آني إرنو: نحو "أنا" أكبر مني (ترجمة)

2022-10-07 17:00:00

آني إرنو: نحو
إرنو في بيتها. ANDERSEN ULF/SIPA

أن "أصنع" أدبًا. في ذلك الوقت، بالنسبة لي، كان الأدب هو الرواية. أردت من الواقع الذي أعيشه أن يكون أدبًا: فقط حين يصبحُ أدبًا سيصبحُ "حقيقة" وشيئًا آخر غير كونه مجرد تجربة فردية. استخدمتُ بعفوية هذا القالب الذي كان يمثّل الأدب بالنسبة لي وقتها.

نشرت في جريدة Autofictions & Cie عام 1993. عن ترجمة دون إم. كورنيليو إلى الإنجليزية.

 

يبدو بالنسبة لي أن خَلق تاريخ لنصوصي في نفس مجازفة خَلق تاريخ لحياتي. كيف يمكنني أن أشرح طريقة لا أتبيّن حقائقها من خباياها، حيث كل مشروع هو تعبير عن رغبة لا يمكنني تجاهلها؟ مع ذلك، أشكُّ في وجود سبب آخر يمنع من العودة بالزمن: بإلقائي ضوءًا على الطريقة التي كُتبتْ بها كتبي لن أستفيد أي شيء، لأن الكتاب الذي أكتبه الآن، يبدو أمامي حالك الظُلمة. أيمكن أن يكون كلامي ذا فائدة للآخرين، أو نوع من تأريخ للكتابة؟ هذا أمر لا أعرفه.

عندما بدأتُ كتابة "خزائن فارغة" (Les armoires vides/Cleaned Out) لم يكن الهدف من مشروعي هو أن كشف جزء أو كل من حياتي السابقة، بل مجرد بُعد واحد منها: الانتقال من عالم الطبقة العاملة إلى عالم الثقافة المهيمِنة، والفضل للتعليم. أذكرُ أن سؤال الضمير المستخدم، "أنا" أو "هي"، انطلق في الحال. مع التردد، اقترعت على المسألة كثيرًا، ولم تكن قرعتي الأولى. اختار القدر أنها ستكون "أنا"، لكن حقيقة أنني لم أقترع مرة تالية تدل على أن القُرعة قد وافقت تفضيلي. رغم ذلك، لم يكن هناك شك في اختيار الرواية قالبًا. سأكتب حكاية دينيس ليسور في عامها العشرين، التي تُجهِض جنينها في السكن الجامعي، في الستينيات، وتستعيد ذكريات طفولتها ومراهقتها وصولًا إلى هذا الحدث. بِنية تقليدية تمامًا. هكذا سأحلل الآن اختياراتي التلقائية اللاواعية:

  • أن أحافظ على الشك في ربط شخصية تلك "الأنا" بي، الكاتبة (حتى لو لم أكن متأكدة على الإطلاق من أن الكتاب سيُطبَع، كان عليَّ أن أخطط لكل شيء). كتابة الخيال تحمي، إنها وضعية غامضة ومنيعة. لا يمكن لأحد أن يقول، "دينيس ليسور هي أنتِ". في الحقيقة سأكتشف لاحقًا في مقابلة، أنه من السهل أن أعلنَ أن "دينيس كانت ترفض الانصياع لوالديها" عن أن أقول "أرفضُ الانصياع لوالديَّ".

  • أن أستمتع بأكبر قدر من الحرية في الكتابة. قناع كتابة الخيال نزعَ كل أنواع الرقابة داخلي، سمحَ لي أن أتخطّى كل الحدود وأن أكشفَ ما ظلَّ مدفونًا في حلقي عن العائلة، الجنس، أو المدرسة، بأسلوب عنيف وساخر.(1)

  • أن "أصنع" أدبًا. في ذلك الوقت، بالنسبة لي، كان الأدب هو الرواية. أردت من الواقع الذي أعيشه أن يكون أدبًا: فقط حين يصبحُ أدبًا سيصبحُ "حقيقة" وشيئًا آخر غير كونه مجرد تجربة فردية. استخدمتُ بعفوية هذا القالب الذي كان يمثّل الأدب بالنسبة لي وقتها.

كتبتُ ثلاثة كتب بهذه المعتقدات. لا أقول أنها موضع شك في الكتاب الثالث، "امرأة متجمّدة" (La femme gelée/A Frozen Woman)، حيث تقبّلت كلمة "رواية" الموضوعة على الغلاف، لكن هذه المرة باتت "الأنا" مجهولة، تضيف المزيد من الشكوك في أنها تشير إلى الكاتبة. على الجانب الآخر، يُبنى السرد في الرواية عبر الذكريات، ذكريات من الطفولة وصولًا إلى حاضر ضبابي (لهذا استخدمت "متجمّدة")، الذي يمكن أن يكون واقع الكاتبة أو الراوية. باختصار، الحالة الغامضة في هذا الكتاب، تبدو واضحة حينما أقابلُ القراء الذين ينسبون تجربة الراوية إليَّ مباشرة، والذين أصحح لهم باستسلام: "ليست أنا، بل البطلة". 
 


للمفارقة، ابتعدتُ عن قالب الرواية من خلال مشروع الكتابة عن شخص آخر غيري، مشروع الكتابة عن أبي. ليس بشكل مفاجئ، بل عن طريق عملية احتاجت أعوامًا (دستة من المسودات، إحداها وصلت صفحاتها إلى المائة، تشهدُ على صعوبة تركي لهذا القالب وعلى جمود الإلهام أحيانًا)، حيث بدأتُ أتأمل مسألة الكتابة بشكل عام، دورها ومعناها باعتبارها ممارسة(2). توصّلتُ إلى هذا الاستنتاج: الطريقة الوحيدة المناسبة لاستحضار حياة تبدو غير مهمة، حياة أبي، دون أن أخون (الطبقة الاجتماعية التي أتيت منها والتي كنت سأستعيرها موضوعًا) هي عبر تشكيل واقع هذه الحياة بالتحديد وهذه الطبقة الاجتماعية بالتحديد عبر الحقائق الدقيقة، الكلمات المتداولة، وقِيَم ذلك العصر. كان الاسم الذي اخترته للمشروع وللمخطوطة حتى لحظة الانتهاء منها -اخترتُ عنوان "المكان La Place" قرب النهاية فقط- يعكس نواياي بوضوح، "عناصر من أجل إثنوغرافيا عائلية" Elements towards a family ethnography". شعرتُ بشدة أن قالب الرواية سيكون نوعًا من الغش. أن أجعل من أبي شخصية، ومن حياته مصير خيالي، بدا لي استمرارًا لخيانة الحياة في الأدب (حتى لو لم أعد مهتمة بأن أحدد موقعي داخل أو خارج هذا الأخير).

بطبيعة الحال، إذا كانت "هو" تشير إلى شخص حقيقي، فيجب أن تشير إلى "الأنا" نفسها. أيّ التباس كان سيسلبُ الكتاب هدفه. وضعتُ نفسي في النص كإبنة تشارك العالم نفسه الذي عاشه أبي، عامل انقلب صاحب مقهى، أما الراوية، فهي أستاذة جامعية قد دخلت عالم الحديث "المنطقي". فضاء دخيل، مساحة حقيقية يكشفها النص، من المستحيل إخفاؤها، لأن في كتاب كهذا فإن حياة الراوية الاجتماعية، والثقافية، وموقعها هي أمور أساسية.

لذا فإن انتقالي من كتابة الخيال إلى كتابة الواقع ليس لحاجة في نزع القناع لكن مرتبط بمشروع كتابي جديد أصفه في  كتابي "امرأة" (Une Femme/A Woman’s Story) بأنه: "شيء بين الأدب، علم الاجتماع، والتاريخ". بهذا أقصد أنني أحاول صنع الأسمنت من مواد صلبة، من تجارب "مُعاشة"، دون أن أتخلّى عما يجعل الأدب أدبًا، وأساسه الكتابة الجيدة، والالتزام التام بالموضوع الذي أتناوله. معناه أيضًا، بكل تأكيد، أنني أرفض الانتماء لقالب معيّن، ليكن الرواية أو السيرة الذاتية. حتى الخيال الذاتي Autofiction لا يناسبني. "الأنا" التي استخدمها تبدو لي لسان مبني للمجهول، بالكاد له جنس محدد، أحيانًا يكون عالمًا ينتمي "للآخر" أكثر مما ينتمي "إليَّ": قالب أكبر مني، باختصار. ليس وسيلة لأصنع شخصية لنفسي، من خلال نص، من خلال تصوير تلقائي لنفسي، لكنه طريقة لأن أستوعبَ، من خلال تجاربي، علامات الأسرة، الواقع الاجتماعي أو العاطفي. أعتقد أن القالبين، في الحقيقة، على طرفيّ نقيض.

 

هوامش

1- رغم ذلك أتساءل هل كان هذا القدر الكبير من الحرية نانتج من عدم التأكيد من أن ما كتبته سيُنشر أم لا. حين علمتُ أن المخطوطة ستُنشَر، شعرتُ بالخوف، أصبحتُ مدركة فجأة لما كتبته.
2-  لعبتْ المناسبات الخاصة أو العامة، مثل تقديم دورة تدريبية في الكتابة البايوغرافية، دورًا في هذا التأمل. في الحقيقة، كانت الحياة دائمًا تقريبًا هي ما يدفعني إلى مراجعة كتاباتي.