كثيرة هي النماذج الفنية التي عاشت مآسي المجتمع ووثقتها وعبرت عنها بصيغ فنية متنوعة بل إن بعض الفنانين المعاصرين جعلوا من فضاء أعمالهم مساحة خصبة لرصد التغيرات والأحداث المجتمعية التي عاشوها من حروب وأوبئة وكوارث طبيعية، سواء لتوثيق هذه الاحداث او للتوعية فيه.
ثمة حركة تفاعلية ما بين الأعمال الفنية والمجتمع في أزماته ورخائه، فليس السياسيون ولا العلماء وحدهم من يتعاملون مع هذه الظروف، بل حتى الفنانين يستوحون منها في سبيل إنتاج أعمالهم الفنية، كما أن هذه الظروف تُحدِث تغير في آلية عرض وطرح الأعمال الفنية، إذ شهدنا بعد جائحة كوفيد-19 تحول كثير من المعارض الفنية الى معارض رقمية، وقد نكون في صدد تعزيز النمط الرقمي من المعارض وربما ولادة نمط جديد يحافظ على ذاته في حال كارثة مثل الزلزال الذي يهدد بتدمير الأماكن التي تحتوي على الأعمال الفنية وقطع شبكات الانترنت التي تيسر التفاعل والاستمرارية للمعارض الرقمية، ومثال ذلك الزلزال الذي شهدته أخيراً منطقة جنوب شرق تركيا وشمال سوريا، والذي راح ضحيته أكثر من 46 ألف ضحية ناهيك عن الدمار، هذه الكارثة بثقلها لم تحل دون استمرارية الفن، حيث أننا نعي من خلال تجارب سابقة أن الفن يجد مخارجه دائماً لضمان استمراريته وتفاعله مع الواقع، وهذه المخارج في مجملها تَرسُخ من خلال الأعمال الفنية المجسمة والتي تقف كشواهد على مرحلة محددة من تاريخ البشرية.
صناعة الأعمال الفنية في فترات الكوارث
في مواجهة التحديات والكوارث، يُحمّل الفن دوراً متزايد الأهمية في التواصل بشأن سياقات هذه التحديات، وذلك من منطلق استخدام قوة الفن كأداة للإبلاغ عن المخاطر من جهة، وكرد فعل مرتبط بطبيعة الفن المعاصر من جهة أخرى، بالإضافة إلى دور الفن في تذكير الأجيال القادمة بطبيعة الوقائع التي مرت بها الإنسانية، وذلك من خلال تكنيكات الأعمال الفنية المتعددة والتي ليست بالضرورة شاملة لكل الحدث، لكن هذه الأعمال الفنية في مجملها تمنح الحياة والعاطفة للوقائع، ومحملة بنوع من المعرفة بغض النظر عن كمها ووضوحها، لكنها تسمح بنقل الوقائع التي تمثل تهديدات كبيرة لحياة الناس، وسبل عيشهم بشكل أقوى، لأنه يمكن من فهم مخاطر الكوارث من خلال مزيج من التحليل والعاطفه الظاهرة من خلال الأعمال الفنية، والتي قد تلعب دور المستكشف لخلق فهم أعمق لهذه الكوارث، وهذا ما بدأت المؤسسات الرئيسية في محاولة عكسه سواء في مؤسسات الفن المستقلة أو التابعة رسمياً للسلطات.
نماذج عن أعمال فنية تحاكي الكوارث
على سبيل المثال لا الحصر، جاءت لوحات غروب الشمس لتيرن لتجسد أكبر الثورات البركانية التي حلت في جبل تامبورا في عام 1815. أما لوحة الموجة العظيمة مقابل ساحل كاناغاوا للفنان الياباني هوكوساي (1829-1833) جاءت للتحذير من خطر تسونامي. وعندما ضرب الطاعون أوروبا قدم الفنان الهولندي بيتر بروجيل لوحته الشهيرة "انتصار الموت" وكان ذلك في منتصف القرن السادس عشر، وتظهر الصورة الصراع بين الموت والحياة. وفي لوحة اخرى للفنان البلجيكي انتوان وارتز عن الكوليرا الوباء الأسود الذي انتشر في أوروبا عام 1845 حيث كانوا يدفنون المرضى قبل وفاتهم. ومن الأعمال الفنية الخالدة في متحف اللوفر بباريس للفنان تيودور جيريكولت لوحة قارب ميدوسا والمستوحاة من غرق الفرقاطة الفرنسية ( السفينة الحربية السريعة) في عام 1816م، وغرق أكثر من مائة شخص عليها. في 2014 قامت صالات العرض الخاصة بالمتحف الوطني للتاريخ الياباني بتنظيم معرض يرتكز على: الزلازل التاريخية في منطقة توهوكو والزلازل في أوائل العصور الحديثة، بينما يلتقط الأول استمرارية الزلازل على مدى فترة طويلة حتى زلزال شرق اليابان الكبير 2011، يحاول الأخير العثور على قضايا خالدة من الزلازل في الفترات الأخيرة. وحديثاً الكثير من الأعمال والمعارض الفنية التي شهدت على آثار جائحة كوفيد 19، مثل العمل الفني المعنون بـ "لا فيريتا"، أي "الجرح" الذي يتمدد ويحدث فجوة عميقة وفي ذلك دلالة لعمق تأثير الجائحة الممتد للمستقبل، وقد ظهر هذا العمل على أحد جدران Palazzo Strozzi وهو مركز ثقافي في فلورنسا لفنان الشارع المشهور بـ "JR".
وفي الأول من أبريل 2022 افتتح معرض متحف الزلازل الرقمية في اليونان وهو مبادرة تعليمية أصلية تتيح للزوار "التجول" والتعرف على هذه الظاهرة الطبيعية من خلال التطبيقات التفاعلية وأساليب التكنولوجيا الفائقة المبتكرة، نماذج الزلازل الفريدة التي توفر معلومات عن الزلازل ومقاطع فيديو تعليمية تظهر الزلازل الكبيرة في اليونان من عام 1900 حتى الوقت الحاضر، والبث المباشر للاهتزازات الزلزالية في الوقت الحقيقي، كما تكتمل التجربة التفاعلية للمعرض من خلال "بنك الزلازل" و "كرسي الواقع الافتراضي"، بالإضافة إلى تطبيقات "الزلزال في المدينة"، حيث يتم إعلام الجمهور بكيفية حماية أنفسهم عندما يحدث زلزال، ويتضمن برنامج "الزلزال في المتحف" أيضاً برامج تعليمية لطلاب المدارس الابتدائية والثانوية والثانوية وورش عمل للمعلمين وعامة الناس.
كثيرة هي النماذج الفنية التي عاشت مآسي المجتمع ووثقتها وعبرت عنها بصيغ فنية متنوعة بل إن بعض الفنانين المعاصرين جعلوا من فضاء أعمالهم مساحة خصبة لرصد التغيرات والأحداث المجتمعية التي عاشوها من حروب وأوبئة وكوارث طبيعية، سواء لتوثيق هذه الاحداث او للتوعية فيه.
المجتمع الاستهلاكي وإنتاج الأعمال الفنية
هذا الدور الذي تقوم به الأعمال الفنية لا يمكن سلخه عن مجتمعه الاستهلاكي، والذي يعني أن الحاجة تخلق الإنتاج. في ظل هذا السياق كيف سيكون حال الأعمال الفنية المنتجة بعد الكوارث في ظل الحديث عن الإنتاج الصناعي للثقافة والفنون؟ وفي وسط التشيؤ والمجتمع الاستهلاكي، هل يمكننا القول بأن المهارة و العبقرية والموهبة كلها تمتص وتذوب في تنصيبات الصناعة والفن المعاصر؟
قد نستطيع الإدعاء أن النمط الاستهلاكي يعيد تشكيل الوعي المجتمعي وذوقه الجمالي ويأتي ذلك نتيجة للتسارع الصناعي المستند على الإنتاج المصنع، والاستهلاك الكلي للمنتج الذي يضمن استمرارية تصنيعية لا تنضب، هذا الانتاجية المصنعة لا نستطيع فصلها عن إنتاجية الأعمال الفنية سواء في فترات الكوارث و الأزمات أو الرخاء والانفتاح.
لذا فإن الأثر الفني الذي تتركه الأعمال الفنية في عصر الصناعة والاستهلاك الثقافي قد يكون آنياً وسريع الزول في الكثير من مواضعه؛ لأنه بات كالسلعة المنتجه وقت الحاجة للاستهلاك، وحسب ما يلخص جان بودريار أن "الأثر الفني، مثل سيارة السنة، مثل طبيعة المساحات الخضراء متهمة أن لا تكون إلا إشارة سريعة الزوال(١)، وإذا كان الفن المعاصر حسب ما نعايشه في عالم اليوم هو عامل للتطور الاقتصادي والاجتماعي والسيولة النقدية فإن الأعمال الفنية التي يتم إنتاجها ضمن هذه المرحلة حتى لو كانت نتاج ازمة أو كارثة مثل الزلزال فهي لم تعد تلك العملية المرتبطة بالفنان ذاته فقط كما كانت عليها من قبل، وذلك نتيجة تداخل عدة أطراف قبل وأثناء وبعد عملية الإنتاج، وتغير مفهوم جمالية الفن، إذ حسب ما يطرح أيف ميشو أن ''الفن ليس بمعنى الفنون الجميلة فقط، ولكن بمعنى الثقافة العالية لم يقع تعويضه بـ الثقافة التجارية لكن وقع تهميشه من قبلها"(٢)، عندما تم إذابته في مستنقع الصناعة.