضا مسرحيات وفيها عرضت مسرحية نجيب الريحاني "خروج الحمّام مش زي دخوله".
وعرّج فوزي على مطاعم الرملة التي كانت أغلبها لعمل المشاوي. فالمطعم جزء منه ملحمة والآخر لعمل المشاوي. وذكر فرن دحروج في حارة النصارى وفرن بَرجوس في أول شارع البنات وفرن آخر في حي المحص يملكها الحاج علي وأفران كثيرة أخرى. ويتذكر كيف كان يحمل عجين والدته وعجين عدوية العلمي التي أصبحت بعد النكبة تحمل لقب دكتورة وتعمل في الأنروا. ولم ينس أن يذكر أنّ جزءا من أهالي الرملة كانوا يزورون المتنزّه لتمضية أوقاتهم بينما الآخرون كانوا يفضلون قضاء أوقاتهم خارج المدينة في مكان جميل يسمى الجرن، وهو تل يطل على معسكر الطيران البريطاني والمقبرة الغربية. وعن الحياة الثقافية يتذكر فوزي البسّومي كيف أن النادي الرياضي الإسلامي نظم ندوة استضاف بها عباس محمود العقاد عام 1947 ليتحدث عن عبقرية عمر-الخليفة الإسلامي- ومحاضرات أخرى القاها حسن البنا، وطلعت باشا رئيس جمعية الشبان المسلمين.
وتحدث فوزي بفخر عن يعقوب الغصين مناضلاً ورئيسا لفرع حزب الاستقلال في الرملة ورئيسا للبلدية عام 1947 ليتوفاه الله بعدئذ ثم يخلفه بالوكالة محمود علاء الدين من بعد. وذكر بفخر إسماعيل النحاس كأحد المفاوضين على تسليمها سِلما حتى لا يراق دم اهل المدينة؛ وكان ممثلا لمن بقي في الرملة إلى أن غادرها في العام 1960 بسبب خلافه المتواصل مع السلطات الإسرائيلية في تعاملها مع الرملاويين. وأما الشيخ مصطفى الخيري فهو الرئيس المخضرم للبلدية وتربع على رئاستها أكثر الثلاثين عاما.
سقوط المدينة
عندما حان موعد رحيل القوات البريطانية في 15 أيار عام 1948 أبلغ الأستاذ إبراهيم أنشاصي، مدير مدرسة فوزي، الطلاب بأن اليوم هو آخر يوم للدراسة؛ وبعد انفضاض الطلاب الى بيوتهم ذهب فوزي وتجول في الغرف الصفية وكأن إحساسه يقول أنه لن يكون هنالك مدرسة بعد اليوم. بكى المدرسون وبكى الطلاب متأثرين. كان الصمت يخيم على المدينة. إذاعة الشرق الأدنى تحول اسمها الى إذاعة إسرائيل وأعلن بن غوريون قيام دولة إسرائيل.
عندما سقطت يافا في أيار لجأ بعض أهلها الى الرملة. وفي شهر تموز حوصرت المدينة وقطع عنها الماء. وفي أحد الأيام نودي على السكان من النساء والأطفال بالتوجه إلى المسجد الكبير فدخلته مع والدتي. أما والدي فكان من ضمن الرجال الذين تم اعتقالهم مع آخرين. وبسبب كِبَر عُمر والدي فقد أطلق سراحه وأبقت القوات الإسرائيلية الشباب رهن الاعتقال. وجاءنا ونحن في المسجد خبر يفيد أن اليهود دخلوا أحياء المدينة وتردد أنهم كانوا يضعون الملابس العربية. كان الاعتقاد السائد بيننا أنّنا سنقضي ليلة واحدة ومن ثم نعود أدراجنا إلى بيوتنا. كان الخوف فقط على الشبان والرجال الكبار. لم أكن أدرك أن ساعات تفصلنا عن الخروج النهائي. وفي اليوم التالي سمعنا في مكبرات الصوت تطلب من الأهالي التوجه الى موقف باصات القدس-يافا. وبقينا من الساعة الثامنة صباحا وحتى السادسة مساءا. وكانت تمر من أمام أعيننا الشاحنات المحمّلة بالأثاث المنهوب من قرية صرفند. وحضرت مكبرات الصوت مجددا لتعلن أن الشاحنات التي ستنقلنا ستحضر في اليوم التالي وكان علينا النوم في العراء.
تطهير عرقي
وعندما حضرت الشاحنات وبدأ الناس يجهدون في الصعود اليها، حضر جندي إسرائيلي والتقطني من ياقة قميصي وقذفني في الشاحنة، بادرت والدتي بالقول: "لا تخف بني فأنت اليوم نصف رجل." وعندما نظرت الى الجموع في الأسفل أيقنت أن هذا خروج لا عودة بعده.
تحركت الشاحنة التي كنت بها وتبعها أربع شاحنات باتجاه احدى القرى؛ لتتوقف ويأمرنا سائقها بالنزول. علمنا، بعد سؤال الشيخ مصطفى الخيري، أننا في قرية القباب. وجاء أهالي القرية مرحبين بنا فبقي البعض ونحن منهم في بيت المختار؛ بينما اختار آخرون الاستمرار في المسير. وعندما حان موعد الإفطار وقت الغروب حيث انهم كانوا صائمين سمع فوزي صوت الطيران يحوم في سماء القرية. قال عندها المختار: الكل مستهدف. وكان يعني بذلك أن على كل شخص أن يجد طريقه. وبعد المشي حوالي الثلاث ساعات وصلنا قرية سلبيت واستقبلنا مختارها ورحب بنا وأبلغنا اننا في القرية تابعة لقضاء الرملة، وأنهم إن تابعوا المسير سيصلوا الى باب الواد في القدس. ويتابع فوزي: استمرينا في المسير ست ساعات حتى الفجر وكنّا برفقة الشيخ مصطفى الخيري وإمام مسجد المغاربة الضرير الذي كانت تقوده أمه العجوز فوصلنا الى باب الواد. ويقع باب الواد هذا على بعد 23 كم غرب القدس وعلى الطريق السريع الواصل بينها وبين يافا. وهناك قابلنا مجموعة من المقاتلين وقدم أحدهم نفسه على أنه الحاج عبد اللطيف أبو قورة وطلب منا أن نطمئن. هنا في هذه اللحظة من المقابلة بكى فوزى! كنت اعلم مسبقا أنني أفتح جرحا اعتقد كثير من اللاجئين أنهم قد شفوا منه. كثيراً ما بكى اللاجئين مثل الأطفال عندما كانت تتدفق في العروق ذكريات فقدان المكان أثناء المقابلات! وقد سجلت الكاميرا بصدق تلك اللحظات. عرّف الحاج أبو قورة نفسه على أنه برفقة 50 مقاتلا من مدينة عمان ينتمون الى جماعة الإخوان. وأرشدنا إلى مغارات قريبة ذهبنا لنحتمي بها. وحضر بعد نصف ساعة محضراً الخبز والجبن والشاي. ونصحنا بعدم البقاء في المكان طويلا بسبب نشاط الطيران. وفضل أبو علي أبو حويلة ذو السبعين عاماً أن يغادر المكان. وبعد نصف ساعة بدأ الطيران بالإغارة الناس فقُتِل أبو حويلة وامرأة وثلاثة أطفال بسبب قذيفة طيران بينما كنا في تلة تشرف على منطقة باب الواد.
قام الرجال بدفن أبو حويلة. ثم جاءت سيارة عسكرية أردنية وأقلت جثمان المرأة والأطفال. ويتذكر كيف نزل أحد المظليين على الجموع الى كانت تشق طريقها الى أماكن آمنة. وكيف أن أحد أبناء الرملة عثمان أبو شنب قد حمى المظلي من أن يقتل؛ لأنه بحكم الأسير. وتم تسليمه إلى أحد مواقع الجيش العربي الأردني. وبعد نقاش بين الرجال الوجهاء أخذ الجميع بنصيحة الحاج أبو قورة والتي تتمثل بالذهاب الى بلدة بيت عور الفوقا على ان نتحاشى المشي على الشارع الرئيسي بسبب وجود قناصة يهود. ومشينا باتجاة بيت عور التحتا واقتربت منا دبابة من دبابات الجيش الأردني لينصحنا قائدها بالسير بمحاذاة الشارع خوف القنص. وما ان انتهى من كلامه حتى انهمر علينا الرصاص والشظايا وصاحت والدتي لنكتشف الدماء تسيل من قدمها وقام أحد الجنود بتقديم الإسعاف الأولي لوالدتي. فواصلنا المسير لنصل بيت عور التحتا الغنية ببساتين البرتقال لنكتشف اننا فقدنا اختي الصغيرة فعدنا للبحث عنها فوجدناها برفقة عائلة أخرى. وتابعنا مسيرة ثلاث ساعات لنصل رام الله؛ كان الخروج من الرملة صباح الخميس ووصلنا رام الله ظهر يوم الأحد. نزلنا في بيت زوج عمتي الذي كان بدوره لاجئا من يافا. وبعد المكوث أسبوعا هناك غادرنا باتجاة مدينة عمان في رحلة استغرقت ثمان ساعات على متن باصات رجب الخشمان. ونزلنا عند الغروب في شارع طلال وسط عمان. وبدأنا بالبحث عن بيت عمي في منطقة جسر رغدان الذي شاركناه غرفة واحدة يفصل عائلتنا عن عائلته ستار من القماش كما في المستشفيات. كانت أسرتنا تتألف مني ومن والدي ووالدتي الحامل بأخي الذي ولدته امي في العام 49، وكان هناك اختي فائدة ذات الثلاث أعوام وفدوى خمس سنوات وفوزية بنت الأحد عشر سنة.
بائع الصحف يتسلل الى الرملة
في مدينة عمان شمّر الفتى فوزي عن ساعديه وبدأ ببيع الصحف التي كان يزوده بها موزع صحف يومية مثل الصحف اللبنانية الحياة والنهار والبيرق والصحيفة الأردنية النسر وصحف أخرى. وكانت يدور بها ليبيعها في المقاهي. وأكبر تلك المقاهي هو مقهى البرازيل الذي كان يرتاده كبار المثقفين والسياسيين، وكان يقع في سوق الصاغة الحالي.
في أحد الأيام، وأثناء بيع صحيفة لأحد الأشخاص دائمي الجلوس في المقهى، علمت لاحقا أنه من الرملة ويدعى محمد أبو العدس، اقترب منه شخص وسأله: كم تأخذ أجرة لتأخذني الى الرملة. فأجابه أبو العدس: جنيه فلسطيني واحد. وكان أبو العدس يقوم بأخذ اللاجئين الذين يرغبون بالعودة الى بلادهم متسللين. يقوم الشخص الذي يرغب في هذه الرحلة بدفع 10 قروش عربون ثم يحضر الى مكتب سفريات طبلت في الوقت المضروب حيث يجتمع كل الراغبين بالعودة للرحلة لتأخذهم السيارات إلى القدس ثم رام الله ومن هناك الى قرية نعلين الحدودية مع قضاء الرملة. ومن نعلين يبدأ الجزء المثير في الرحلة والتي قد تكون إحدى تبعاتها الموت.
اقترب فوزي من أبو العدس وقال له: "اريد الذهاب الى الرملة". وبعد نقاش مطول وتوسل فوزي وبكاءه وافق أبو العدس على إضافة فوزي الى قائمة المتسللين. كان العدد 42 شخصًا، تجمعوا في عمان في مكتب السفريات في عمان وانتهى بهم المطاف داخل حدود مدينة الرملة قرب المقبرة الغربية حيث توزع الجميع كل شخص الى قريته أو مدينته بعد أن اتفقوا على اللقاء بعد أربعين يوما من أجل العودة الى عمان.
كانت الخطة أن يخفي قوزي ووالدته قصة التسلل إلى الرملة عن والد فوزي. وأن يحضر فوزي مجوهرات أم فوزي المدفونة تحت برميل الماء في حاكورة البيت. سلّمته أمه مفتاح البيت وكبريت وإبرة لتسليك عين بابور الكاز لتسهيل تدفق السائل حتى يستعمله فوزي وسيلة للطبخ والدفء. وكان على فوزي أن ينام في مخزن البيت حيث يحتفظ فيه بالمواد الغذائية من سكر وطحين وشاي. وربطت على وسطه قماش لتحفظ المجوهرات بها وحفظها من الوقوع أو السرقة.
نجح فوزي في الوصول الى بيته بعدما شاهد مدينته لأول مرة وقال أنها مثل مدينة الاشباح لا انس ولا صوت. فدخل البيت وأخذ مجوهرات أمه ونام في المخزن. وفي أحد الأيام سمع أصواتا تتحدث العربية فركض تجاه الصوت فوجده لامرأة يافاويّة من عائلة ضبيط وهي أم المحامي حنا ضبيط، عائلة سمح لها الاحتلال بالسكن في احد بيوت الرملة بعدما رفض بقاؤها في مدينة يافا؛ فبقي فوزي عندها بعدما أخبرها بقصته.
الموت على الأسلاك الشائكة
تجمع ستة أشخاص من أصل 42 شخصا في المقبرة الغربية في الرملة في اليوم الأربعين من افتراق المتسللين حسب الخطة الموضوعة من أبو العدس. وشقوا طريق العودة الى عمّان. وقرر أبو العدس إجراء تغيير على الخطة بأن يسلك طريقا مختصرا. كان عليهم أن يجتازوا سياجا من الأسلاك المعدنية؛ رفض فوزي أن يكون أول الممسكين بالسياج خوفا من أن يكون مكهرباً. فقام أحد المستعجلين في الرجوع الى عمان وهو اليافاوي أبو خليل أبو الجُبين بمسك السياج ليحدث بها انفجار و وتتوالى أصوات الانفجارات بعد ذلك. هرب فوزي وحيدا ونجح في الرجوع الى عمان.
روى فوزي قصة أبو خليل أثناء المقابلة بإحساس مختلف عن كل القصص التي تخللت المقابلة. فذكر أن أبو خليل هذا قد خرج من البيت حاملا ابنه الصغير خليل يوم سقوط يافا من أجل إحضار ليمون لطبق الملوخية التي أعدته زوجته. وشاهد وهو في الخارج جموع الناس تهرب باتجاه البحر لركوب المراكب للنجاة بأنفسهم. فوجد أبو خليل نفسه بعد ساعات في مدينة صيدا في لبنان بدون زوجته. وعلم بعد ذلك أن أغلب أهالي يافا قد غادروا إلى عمان. توجه الى عمان حاملا ابنه خليل بحثا عن زوجته فلم يجدها؛ عندها قرر أن يرجع متسللا الى يافا ليبحث عنها هناك. فاهتدى بعد حين الى أبو العدس، جليس مقهى الأندلس الذي كان يبيعه الفتى فوزي الجريدة. اتفق أبو خليل مع أبو العدس ليكون واحداً من 42 شخصا سيقودهم أبو العدس الى الرملة. علم أبو خليل أن زوجته قتلها جنود العصابات لأنها كانت تدور في شوارع يافا تولول وتصيح بحثا عن زوجها وابنها سقط أبو خليل على السياج المكهرب وهو في طريق العودة الى عمان مع الآخرين.
فوزي يعود مجددا الى الرملة
وفي معرض حديث فوزي عن معالم الرملة، ذكر مركز وسجن البوليس البريطاني، المبني على الطراز المعماري المعروف بقلاع تيغارد، نسبة إلى مصممها البريطاني تشارلز تيغارد والمنتشرة في كافة أنحاء فلسطين في سنوات الاحتلال البريطاني لفلسطين. وأصبح هذا السجن يسمى، بعد رحيل البريطانيين وسقوط المدينة بيد عصابات دولة الاحتلال، بسجن الرملة أو أيالون. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد روى كيف تم توقيفه وإيداعه في ذلك السجن.
حدث فوزي وقال أنه وفي شهر أيلول عام 1967 وبعد حرب الأيام الستة التي استولى بها الإسرائيليون على ما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية) كان يعمل صحفيا في جريدة الدستور. وقد رافق وقتذاك بعثة من الصليب الأحمر كانت مُتّجهة من عمان الى القدس للتحقيق في سرقة الإسرائيليين للذهب الذي كان يرصع تمثال السيدة العذراء في أحد كنائس القدس. وكانت البعثة تحمل أيضا رسائل مرسلة من الفلسطينيين الذين اضطروا إلى الهرب من الضفة الغربية إلى الأردن الى ذويهم في الوطن.
قرر فوزي أن يزور مدينته، وهذه المرة ليس كمتسللاً. كان يحمل فقط بطاقة كصحفي وبطاقة أخرى من الصليب الأحمر. وفي الطريق الى القدس الى الرملة وعند إحدى نقاط لتفتيش الإسرائيلية قبض عليه وأودع في سجن الرملة الذي بقي فيه لمدة أسبوع ليصار بعدها إلى ترحيله الى عمان.
ملاحظة غير مهمة: بكى فوزي البسومي ثلاث مرات أثناء المقابلة: مرة عندما ذكر الشيخ أبو قورة والمقاتلين الذين معه؛ ومرة عندما روى توسله الى أبو العدس ليأخذه الى الرملة؛ ومرة ثالثة عندما سرد قصة اليافاوي أبو خليل الذي سقط صريعاً على الأسلاك الشائكة. لا ضير أن يبكي الرجال!