المنزل الأكثر شهرةً في القرية والذي احتلّ زاوية بجوار منزل جداي، عرفه الجميع باسم بيت الميّت. سكنه لسنواتٍ طويلة كاهن الرعية الذي عمّد جيلنا بأكمله، فرانسيسكو سي أنغاريتا، الذي عُرف بخطبهِ الأخلاقيّة الرنّانة وبنوباتِ غضبه المخيفة.
على عكس ما فعله كثيرٌ من الكتّاب، الجيدون منهم والسيئون على مرّ الأزمان، لم أحاول إضفاء المثاليّة على البلدة التي ولدتُ ونشأت بها حتى بلغتُ الثامنة من عمري. ذكرياتي عن تلك الحقبة - كما قلتُ مرّاتٍ عديدة - هي أوضح وأدقّ ما احتفظتُ به على الإطلاق، لدرجة أنّني أستطيع استحضارها كما لو أنّها حدثت بالأمس. وليس استحضار الشكل الخارجيّ لبيوتها فحسب، بل وصلتُ لاكتشاف صدعٍ في أحدِ الجدران لم يكن موجودًا أثناء طفولتي.
تُعمّر الأشجارُ في القرى لفترةٍ أطول من البشر، دائمًا ما كان لديّ انطباع بأنّها تتذكّرنا أيضًا وربّما أفضل من الطريقة التي نتذكّرها بها. خطر لي كلّ هذا وأكثر خلال مسيري في شوارع أركاتاكا المُغبرّة وحرّها الذي لا يُحتمل، القرية التي ولدتُ بها وعدتُ إليها قبل أيامٍ قليلة بعد 16 عامٍ على زيارتي الأخيرة؛ عاطفيًّا بعض الشيء لمقابلتي العديد من أصدقاء الطفولة ومندهشًا في الوقت ذاته من حشدِ الأطفال، وكأنّني استعدتُ نفسي بينهم في زمانٍ مضى أيّام وصول السيرك إلى القرية، مع ذلك حافظتُ على هدوئي كفايةً لأتفاجأ بأنّ شيئًا لم يتغيّر في منزلِ الجنرال خوسيه روساريو دوران، وبالطبع لم يتبقَ أحدٌ من عائلته اللامعة، أيضًا أنّ الغبار الجاف مازال يغطي السّاحات، أشجار اللوز الحزينة ما زالت كعهدها، الكنيسة أعيد طلاؤها مرّات عديدة خلال نصف قرن، ساعة البرج ما زالت هي نفسها، ليس هذا فحسب بل أنّ الرجل الذي يُصلحها ما زال هو نفسه أيضًا!، أكّدَ لي أحدهم.
كُتب الكثير، ربما إلى حد المبالغة، عن الصِلات بين ماكوندو وأراكاتاكا. إلا أنّه في واقعِ الأمر وفي كلّ مرّةٍ أعود فيها إلى القرية الحقيقيّة أجدها أقلّ شَبهًا بالقرية الخياليّة باستثناء بعض العناصر الخارجية، كحرارتها التي لا تُحتمل في الثانية ظهرًا وغبارها الأبيض الملتهب وأشجار اللوز التي بقيت محفوظةً في بعض أركان الشوارع. هناك تشابهٌ جغرافيٌ واضح، لكنّه لا يذهب أبعد من ذلك بكثير.
بالنسبة لي، هناك من الشِّعر في قصّة الأنمي ما يفوق كلّ ما حاولتُ تركه في أعمالي مجتمعة. كلمة أنمي بحد ذاتها شكلت لغزًا ظل يطاردني منذ تلك الحقبة. وفقًا لقاموس الأكاديمية الملكية فإن الأنمي تعني النبات وصمغه. على نحو مطابق يعرّفها معجم الألفاظ الكولومبية الممتاز لماريو ألاريو دي فيليبو. في حين أن الأب بيذرو ماريّا ريفولو لم يذكرها حتى في معجمه. على النقيض منه، فقد كرّس سوندهايم أدولفو في كتابه* costeñismos colombianos (سواحليات كولومبية) الذي نشر عام 1922 وصار طي النسيان شرحًا وافيًا أنسخُ منه الجزء الأهم: "الأنمي هو قزم مفيد يُساعد أتباعه في المواقف الصعبة والمتسرّعة، ومن هنا عندما يتمّ التأكيد على أنّ شخصًا ما لديه أنمي، فإنّ ذلك يعني أن لديه شخصًا أو قوة غامضة مدّت له يد العون ". مما يعني أنّه يصنفها مع العفاريت، وبشكل أكثر دقة، من جملة تلك التي وصفها جويل مشيليه.
أما الأنمي في أراكاتاكا فهو شيء مختلف تمامًا: هي كائناتٌ صغيرةٌ لا تزيد عن بوصةٍ واحدةٍ تعيشُ في قاع خوابي المياه. أحيانًا يتم الخلط بينها وبين الغواسارابوس وهي يرقات البعوض التي تلهو في قاعِ مياه الشرب. لكنّ الخبراء الجيّدون لا يمكن أن يخلطوا بينهم. كان لتلك الكائنات القدرة على الهروب من مكمنها الطبيعي، على الرّغم من الأغطية المُحكمة للخوابي لتستمتع بفعل جميع أنواع المغامرات في المنزل، لم يكونوا إلا أرواحًا شقيّة لكن خيّرة، قد تتسبّب بتغيير لون عيون الأطفال وبتجفيف الحليب في صدور المرضعات وبصدأ الأقفال وبالأحلام المعقدة. إلا أنّها وعندما يتعكّر مزاجها، وغالبًا لأسباب غير مفهومة، تبدأ برمي الحجارة على المنزل الذي تسكنه. شاهدتهم للمرّة الأولى في منزل دون أنطونيو داكونتي وهو مهاجرٌ إيطاليّ جلبَ الكثير من المستجدّات إلى أركاتاكا، كقاعةِ البلياردو والدرّاجات المُستأجَرة والأفلام الصامتة والغراموفون وأوائل أجهزة استقبال الراديو.
في إحدى الليالي انتشرَ خبرٌ في أنحاءِ البلدةِ أنّ كائنات الأنمي بدأَت برجمِ منزل دون أنطونيو داكونتي بالحجارة وهرعت البلدة بأكملها لرؤيةِ الحدث. على عكس ما قد يبدو عليه الأمر، لم يكن عَرضًا مُرعِبًا، بل حفلةً مبهجة لم يسلم منها ولا لوح زجاجٍ واحد. لم يكن بالإمكان رؤية من يرميها، لكنّها انهالت من كل حدبٍ وصوب وكان لها ميزتها السحرية في عدم الاصطدام بأيّ شخص وعدم إيذاء أيّ أحد، إنّما التّوجه نحو أهدافها الدقيقة: الأشياء الزجاجية.
عقب تلك الليلة السّاحرة واصَلنا نحن الأطفال عادة التسلّل إلى منزل دون أنطونيو داكونتي للكشف عن الخابية في غرفة الطعام ومراقبة الأنمي شبه الشفافة ساكنةً تتململ في قاع الماء.
المنزل الأكثر شهرةً في القرية والذي احتلّ زاوية بجوار منزل جداي، عرفه الجميع باسم بيت الميّت. سكنه لسنواتٍ طويلة كاهن الرعية الذي عمّد جيلنا بأكمله، فرانسيسكو سي أنغاريتا، الذي عُرف بخطبهِ الأخلاقيّة الرنّانة وبنوباتِ غضبه المخيفة. أُثير الكثير من الهمس الجيّد منه والسيئ حول الأب أنغاريتا، لكن قبل بضع سنوات علمتُ أنّه اتخذ موقفًا واضحًا وحازمًا أثناء الإضراب عقب المذبحة التي تعرّض لها عمّال الموز.
سمعتُ صغيرًا أنّ منزل الميّت سميّ كذلك لأنّ شبح شخصٍ ادّعى في جلسة تحضير للأرواح أن اسمه ألفونسو مورا، شوهد يتجوّل فيه ليلاً. روى الأب أنغاريتا القصّة ليس فقط باقتناع كبير لكن أيضًا بواقعيّةٍ تقشعرّ لها الأبدان. وصفه بأنّه رجلٌ سمينٌ، شعره قصير وأسنانه مثالية ولامعة مثل أسنان ذوي البشرة السوداء، يطوي أكمام قميصه حتى المرفقين، وفي كلّ ليلة، عند الساعة الثانية عشرة، وبعد أن يتجوّل في المنزل، كان يختفي تحت شجرة توتومو (القرع) التي نمت وسط الفناء. وبالطبع كانت التربة أسفل الشجرة قد قلبّت مرات كثيرة بحثًا عن الكنز المدفون. في أحد الأيام، في وضح النهار، تسللتُ إلى المنزل المجاور لمنزل جدّي لمطاردةِ أرنب محاولاً اللحاق به إلى المرحاض حيث اختبأ، دفعتُ الباب، لكن بدلاً من الأرنب، رأيت ذلك الرجل جالسًا في وضع القرفصاء في المرحاض في جوٍّ من الحزن التأمّلي الذي نمارسهُ جميعًا في مثل هذه الظروف. تعرّفتُ إليه على الفور، ليس فقط من خلال أكمامه المطويّة إلى مرفقيه، لكن من أسنانه الجميلة التي لمعت في الظل.
رحتُ أتذكّر هذه الأشياء على مدار أيّام بعد وصولي إلى أراكاتاكا، تلكَ البلدة المُلتهبة، بينما كان أصدقائي القدامى والجدد، سعداء لأنّنا اجتمعنا مرّة أخرى بعد غيابٍ طويل. هذا المكان هو بحقّ نبع الشعر وقد سُمع اسمه يتردّد كقرعِ طبول في نصفِ العالم وبجميع اللغات تقريبًا، أراكاتاكا التي يبدو أنّها موجودة في الذاكرة أكثر منها في الواقع. يصعب تخيّل مكانٍ مَنسيٌّ ومُهمل وبعيد عن دروب الله أكثر منها. كيف السبيل إذن ألّا يشعر المرء بروحهِ تنقبض بسبب إحساسه بالتمرّد!
*كوستينيسموس كولومبيانوس: أو (سواحليات كولومبية) كوستا أو كوستانيو بمعنى الساحل أو الساحليّ، لقب يطلقه الكولومبيون على سكان ساحل البحر الكاريبي حصرًا على خلاف سكان سواحل المحيط الأطلنطي. Adolfo Sundenheim (1870-1924): Vocabulario costeño