سلسلة مقالات لماركيز غير منشورة مسبقاً بالعربية، انتقتها المترجمة وننشرها تباعاً

ماركيز: مصائب الكاتب (ترجمة)

2022-12-19 14:00:00

ماركيز: مصائب الكاتب (ترجمة)
Gabriel García Márquez working on One Hundred Years of Solitude. Guillermo Angulo / Harry Ransom Center

لأنّ الكاتب الجيد سيواصل الكتابة على أيّة حال، وإن كان معدمًا، وإن لم تُبَع كتبه. إنّه نوع من التّشوه الخُلقي، والذي يفسّر على نحوٍ جيد الظاهرة الاجتماعية العجيبة التي تسببت بانتحار الكثير من الرجال والنساء جوعًا، من أجل فعل شيءٍ، في نهاية المطاف، وأتحدث بجدية تامة، لا فائدة منه.

الكتابةُ مهنةٌ انتحاريّة. إذ ليس هناك من بين المهن الأخرى، إذا ما نظرنا إلى عائداتها الفورية، ما يتطلّب كلّ ذلك الجهد والتفاني والسّاعات الطويلة من العمل المرهق. ولا أظنهم كُثر أولئك القرّاء الذين يتساءلون عند انتهائهم من قراءة كتاب ما عن عدد ساعات الأوجاع والكوارث المنزلية التي تكبّدها المؤلف لإنجاز تلك المائتي صفحة، أو المبلغ الذي حصل عليه مقابل عمله. وكي لا أطيل عليكم، يجدر القول لمن لا يعلم أن الكاتب يكسب عشرة بالمائة فقط مما يدفعه المشتري مقابل الكتاب في المكتبة. لذا فإن القارئ الذي اشترى كتابًا بعشرين بيزو ساهم ببيزوين فقط في إعاشة الكاتب. ويذهب الباقي إلى دور النشر، التي خاطرت بطباعته، ثم إلى الموزعين وبائعي الكتب. سيبدو ما يلي أكثر اجحافًا، إذا ما اخذنا بعين الاعتبار أنّ أفضل الكتُّاب هم أولئك الذين يكتبون القليل ويدخنون الكثير، وبالتالي فمن الطبيعي أنهم يحتاجون إلى عامين على الأقل، وتسعةٍ وعشرين ألفًا ومائتي سيجارةٍ لكتابة عملٍ من مائتي صفحة. مما يعني، وبحسبة جيّدة، أنّ ما ينفقونه من مبالغٍ في التدخين فقط أعلى من تلك التي سيحصلون عليها مقابل الكتاب. لسبب ما كان أحد أصدقائي يقول إنّ جميع الناشرين والموزعين وبائعي الكتب أغنياء، ونحن الكتّاب جميعنا فقراء.

تتفاقم المشكلة في البلدان النّامية، حيث تكون تجارة الكتب أقلّ رواجًا، على أنّها لا تنحصر ضمنها، إذ أنه في الولايات المتحدة، والتي تعدّ جنّة الكتاب الناجحين، مقابل كلّ مؤلف يصيبه الثراء بين عشيّةٍ وضحاها نتيجة يانصيب طبعات كتب الجيب الورقيّة، هناك المئات من الكتّاب الجيدين المحكوم عليهم بالسجن المؤبد تحت رحمة صقيع القطرات الجليدية للعشرة بالمائة. أحدث حالة مذهلة لذلك النوع من الثراء في الولايات المتحدة هي حالة الروائي   Truman Capote ترومان كابوتي عن روايته (بدم بارد A sangre fría) التي جلبت له في الأسابيع القليلة الأولى نصف مليون دولار من الأرباح ومبلغًا مماثلاً لحقوق الفيلم المأخوذ عنها. في المقابل، عاش ألبير كامو، والذي سيبقى إلى الأبد في المكتبات عندما لا يعود أحدٌ يتذكر رائعة ترومان كابوتي تلك، مما جناهُ لقاء كتابة سيناريوهاتٍ لأفلام تحت اسم مستعار ليتمكن من مواصلة كتابة أعماله. لم تكن جائزة نوبل التي حصل عليها قبل سنواتٍ قليلة من وفاته إلا راحةً مؤقتة لمصاعب حياته، لأنّ هذه الجائزة، التي تحمل الكثير من الشّهرة والعديد من الالتزامات، لا تعني سوى رفاهيّة مؤقتة تبلغ حواليّ 40 ألف دولار، أي ما يعادل في الوقت الحاضر ثمن منزلٍ مع حديقة للأطفال. الخيار الأفضل، هو الذي قام به جان بول سارتر برفضه لها، لأنّه بموقفه ذاك اكتسب مكانةً عادلة ومُستحَقّة من الاستقلاليّة، مما زاد الطلب على كتبه.

يتوق العديد من الكتّاب إلى راعي الفن السابق، سيدٌ غنيّ وكريم يدعم الفنانين ليستمروا بالعمل براحة وسهولة. واليوم وإن بأساليب مختلفة، فإن الرّعاة والداعمين موجودون، هناك اتحادات مالية كبيرة، تخصّص مبالغ ضخمة لرعاية أعمال الفنانين. في بعض الأحيان لدفع ضرائب أقل، وفي أحيان أخرى لتبديد صورة سمك القرش التي شكّلها الرّأي العام عنها، وفي حالاتٍ قليلة لطمأنة ضمائرهم. لكنّنا نحن الكتّاب أشخاص نحبُّ أن نفعل ما نريد، ونعتقد، وقد يكون اعتقادًا لا أساس له، أن الرّاعي يهدّد استقلاليّة الفكر والتّعبير ويخلق تنازلاتٍ غير مرغوبٍ فيها. في حالتي أُفضّل الكتابة دون إعاناتٍ من أيّ نوع، ليس لأنّني أعاني من هذيان الاضّطهاد الهائل فحسب، إنّما لأنّي، عندما أبدأ بالكتابة، أحيّد تمامًا مسألة التفكير في إذا ما كانت أفكاري ستتوافق أم لا مع أيّ كان عند فروغي منها. وبالتأكيد سيكون من الإجحاف، إذا ما اختلفت عن آيديولوجية الراعي -وهو أمر مرجّح جدًا نظرًا لروح التناقض المتضاربة لدى الكاتب- تمامًا كما سيكون أمرًا غير أخلاقيّ أن تأتي مطابقة لها.

يبدو نظام المحسوبيّة؛ المثال النموذجيّ للدّعوة الأبوية للرأسماليّة، وكأنه ردّ على العرض الاشتراكيّ الذي يعتبر الكاتب عاملًا يتقاضى أجرًا من الدولة. من حيث المبدأ الحل الاشتراكي صحيح لأنه يحرّر الكاتب من استغلال الوسطاء. لكن من النّاحية العملية، حتى الآن ومن يدري إلى متى، تسبّب هذا النظام في تبعات أشدّ خطورةً من المظالم التي حاول تصحيحها. تُبيّنُ الحالة الأخيرة لكاتبين سوفيتيين رديئين حُكم عليهما بالعمل الشاق في سيبيريا، ليس بسبب الكتابة السيّئة، ولكن بسبب الاختلاف مع المموّل، مدى خطورة مهنة الكتابة في ظل نظام لا يتمتع بنضج كافٍ للاعتراف بالحقيقة الأبدية بأنّنا نحن الكتّاب ثلةٌ من الأشرار تضايقنا المِشدّات العقائدية، والأحكام القانونيّة، أكثر مما تفعل الأحذية. شخصيًّا أعتقد أنّ الكاتب، على هذا النحو، ليس لديه التزامٌ ثوريٌّ آخر سوى الكتابة الجيّدة. إنّ عدم امتثاله تحت أيّ رايةٍ ولأيّ نظامٍ هو شرطٌ أساسيٌّ ليس له علاج، لأنّ الكاتب الملتزم هو على الأرجح قاطع طريق، وبالتأكيد كاتبٌ سيء.

بعد هذه المراجعة المحزنة لكلّ ما سبق، من الموضوعيّة أن نسأل أنفسنا، لماذا نكتب نحن الكتّاب؟ الإجابة بالضرورة، تحمل من الصدق مقدار ما تحمله من الميلودراما. أنت كاتبٌ، مثلما أنت يهوديٌّ أو أسود. النجاح مُشجّع، وتفضيل القارئ أمرٌ مُحفّز، لكن هذه جميعها مكاسبُ هامشيّة، لأنّ الكاتب الجيد سيواصل الكتابة على أيّة حال، وإن كان معدمًا، وإن لم تُبَع كتبه. إنّه نوع من التّشوه الخُلقي، والذي يفسّر على نحوٍ جيد الظاهرة الاجتماعية العجيبة التي تسببت بانتحار الكثير من الرجال والنساء جوعًا، من أجل فعل شيءٍ، في نهاية المطاف، وأتحدث بجدية تامة، لا فائدة منه.

 

نشرت أول مرة في يوليو/حزيران 1966، في جريدة الإستبيكتاذور، بوغوتا.