تجنّب أعضاء لجنة الجائزة، بعد الإعلان عن الجوائز، ومفاجأة "جائزة الشرف"، التي لم يسمعوا بها، إثارة موضوع الجائزة المريبة، من وراء ظهورهم، ودون احترام لهم، على الملأ لأنّ في فضيحة كهذه ما يسيء إلى اسم محمود درويش، وينال من سمعة المؤسسة، و"الأخوة" في فلسطين.
الثالث عشر من آذار/ مارس من كل عام هو يوم للاحتفاء بذكرى ميلاد محمود درويش، أحد أبرز رموز الثقافة والأدب في فلسطين والوطن العربي والعالم، ويوم الإعلان عن الفائزين بـ "جائزة محمود درويش للإبداع"، التي تمنح منذ ١٢ عاماً لشخصيات ثقافية فلسطينية وعربية وعالمية.
"رمان" أجرت هذا الحوار مع الكاتب والناقد الفلسطيني حسن خضر، الذي أعد وحرر وقدّم لكتاب «محمود درويش... مقالات "اليوم السابع"»، الصادر عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت (2020)، ليدور الحديث معه حول الكتاب وميراث درويش الشعري والنثري، والمؤسسة الحاملة لاسمه في رام الله، وكذلك الجائزة التي طالتها في دورات سابقة انتقادات عديدة.
بداية، كيف كان شكل علاقة الصداقة بينك وبين الغائب الحاضر محمود درويش؟
قرأت «عاشق من فلسطين» في عام 1969، كانت قد مرّت سنتان على الاحتلال، وكنّا ما نزال نعيش تحت نظام منع التجول في مخيم خانيونس للاجئين، بشكل متقّطع في تلك الأيام. أذكر أنني استعرت الديوان من صديق وقت الغروب، ولم أطق صبراً في طريق العودة إلى البيت، فوقفت تحت عمود للكهرباء، ولم أتوقف عن القراءة حتى فرغت من الديوان، لأكتشف أنني انتهكت الحظر بساعات قليلة، ومن حسن الحظ أنّ دوريات جيش الاحتلال لم تمر من ذلك المكان.
وبعد هذه الحادثة بوقت قصير وجدت نفسي في السجن، وعُذّبت بطريقة قاسية فعلاً بالنسبة لطفل لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر. ومع ذلك، أعانتني القصيدة التي حمل الديوان اسمها على تحمّل الألم، بالمعنى النفسي على الأقل. فقد علقت منها في الذهن، بعد قراءة متكررة على مدار أسابيع سبقت الاعتقال، مقاطع كثيرة، وكان فيها ما يمثل دعماً معنوياً فائق الأهمية.
وإذا جاز اختزال هذا كله، فلنقل إنها كانت تجربة تكوينية أولى (بلغة هذه الأيام)، ففي فترة الطفولة، وأولى مراحل المراهقة، يمر الناس بأحداث تبقى في الذاكرة، وتترك بصمة دائمة على التكوين النفسي والسلوك العام. وبهذا المعنى، اتخذت العلاقة بمحمود درويش طابعاً شخصياً بطريقة درامية تماماً، واقترنت بتجربة تكوينية أولى.
وأود التوقّف عند هذه النقطة، بالذات، لأنها قد تُسهم في تفسير المكانة التي احتلها محمود درويش في المخيال العام للفلسطينيين، وحتى للعرب، ولجيل معيّن على الأقل، بقدر ما فيها من دلالة الشخصي، وبما يتجاوز الشعر، ويحيل إلى مكان وزمان محددين. وهذه الأشياء كلها غير قابلة للتكرار، ولعل فيها ما يفسّر لماذا وكيف احتل محمود درويش مكانة رمزية عالية، ومن وقت مبكر في حياته المهنية كشاعر، وكمثقف ملتزم بقضية شعبه.
فالأمر يحتاج إلى كارثة بحجم الهزيمة الحزيرانية، وإلى إشراقة نبوية بحجم، ومن طبيعة، صعود الحركة الفدائية، مرفوعة على ساعد حركة وطنية فلسطينية قوية وعفية، وإلى علامات كمعركة الكرامة في عام 1968، كانت ثمّة "كرامات" كثيرة في العالم في تلك الأيام. كنّا في زمن تشي غيفارا، وهروب الأميركيين عن سطح سفارتهم في سايغون بعد قليل، وقبلها بقليل صعود سلفادر الليندي واستشهاده.
كل تلك الأشياء كانت شخصية تماماً. كأن كل شيء كان يبدأ من أوّله، وأنت لا تحتاج إلى شيء أكثر من أن تكون في السادسة عشرة من العمر، لا لاكتشاف إمكانية تغيير العالم وحسب، ولكن للإحساس بطريقة فردية وفريدة تماماً، بأنك جزء من عملية التغيير، أيضاً. وفي سياق كهذا، أنشأ ما لا يحصى من الفلسطينيين والعرب علاقات شخصية بمحمود درويش، الذي كان جزءاً من كتيبة مهيبة تضم أسماء كتوفيق زيّاد، ومعين بسيسو، وغسّان كنفاني، وسميح القاسم. كان هؤلاء يكتبون كلاماً شعر ما لا يحصى من الأولاد والبنات، في أوائل العمر والصبوات، أنه كلامهم.
لم نكن نعرف، في حينها، أنّ ثمّة الكثير من خيبات الأمل في الانتظار. فمن الأكيد، مثلاً، إما في الثاني أو الثالث من شهر أيلول (سبتمبر) 1969، أننا أشعلنا، في سجن غزة المركزي، شمعة صنعناها من خيوط نسلناها من بطانيات صوفية، وفركناها بقليل من المارغرين (الزبدة) احتفالاً بثورة الفاتح من سبتمبر الليبية. كانت شعلة مريضة، تطلق دخاناً كثيفاً، ورائحة كريهة. ولم يفكر أحد في حينها في معنى ودلالة هذا المجاز.
على أي حال، لم يكن عقد السبعينيات قد شارف على نهايته بعد، حين قلب الرئيس المصري أنور السادات بزيارته لإسرائيل عالم ذلك العقد رأساً على عقب. كنت طالباً في جامعة عين شمس في القاهرة، عندما انتهى بي الأمر ضمن قائمة طويلة من الطلاب الفلسطينيين، إضافة إلى فرع الاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين في القاهرة، في سجن الترحيلات في حي الخليفة القاهري، ومنه إلى مطار القاهرة الدولي، بالأصفاد في اليدين، وإلى طائرة الخطوط العراقية إلى بغداد.
يمكن وصف كل هذه الأشياء بانتهاك فادح لحقوق الإنسان (بلغة هذه الأيام). والمهم في الموضوع أنّ لقائي الأوّل بمحمود درويش تم في بغداد، في أوائل عام 1978. فقد ربطتني صلة قوية في ذلك الوقت بالكاتب الفلسطيني عبد القادر ياسين، والروائي الأردني غالب هلسا، وكلاهما كان على رأس الاتحاد في القاهرة، ووجد نفسه ضمن المُرحّلين إلى بغداد. كانا يقيمان في فندق متواضع في شارع الرشيد، الشارع الرئيس في العاصمة العراقية، وقد أقمت حينها في حي البتاوين، وواظبت على زيارتهما هناك، وفي أحد الأيام جاء محمود درويش. ولا أستطيع القول إنّ صداقة نشأت بيننا في حينها. وهذا يصدق أيضاً على فترة بيروت، وما تخللها من لقاءات عابرة، وكان حينها في مركز الأبحاث، وكنت أعمل في مجلة "الهدف".
والواقع أنّ إمكانية الكلام عن علاقة جدية تعود بنا إلى أواسط الثمانينيات في تونس، كان محمود درويش مقيماً في باريس، ويتردد على تونس من وقت إلى آخر، وكانت تربطه صلة خاصة بتوفيق فيّاض، وتعود الصداقة بينهما إلى ما قبل مغادرة الاثنين للبلاد، وقد أقاما معاً، إضافة إلى سميح القاسم، فترة من الوقت، في بيت واحد في حيفا. وكان في العلاقة ما يسمح لمحمود درويش أن يلوذ ببيت توفيق فيّاض، في تونس، بالمعنى الحرفي للكلمة، هرباً من التزامات اجتماعية وسياسية مضجرة وثقيلة، وحتى أن يدعو عدداً قليلاً من الأشخاص للقاءات وسهرات هناك.
وفي تلك الأيام، بالذات، وفي ذلك المكان، بدأ ما يمكن تسميته بصداقة امتدت، وتوثّقت أكثر في مرحلة ما بعد أوسلو، في غزة ورام الله، وفي العمل اليومي في "الكرمل"، وحتى أيامه الأخيرة على هذه الأرض.
ما الهدف الأساسي الذي فكرت به حين قررت العمل على كتابك «مقالات اليوم السابع»؟ وما هي الصعوبات التي رافقت إنجازه؟
نُشرت المقالات التي ضمّها الكتاب في مجلة "اليوم السابع"، التي أدارها وحررها بلال الحسن، وهو مثقف فلسطيني بارز، في باريس، بدعم من منظمة التحرير الفلسطينية، في ثمانينيات القرن الماضي، وكانت تلك فترة الحرب على التمثيل، والدفاع عن الهوية، بعد الخروج من بيروت. وبهذا المعنى، كان محمود درويش يكتب في لحظة اشتباك بالمعنى الشخصي والسياسي للكلمة، كما كان، أيضاً، على أعتاب مرحلة جديدة في حياته كشاعر.
كانت "اليوم السابع" تحظى في تلك الأيام برواج كبير في بلدان عربية مختلفة، وفي أوساط الفلسطينيين على نحو خاص، بعض تلك المقالات كانت موضوعاً للنقاش في سهرات ممتدة في تونس. لذا، ثمّة صلة بالمعنى الشخصي، أيضاً.
وأذكر أنني طرحت إعادة نشرها على محمود درويش أكثر من مرّة، بعد العودة في أواسط التسعينيات، فتلك المقالات تكاد تكون مجهولة بالنسبة لجيلين على الأقل من الفلسطينيين. ولم يكن رافضاً للفكرة من حيث المبدأ، بل تعلل، دائماً، بما تستدعي إعادة نشرها من ضرورة الحصول على المقالات، وطباعتها، وتحريرها. وهذه مهمة شاقة، بالفعل.
لذا، فكّرت أنّ في إعادة نشرها ما يحقق رغبة كانت لديه، وما يُسهم في تعريف أجيال لاحقة في فلسطين، والعالم العربي، بما كانت عليه الثمانينيات، وكيف مارس دوره في الدفاع عن الشعب والقضية بلغة النثر في تأملات شعرية، وسجالات سياسية، لم يفقد الكثير منها بريقه مع مرور الوقت، وتحوّلت مجتمعة إلى نص يشهد على زمن، وإلى زمن يشهد على شاعر وله.
وأود في هذه المناسبة توجيه تحية خاصة لأصدقائي الكاتب صقر أبو فخر، الذي ساعد في تصوير المقالات من أرشيف الجامعة الأميركية في بيروت، والروائي الياس خوري، وعالم الاجتماع جميل هلال، إضافة إلى طاقم الأصدقاء والزملاء في "مؤسسة الدراسات الفلسطينية".
الكتاب يضم مختارات وليس كل المقالات التي كتبها درويش في "اليوم السابع"، وهي تتناول الفترة الممتدة من الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 وحتى الانتفاضة الأولى وإعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988. ما هي المعايير التي وضعتها في اختيار المقالات التي احتواها الكتاب؟ وما الذي استبعدته تحديداً ولماذا؟
حكمت عملية اختيار المقالات عدة معايير منها ما يتعلّق بالحجم المُحتمل للكتاب، وقابلية المواد المنشورة للتموضع في وحدة موضوعية أكبر، وكذلك قدرتها على العبور من زمن إلى آخر، إضافة إلى المنشور منها في وقت سابق.
قبل الكلام عن هذه المعايير، ومسوّغاتها أود التوقف عند حادثة تصلح مدخلاً لهذا الموضوع. في العام 2002 كتب محمود درويش القصائد التي ضمتها مجموعة شعرية باسم «حالة حصار»، وكنّا نعيش أحداث الانتفاضة الثانية، واجتياح إسرائيل للمدن في الضفة الغربية في ربيع ذلك العام، وحالة حصار بالمعنى الفعلي للكلمة. وعندما شرعنا في الإعداد لعدد "الكرمل" الجديد، أحضر عدداً من تلك القصائد لنشرها في المجلة. كنّا نرسل المواد في ذلك الوقت للطباعة في مطبعة جريدة "الأيام". كان العدد المُقترح للنشر في البداية كبيراً، ولكنه أعاد النظر في القصائد العائدة من المطبعة، وشطب عدداً منها، وعدّل مرتين على الأقل، قبل الصيغة النهائية في المجلة.
يجب احترام هذه العلاقة بالنصوص. فلا ينبغي التعامل مع نصوص محمود درويش وكأنها من سلالة نص مقدّس. هذه علاقة مرضية بالشاعر، ونصه، ترفعه إلى مرتبة الأيقونة الباردة، وتعتدي على علاقته الخاصة بنصه، وقد كان شديد السخرية من أشخاص يعتقدون أنّ كل ما خطته أناملهم مرشح للخلود. هذا لا يعني أن نقوم نحن بتعديل النصوص، فصاحب النص وحده هو الذي يملك هذا الحق، بل يعني، وبقدر ما أرى، أن نختار من نصوصه، سواء الشعرية، أو النثرية، ما ينم عن احترام لعلاقته بنصه. وقد سبق واستشارتني دار نشر مرموقة في مسألة نشر نصوص لمحمود درويش تعود إلى الستينيات، ومن حسن الحظ أنها اقتنعت برأيي حول عدم جدوى نشرها.
لا ينبغي لاسم محمود درويش أن يرفع نصاً إلى أعلى، بل ينبغي للنص أن يرفع اسمه عالياً. هذا كان ديدنه في حياته، ومصدر قلقه الدائم، فلا فلسطين، ولا القضية، ولا اسمه، ولا المكانة التي احتلها على مدار عقود، كانت ضمانات كافية في نظره للرهان على نصوص يعتقد أنّ ليس فيها من الجمالي، والشعري، وحتى المعرفي، ما يبررها. ومن المؤسف، حقاً، أنّ البعض تجاوز هذه القاعدة. في وقت ما، عندما تترسخ كتابة السير، في حقلنا الثقافي، كجنس أدبي يقوم على معايير مهنية صارمة (لا على طريقة المُخبر الثقافي) ستكون الكثير من المواد الخام مفيدة في هذا الصدد.
نعود إلى مسألة المعايير، تحتاج مقالات "اليوم السابع" إلى كتابين من قطع وعدد صفحات الكتاب الذي نشرته بهذا العنوان. وهذا عبء كبير بالنسبة لدار النشر، وللقارئ على حد سواء. وهناك المقالات والنصوص الشعرية التي سبق نشرها، في أماكن أُخرى بما فيها «خطب الدكتاتور الموزونة»، التي نشرتها في عدد "الكرمل الجديد" في عام 2011، وأصدرتها دار نشر واحدة على الأقل، مقرصنة، وحتى دون الإشارة إلى المصدر، ناهيك طبعاً عمّا لا يحصى من المواقع على الإنترنت.
وثمّة مفارقة تتعلّق بطبعة "دار توبقال" المغربية، في عام 1991، التي ضمّت عدداً من مقالات "اليوم السابع"، دون تأريخ ولا تحرير أو حتى ذكر المصدر، وأعادت دار نشر في بيروت نشر الكتاب، وبعد ربع قرن نشرت "مؤسسة محمود درويش" الطبعة نفسها، وأيضاً بلا تواريخ، ولا تحرير، أو حتى ذكر المصدر، وبطريقة مُحزنة تماماً. لذا، كان في إعادة نشر مقالات نشرت في أماكن أُخرى، مع كل ما ذكرت من نواقص وأخطاء، ما يمثل إعادة اعتبار لها.
وبالنسبة لمعيار الوحدة الموضوعية، فثمّة محاولة للعثور، بأثر رجعي، على ما يمثل معادلاً موضوعياً، بلغة إليوت، بين نصوص مختلفة، لكي لا نكدّسها فوق بعضها خضوعاً لغواية ما يعزز من قيمتها كوثيقة، ويعرقل قابليتها للعبور من زمن إلى آخر. فالمعادل الموضوعي، وحده، هو الذي يمكّنها من الاندماج، ويجعل منها نصاً واحداً متعدد الزوايا والأبعاد. لذا، تجد أنّ الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام، ولا تنتظم مقالاته بطريقة تراتبية حسب تاريخ النشر.
وتبقى مسألة أخيرة تتعلّق باستبعاد مقالات دون غيرها. والمعيار، هنا، مدى حضور النزعة السجالية أو غيابها. وقد استبعدت ما زادت نزعته السجالية، وعلت نبرته السياسية. لكي لا يتضخّم حجم الكتاب من ناحية، ولأنه يستدعي قسماً رابعاً تحكمه وحدة موضوعية من ناحية ثانية. وربما أحاول إصدار طبعة خاصة بما استبُعد مع توضيح وتعيين كافيين بالمعنى التاريخي، والسياسي، والدرويشي، أيضاً، لكي لا نكرر كوارث الطبعات التي أصدرتها مؤسسة تزعم تمثيل محمود درويش.
بتقديرك، لماذا لم يعمل محمود درويش على جمع هذه المقالات في حياته وإصدارها ضمن (الأعمال الكاملة) التي صدرت عن "دار الريّس"؟ ومن ثم ما أهمية ما قمت به والذي كان ثمرته هذا الكتاب؟
كما سبق وذكرت، لم يكن معارضاً للفكرة من حيث المبدأ، ولكنها كانت تحتاج الكثير من الجهد. ومن الجيد، فعلاً، ذكر "دار الريّس"، لأنها الجهة الوحيدة المخوّلة لنشر أعمال محمود درويش بتكليف خطي منه. وقد التقيت، بعد رحيل محمود درويش بوقت قصير، مع رياض الريّس في بيروت، وكان صقر أبو فخر حاضراً في ذلك اللقاء. واتفقنا على إصدار مقالات "اليوم السابع" عن الدار. ولكن وجدت في وقت لاحق أنّ "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، التي تُصدر طبعة خاصة في فلسطين، ربما تكون أفضل في حالة هذا الكتاب بالذات، خاصة وأنّ سلطات الاحتلال تمنع دخول المطبوعات اللبنانية.
وبالنسبة للأهمية، لا أملك الحق في المبالغة. كل ما في الأمر أنّ محمود درويش كان وطنياً، وصاحب هموم سياسية، لا يترفع بدعوى الانشغال بالشعر عن الواقع، كما يفعل البعض، بل ينخرط فيه، ولا يدّعي الحياد، أو يخجل من التحيّز والانحياز. وكل ما في الأمر، أيضاً، أنّ الإسلام السياسي، الذي مرضت به الوطنية الفلسطينية، يحاول شطب تاريخ كامل من كفاح الوطنية الفلسطينية وممثليها الثقافيين، ومنظمة التحرير، وكأنّ تاريخ فلسطين لم ولا يبدأ إلا بهم. وكل ما في الأمر، أيضاً، أنّ هذا شغل في الذاكرة وعليها، أيضاً. ذاكرة الشعب، والقضية، والثقافة الوطنية، خاصة وأن الأجيال الجديدة لا تعرف الكثير عن هذا التاريخ.
في قائمة تضم أفضل 11 كتاباً صدرت في العالم العربي عام 2019 كان نصيب فلسطين والفلسطينيين منها ثلاثة كتب، واحد منها كتاب «مقالات اليوم السابع». ماذا عنى لك ذلك على الصعيد الشخصي؟
كانت تلك مفاجأة سارة، خاصة وأنّ جهة التقييم تتبع مؤسسة دولية تحظى بسمعة علمية ومهنية عالية هي "كارنيجي". وأعتقد أنّ ما لفت انتباههم على نحو خاص، كان الجهد التحريري، والالتزام بالضوابط المهنية ذات الصلة في مثل هذا النوع من الأعمال. ولكن الكتاب لم يحظ باهتمام حتى من "مؤسسة محمود درويش"، التي حاولت ابتزاز الناشر، في موضوع نشر الكتاب، والتي لم تكلف نفسها، مع كل هذه المزاعم، حتى عناء ذكره على صفحتها، التي تسوّق عليها فناجين قهوة، وتي شيرت، وأقلام حبر، تحمل اسم محمود درويش.
أسوأ ما أدخلته الليبرالية الجديدة، والعولمة المتسارعة، أنها دمجت السياحة بالثقافة، بل ويتم الكلام عن "السياحة الثقافية"، والواقع أنّ إلغاء الفرق بين السياحة والثقافة، وإخضاع النشاط والممارسة الثقافيين لمنطق السوق، وعلاقات واستراتيجيات الدعاية والإعلان والتسويق، ألحق كارثة حقيقية بفكرة الثقافة في كل مكان من العالم، بما فيه الثقافة في بلادنا بطبيعة الحال. أما عن العالم العربي، والجوائز، والمهرجانات الثقافية، فحدّث ولا حرج.
لماذا لم يصدر كتاب بقيمة وأهمية «مقالات اليوم السابع»، عن "مؤسسة محمود درويش"، في رام الله، وصدوره عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت؟
ثمّة مشكلة تتعلّق بالمهنية والكفاءة. فهم نشروا طبعة "دار توبقال"، حتى دون معرفة أنها مقالات "اليوم السابع"، وكما ذكرنا دون تحرير، أو تأريخ، أو تقديم يليق بالعمل وصاحبه، ناهيك طبعاً عن الأخطاء الفادحة في كل ما أصدروا من منشورات. وبالنسبة لـ "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" فهي مؤسسة مرموقة، وذات معايير مهنية عالية، لذا رحّبوا فوراً بمخطوطة الكتاب، وأنجزوا نشرها في زمن قياسي بالفعل.
ما هي تحفظاتك على مجموعة الكتب التي نشرتها "مؤسسة محمود درويش"، التي ترى أنها نشأت للحفاظ على ميراث محمود درويش الشعري والنثري، وما خلفيات دعوتك لسحب هذه الكتب من السوق، وإعادة النظر في مهنية وكفاءة المعنيين بالنشر في المؤسسة ومجلسها التنفيذي؟
كما ذكرت للتو، المنشورات تضم معلومات خاطئة عن محمود درويش. وكلها على طريقة القص واللصق، بلا تحرير، ولا تقديم، ولا تأريخ. وهذا ما لا يمكن التسامح معه بالنسبة لمؤسسة نشأت للحفاظ على ميراثه. وأكرر الدعوة إلى سحبها من التداول، وكذلك الكلام عن افتقار المجلس التنفيذي للمؤسسة لمعايير الكفاءة والمهنية.
أرجو أن توضح لنا كيف افتقدت المؤسسة الالتزام المهني والأخلاقي بحقوق الملكية الفكرية، ومن هي الجهة الرئيسة صاحبة هذه الحقوق، هل هي أسرته أم الناشر الأصلي (دار الريّس) أم من؟
ما أعرفه وكنت شاهداً عليه أن "دار الرّيس" هي الوحيدة المخوّلة بنشر أعمال محمود درويش بالعربية، بتكليف رسمي منه. وكذلك "آكت سود" الفرنسية المكلفة بنشر أعماله بالفرنسية ولغات أُخرى. وكل ما عدا ذلك مقرصن. فكتاب «عابرون في كلام عابر»، مثلاً، الذي نشرته "مؤسسة محمود درويش" لم تحصل على إذن بشأنه من الناشر الأصلي، أي "دار توبقال"، وهذا ما أعرفه بناء على اتصال مع الناشر.
بالنسبة للمقالات المنشورة في مجلات، الحق في إعادة نشرها، حسب قوانين المطبوعات، يعود إلى صاحب المطبوعة، سواء المجلة أو الجريدة، لهذا السبب حرصت على الحصول على إذن بنشر مقالات اليوم السابع من الأستاذ بلال الحسن، كما حرصت على الحصول على إذن لأسباب معنوية من شقيقَي محمود درويش، أحمد وزكي.
وللسبب نفسه، رفض فتحي البس، صاحب "دار الشروق"، نشر أعمال محمود درويش باسم المؤسسة، ما لم تحصل له على إذن من الناشر الأصلي، أي "دار الريّس". والمفارقة أنّ أحد الناشرين التجاريين، الذي أخذ على عاتقه إصدار منشورات المؤسسة، دون إذن من الناشر الأصلي، يشتغل في مجلسها التنفيذي، أيضاً.
هل تعتقد المؤسسة أنّ أشقاء محمود درويش، كورثة شرعيين، هم أصحاب الحق الحصري في حقوق الملكية الفكرية؟ هذا يستدعي تسوية بينهم وبين "دار الريّس" و"آكت سود"، ونشر التسوية بصفة رسمية على صفحة المؤسسة، كما يقتضي، أيضاً، تفويضاً رسمياً من ورثة محمود درويش الشرعيين للمؤسسة التي تحمل اسمه بممارسة صاحب الحق المعنوي المفوّض في حقوق الملكية الفكرية، وما دون ذلك يظل موضع شك.
برأيك لماذا عجزت "مؤسسة محمود درويش" أن تصبح مرجعاً للباحثين في نصوص الشاعر الراحل وسيرته، وما هو المطلوب لتصحيح مسارها بما يخدم ما نص عليه المرسوم الرئاسي الذي نشأت بموجبه المؤسسة وهو "المحافظة على جميع مكوّنات تراث الشاعر الراحل محمود درويش"؟
لا تصحيح لمسار المؤسسة، وبما يخدم المرسوم الرئاسي، مع بقاء المجلس التنفيذي الحالي. أنا أحد المؤسسين، وكاتب بيان التأسيس، كما أسهمت في وضع ميثاق المؤسسة، ونظام الجائزة. وقد كانت لديّ منذ الاجتماع التأسيسي الأوّل في عمّان، في العام 2010، ملاحظات وتحفظات بشأن مهنية المؤسسة، وطريقة صنع القرارات فيها، ذكرتها بعد الاجتماع الأوّل لاثنين من أصدقائي وكلاهما مثقف بارز في حقلنا الثقافي، وعضو مؤسس، شاركا في الاجتماع التأسيسي، هما أحمد حرب، وإبراهيم أبو هشهش، وكلاهما حي يرزق، ويذكر هذا الكلام. بمعنى أنّ التحفّظات في هذا الشأن قديمة، وقد سبقت انسحابي من المؤسسة بوقت طويل.
طالت "جائزة محمود درويش" في السنوات الأخيرة انتقادات عديدة، ما نظرتك أنت؟ وهل يمكن الفصل بين الجائزة وراعي الجائزة، أي السلطة؟
كانت الفكرة الأصلية أن تكون المؤسسة مستقلة، ولكن جرى دمجها في مؤسسات منظمة التحرير في وقت لاحق. وبالنسبة للجائزة، وقد أسهمتُ في وضع نظامها الأساسي، الذي تعرّض للتشويه في وقت لاحق، كانت الفكرة الأساسية أن تكون "جائزة محمود درويش"، وكذلك مؤسسته، مرجعية أخلاقية وثقافية لقيم بعينها تتجاوز فلسطين، وتنفتح على العالم العربي، والعالم، وهي لا تستهدف "تشجيع" الثقافة، أو حتى القيم في الحقل الثقافي، فلا "جائزة نوبل" ولا "بوكر"، تفعل هذا، بل تسعى لتصبح حكماً على القيم ومرجعية لها. لا يليق بمحمود درويش شيء أقل من هذا.
وأذكر أنّ هذا كان في صميم الحوار بيني وبين الدكتور جابر عصفور، في الاجتماع التأسيسي للمؤسسة، بشأن القيمة المالية للجائزة، وكنت معارضاً لفكرة جائزة ذات قيمة مادية عالية. وما حدث في الواقع، وتجلى بطريقة كارثية في نشاط المؤسسة أنها أصبحت منصة محلية وضيّقة تماماً، "تشجّع" "المواهب"، و"تطلق" الكتب، وتمنح "الجوائز"، تحت توقيع محمود درويش، الذي يمكن تحليل حضوره الكثيف، أعني التوقيع، بطريقة فرويدية تماماً، وتنطوي على، ومحاولة لتكريس، دلالة "حامل الأختام". والصحيح أنّ مؤسسة كـ "القطان"، في رام الله، تقوم بعمل في الحقل الثقافي أكثر مهنية وكفاءة مما تفعل "مؤسسة محمود درويش". من المحزن، حقاً، أنّ لا شيء يحضر من الفائزين بالجوائز على صفحة المؤسسة إلا صورهم، أما من هم، ولماذا هم، فهذا ما لا يلفت انتباه أحد في المجلس التنفيذي.
لك موقف ناقد من إقحام المجلس التنفيذي للمؤسسة "جائزة الشرف" على القانون الأساسي للجائزة، وكان أن وصفتها بالبدعة لتمويه حسابات شخصية ضيّقة. فما هي مبررات هذا الموقف؟ وما الذي خفاه هذا الإقرار والمنح الذي تم من وراء ظهر لجنة الجائزة، حسب علمك؟
"جائزة الشرف" أُقحمت فعلاً، وناهيك عن كونها بدعة، فقد تمت من وراء ظهر لجنة الجائزة. هذا ما أعرفه بصفة شخصية بعد حديث مع محمد برّادة رئيس لجنة الجائزة، وآخرين من أعضائها. كان ينبغي التحقيق في "مصادفة" حصول عضو في المجلس التنفيذي لـ "مؤسسة محمود درويش" على جائزة من مؤسسة لبنانية، وفوز رئيس لجنة الجائزة في المؤسسة اللبنانية بـ "جائزة محمود درويش" بعد أشهر قليلة، حتى دون طرح اسمه كمرشّح في اجتماع لجنة الجائزة، لسماع رأي الأعضاء في هذا الأمر.
تجنّب أعضاء لجنة الجائزة، بعد الإعلان عن الجوائز، ومفاجأة "جائزة الشرف"، التي لم يسمعوا بها، إثارة موضوع الجائزة المريبة، من وراء ظهورهم، ودون احترام لهم، على الملأ لأنّ في فضيحة كهذه ما يسيء إلى اسم محمود درويش، وينال من سمعة المؤسسة، و"الأخوة" في فلسطين.
أخيراً، ماذا عن مشاريعك الكتابية الراهنة والمستقبلية؟
اشتغلُ في الوقت الحاضر على تحوّلات ثقافية وسياسية عاشها العالم العربي في السنوات القليلة الماضية، وأرجو أن تكتمل في صورة كتاب قبل نهاية هذا العام. أما المستقبلي، فأرجو أن أتمكن من كتابة "سيرة" لمحمود درويش، اقترحها سليم تماري قبل أشهر، ولمعت الفكرة في ذهني فعلاً، وتعاود الإلحاح من وقت إلى آخر.