ويبدو أن وضع التمثال جاء متزامناً مع اهتمام البلدية الواضح بشارع الطيرة، خلال السنوات السبع الأخيرة، حيث قامت بتوسعته على عرضه التنظيمي البالغ 20 متراً، وأعطته أحكاماً خاصة تتيح استغلاله تجارياً،
في مشهد مرسوم بعناية تتوسطه عبارة "وين عَ رام الله" الشهيرة، يلاحظ الداخل إلى رام الله من الجهة الشمالية لشارع الطيرة مدخلا أنيقاً وشارعاً بأرصفة وجزيرة مزروعة بأشجار النخيل. الإطار الذي يولد وهماً بعادية الوضع في المدينة التي تستبيحها القوات الإسرائيلية متى أرادت، فالعين تقع أولا على المباني الفخمة للفنادق أو البنوك ومحلات السوبرماركت ومحل كبير وحديث لبيع الكحول، قبل أن تستقر على تمثال ضخم لنيلسون مانديلا ببدلة وربطة عنق أنيقة، والذي بدا وكأنه اختزل كل ملامح النضال أو الكفاح -إن جاز التعبير- لصالح بعض من أنماط الحياة المعولمة الجديدة ومظاهر الترف الخارجة عن المألوف في السياق "التحرري" الفلسطيني. موقع هذا التمثال الذي زرعته بلدية رام الله عام 2016 في الميدان المسمى باسم صاحبه في قلب المنطقة الراقية من الطيرة "فوق"، ودشنه رئيس السلطة الفلسطينية، أثار الكثير من الجدل حول رمزية نيسلون مانديلا وأحقية أصحاب المكان "النخبوي" بإرثه النضالي، وفتح الباب أمام مساءلة توجهات بلدية رام الله لإطلاق أسماء براقة أو نخبوية -مستلهمة من الأماكن والشخصيات العالمية والمحلية- على شوارعها وميادينها وأحيائها، ومساعي إضفاء طابع ذو نوع معين –ينم عن ثقافة الفقاعة- على المدينة. أحد المارة الذين أوقفوا سياراتهم لالتقاط صور تذكارية مع التمثال انتقد موقعه الذي لا يرتبط بالمقاومة، كما لم يعجبه اختيار هذه الشخصية رغم تاريخها النضالي، قائلاً:
بعرفش (لا أدري) ليش (لماذ) البلدية عملت تمثال كد رام الله (يقصد كبير) لواحد أجنبي، قلة مناضلين فلسطينية وعرب يعني؟ بعدين ليش تيحطوه (يضعونه) في الطيرة بين الغنيا وانداري شو (لا أعرف من)؟ مش مانديلا هاظ (هذ) تبع الفقرا والمظلومين في إفريقيا؟ حطوه قبال المخيم يا أخي خليه يلهم هالشباب المسخمين، ولا هي البلدية بس بدها توري (تظهر) إنها بتشتغل وبتجيب (تحضر) ناس يتصورو ويعملو تدشين ويعجقو (يتفاخروا)؟ أنا لولا الولد سامع عنه في المدرسة وجنني (ألح) بده (يريد) يتصور ولا بجيش (لا آتي) هان (هنا).
بلدية رام الله بررت وضع التمثال بأنه هدية تلقتها من بلدية جوهانسبرغ في سياق اتفاقية التوأمة بين المدينتين، وأن اسم الميدان سابق لوضع التمثال. وخلال مقابلة أجريتها معه، نفى أحد أعضاء المجلس البلدي السابقين، أن يكون اختيار الطيرة كموقع للتمثال متصلاً بنخبوية المكان، بقدر ما هو مرتبط بضرورة وجود فضاء رحب مناسب وفيه مجال لترتيب الزيارات المحتملة من قبل الرؤساء والوزراء، ولم يكن هناك مكان أفضل لوضعه. ويشير البحث الميداني إلى وجود تصورات لدى سكان الطيرة "تحت" مفادها أن روح النضال وثقافة "المخيم" لا تزال حاضرة في محيطهم، وأن البلدية تحاول إعطاء وقع بنية نضالية للطيرة "فوق" التي ينظر كثيرون إلى سكانها باعتبارهم نخباً غير متصلة بتاريخ المقاومة الفلسطينية. وفي حين لا يمكن ملاحظة أي شعارات نضالية في الطيرة "فوق" –أو ربما أنها غير موجودة أصلاً- إلا أن الملصقات وكتابات الجدران حاضرة في الطيرة "تحت" حيث الكثافة السكانية أعلى ومستوى المعيشة يمكن وصفه بأنه أقل -وإن لم يكن بكثافة حضورها في زمن الانتفاضة.
ويبدو أن وضع التمثال جاء متزامناً مع اهتمام البلدية الواضح بشارع الطيرة، خلال السنوات السبع الأخيرة، حيث قامت بتوسعته على عرضه التنظيمي البالغ 20 متراً، وأعطته أحكاماً خاصة تتيح استغلاله تجارياً، وذلك ضمن رؤية أو توجهات مفادها ضرورة خلق مركز تجاري جديد وإعادة تأهيل المدخل الشمالي للمدينة، الأمر الذي يبدو أنه جاء استجابة لضغوط المستثمرين والملاك إثر ارتفاع أسعار الأراضي في المنطقة التي أخذت تشهد كثافة عمرانية وحركة مرورية واضحة. ويبدو أن هذا الأمر قد كرس الفصل وخلق الفجوة بين جانبي الطيرة، على يمين الشارع ويساره –أو تحته وفوقه، حيث بات يشكل حدا بين الفوضى والنظام، بين الهدوء والترتيب والتشوهات الحضرية.
ويمكن ملاحظة أن المشروع التفصيلي الذي تمت مصادقته سنة 1999 قد أعطى الشارع أحكام سكن "ب" من ميدان بشير الرغوثي وحتى كلية مجتمع المرأة، وأحكام المعارض التجارية من الكلية حتى مفترق شارع سمير قصير، كما تم تطبيق أحكام سكن "ب" من المفترق المذكور وحتى ميدان جورج حبش، إلا أن هذه الأحكام ما لبثت أن تغيرت في المخطط التفصيلي لسنة 2003 الذي غير الأحكام التنظيمية للمنطقة الممتدة من شارع سمير قصر وحتى شارع رجاء أبو عماشة لتصبح تجاري محلي بأحكام خاصة، أي أنه تم السماح باستخدام الطابق الأرضي لغايات تجارية، في حين لم تتغير أحكام المناطق الأخرى.
كذلك فقد صادقت البلدية في العام 2016 على مشروع يقضي بتحويل شارع الطيرة عموماً إلى شارع تجاري، الأمر الذي جاء نتيجة لدراسات قامت بها البلدية في ضوء مطالبات "المواطنين" بتغيير صفة الاستخدام إثر الارتفاع الكبير في أسعار الأراضي، والذي سيؤدي حتماً إلى ارتفاع أسعار الشقق في حال ظل التصنيف سكنياً، ذلك أن البلدية وجدت نفسها أمام واقع يفرض نفسه في شارع الطيرة، حيث ظهرت العديد من المقاهي والبنايات التي تم ترخيصها كسكن "ب" ولكن تم استخدامها بشكل مخالف لأغراض تجارية. ويبدو أن النقاش حول مصير الشارع ومستقبله تم في ضوء كونه مدخلا للمدينة، حيث جاء "ابتكاره" بشكله الحالي ليوفر مجالاً استثمارياً يلبي حاجات المدينة المتزايدة لمراكز تجارية -الأمر الذي يروج له باعتباره لصالح المواطنين.
ويبدو أن التصورات النخبوية التي ظلت لسنوات تحيط بشارع الطيرة كمنطقة برجوازية للسكن الراقي والفلل البعيدة عن حركة المرور والمحاطة بحدائق تتيح تنسم هواء الريف بعيداً عن التشوهات الحضرية والتلوث والازدحام في مركز المدينة، قد بدأت تتلاشى بصورة دراماتيكية، في ظل ما تشهده المنطقة من تحولات حضرية وإدخال تعديلات على صفات استخدام الأراضي، حيث أصبح الشارع، في السنوات الأخيرة، مركزاً تجارياً حيوياً ومعولماً على غرار العديد من الشوارع في المدن العربية والعالمية، كما بات حقلاً اجتماعياً نخبوياً يستقطب أشخاصاً من أماكن عديدة طمعاً في أجواء نخبوية تتيح لهم تعزيز تصورات متلائمة مع آمالهام وتطلعاتهم أو رؤيتهم لذواتهم في سياقات معينة. ويظهر أن رؤى الناس حول هذا التحول قد جاءت متباينة في ضوء اختلاف مصالحهم وتوجهاتهم؛ فهناك عدد من الملاك وأصحاب قطع الأراضي الفارغة أو الطامحين لتلقي عرض مغر لقاء بيوتهم وعقاراتهم، الذين رحبوا بالمشروع الذي ساهم في رفع الأسعار زيادة على ما كانت عليه.
من ناحية أخرى، يبدو عموماً أن السكان -الذين وضعوا جل استثماراتهم في فلل أو بيوت سكنية في محيط الشارع، قلقون من إمكانية حدوث تحول في ديناميكيات التراتبية المكانية والتي تتيح للمكان إضفاء هوية نخبوية على شاغليه بعد أن كانوا هم الذين يضفونها عليه فيما مضى، وباتت لديهم هواجس من إمكانية تحول الطيرة إلى ماصيون ثانية في ظل تهافت السفارات والمؤسسات والاستثمارات والمقاهي والمطاعم الراقية على المنطقة، ويتمنون لو بمقدورهم الرحيل. ويبدو أن هذه الأماني قد دفعت بعض السكان إلى اتخاذ قرار الرحيل فعلاً، حيث ذكر لي أحدهم أنه ترك الطيرة وذهب إلى ضاحية الريحان، التي بنيت على تلال رام الله القريبة، أملا في بيئة سكنية هادئة أو "ريفية" ليصطدم بحائط الواقع هناك مرة أخرى حيث لم يجد فرقاً بين الطيرة والريحان.
ومما لا شك فيه أن ميكانيزمات التراتبية المكانية، والممارسات النخبوية ومساعي تكييف التخطيط التي يشهدها حيز رام الله، ترتبط وتشكل في الواقع امتداداً لسياسة رأسمالية عالمية وسلوك نيوليبرالي عابر للحدود الوطنية. ويظهر أن شارع الطيرة لم يتحول إلى مركز تجاري حيوي على غرار العديد من الشوارع في المدن العربية والعالمية فحسب، بل أصبح -وفي ضوء استجابة بلدية رام الله بصورة أو بأخرى لضغوط الاستثمار الذي استهدف الطيرة وغيرها من مناطق المدينة بصور وأشكال مختلفة- وجهة للراغبين في التواجد ضمن فضاءات نخبوية محلية-معولمة، وبات يشكل دلالة واضحة على نواتج توجهات البلدية المتأرجحة بين تطوير أو تحديث المشهد المديني وخلق حاضنة مكانية اجتماعية-اقتصادية حداثية في الطيرة، ومساعي حماية الموروث الثقافي التي تروج لها في شارع السهل. وفي حين ترى إحدى الناشطات البارزات في مجموعة "رام الله مدينتنا"، أن المعركة ]مع الاستثمار[ قد بدأت في شارع الطيرة بالفعل، إلا أنها تعتقد أن المعركة الحقيقية القادمة ستكون في شارع السهل.