إدوارد سعيد والنزعة الأوروبية في خطاب الاستشراق

2021-03-09 15:00:00

إدوارد سعيد والنزعة الأوروبية في خطاب الاستشراق

أساء العديد فهم إدوارد وغاياته، فنقده اليمين المتطرف بالإرهابي المستميت بالدفاع عن المسلمين وهو المسيحي، وهاجمه بعض المستشرقين متحاجين بكونه يدعي أن من حق الشرقي فقط دراسة الشرق. سوء فهم إدوارد وكتابه أحدث هوة بين بغيته والجمهور القارئ.

يدغدغ اسم إدوارد سعيد المخيلة العربية، فهو الناقد اللاذع الرافض لخطاب الاستشراق من سال حبره مدافعا على رصيد ثقافي عربي ومن كان له الحضور الأخاذ في أروقة جامعة ستانفورد. 

أعاد إدوارد سعيد فتح  أبواب حوار توصد أقفاله في كل مرة يحاول فيها أحد المفكرين نقد خطاب الاستشراق وإخضاعها لرؤية تحليلية منطقية، ليؤلف كتابه الاستشراق المثير لجدل واسع بين صفوف المستشرقين فقسم الغرب بين شق مساند لأطروحته وبين شق رافض رفضا راديكاليا. ولم يكن سعيد في بادئ الأمر ميقنا للضجة التي يمكن لكتابه أن يحدثها والذي كان ثورة بحد ذاتها أعاد القارئ والأكاديمي من خلاله النظر في مسائل قد تبدو بديهية ولكنها فائقة الأهمية. 

يرى سعيد أن خطاب الاستشراق هو أداة الغرب في استعمار الشرق فكريا من خلال تجريدهم من خصوصياتهم وإفراغهم من كل ما قد يميزهم، مشوهاً من الحضارة العربية التي اكتست جراء دراساتهم الأكاديمية العقيمة جلباب البربرية.  هو ماكينة كولونيالية تختفي خلفها مطامع الغرب الإمبريالية وهو على حد تعبيره: "الفرع المنظم تنظيماً عالمياً الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبّر الشرق -بل حتى أن تنتجه- سياسياً، واجتماعياً، وعسكرياً، وعقائدياً، وعلمياً، وتخيلياً، في مرحلة ما بعد (عصر) التنوير ."

ليكون خطاب الاستشراق بذلك مؤسسة استعمارية بالأساس لا تهدف إلى درس وتحليل الحضارة العربية ونقلها بموضوعية إلى الضفة الأخرى بل تقوم بمحاولات طمسها ودهسها ودفنها، وتسويق العرب على أساس كونهم بعيدين كل البعد عن ركب الحضارة وترويج أن الحل يكمن بين يدي الغرب الذي يتجلى دائما في صورة البطل المنقذ. 


وقد لاحظ إدوارد أن خطاب الاستشراق ليس تعرفا على الشرق أو محاولة التقرب منه حضاريا وفكريا بل استنباط خصوصياته وإعادة صناعته وتشكيله من منظورهم الضيق. وانتقد المراكز الامبريالية الغربية وفضح تناقضاتها الصارخة فهي التي تنادي بالحرية من جهة وتدعو دوما استنادا على ثورات فكرية وفلسفية عرفتها إلى الاحتكام إلى العقل المتقد وتصوب بنادقها نحو الأبرياء من جهة أخرى. 

أسست كتب إدوارد نظرة نقدية واسعة فهو لا يتوجه إلى الغرب فقط بل العالم أجمع، لإعادة النظر في المسألة، فقد اتسمت إسهاماته بمسؤولية أخلاقية كبيرة إزاء مشكلات عديدة، فاشتغل على سؤال الإنسان الذي يتطلّع إلى التحرّر من المخيّلات الكولونيالية والإمبريالية وأوضحت النزعة السلطوية والتسلطية التي يكرسها، مثل خطاب الاستشراق، الذي بتقزيمه للشرق، يغذي الأنا الجاحدة للغربي ويغرس فيه بطريقة غير مباشرة النرجسية العمياء. وقد تطرق سعيد أيضا للحديث عن دوغمائية الأكاديميين العرب الذين يتعرفون على حضارتهم من دراسات المستشرقين عوض تصفح أفكار المفكرين المحليين، فكان الأكاديمي يشكك في المفكرين العرب وينزع عنهم جلباب العلم منساقا خلف الرأي القائم والقائل إن كل دراسة غربية هي تلك التي يحتذى بها والتي تعد العماد. وفي هذا الصدد يقول: "علينا هنا أن نتسلح بالواقعية الكاملة في وصف الأوضاع الناجمة، إذ لا يملك باحث عربي أو إسلامي أن يتجاهل ما يُنشر في الدوريات العلمية ولا ما يحدث في المعاهد والجامعات في الولايات المتحدة و أوروبا والعكس ليس صحيحاً.

والنتيجة المتوقعة لهذا كله هى أن الطلاب الشرقيين (والأساتذة الشرقيين) لا يزالون يريدون أن يأتوا ليتعلموا من المستشرقين الأمريكيين، حتى يعودوا ليكرروا على مستمعيهم المحليين نفس القوالب الفكرية واللفظية التي وصفتها بأنها عقائد استشراقية جامدة. ومثل هذا النظام من التكاثر أو الاستنساخ يدفع الباحث الشرقي حتماً إلى إستخدام تعليمه الأمريكي في الإحساس بالتفوق على أبناء وطنه بسبب قدرته على "الإحاطة" بالنظام الاستشراقي وتطبيقه، ولكنه يظل مصدر معلومات وطني في علاقاته برؤسائه من المستشرقين الأوروبيين أو الأمريكيين."

مفكرنا الفلسطيني طرح مسألة مهمة في الفكر ما بعد الكولونيالي ألا وهي ماهية الشرق والغرب. يتساءل سعيد عن معنى الشرق والغرب وعلى أية ركيزة ينعت الشرق شرقا والغرب غربا وكيف يمكن رسم حدود للامتداد الجغرافي؟ نقاش كهذا قد يدفعنا أصلا لإعادة التفكير في اقتران مصطلح الغرب بالتقدم والازدهار، والشرق بالتقهقر الفكري والعجز.

نرى تجليات هذا في صورة العربي المسوقة لها في الغرب كذلك المعتوه مسلوب الإرادة والفكر الذي لا يعمل عقله ولا يتساءل عن معنى الوجود. صارت الحضارة العربية نكرة وكأنها لم تقدم شيئا للتاريخ. وحرفت الكثير من الدراسات الاستشراقية الواقع المشرقي وغدا بذلك الاستشراق أداة تحويل وتوجيه الرأي العام الغربي، بل تغلغلت تلك الكليشيهات والمغالطات في العربي، فتسويق الفشل لم ينشئ إلا جيلا فاشلا، وزرع فكرة تفوق الغرب لم يخلق إلا عربا خانعين.

إن الاستشراق دراسة مؤثرة بشكل نافذ خاطب فيها إدوارد العالم ناقدا النزعة الغربية انطلاقا من واقع غربي قد عايشه وألفه وفقه مقوماته، واهتم كذلك بحركات التحرير فهو المولود في فلسطين التي ستصير محتلةً، لا يمكنه إلا الاصطفاف جنبا إلى جنب مع كل مظلوم، وأبدى اهتماما باستعمار الجزائر وألقى خطابا قبل وفاته حول الإنسانية بعد شن الحرب على العراق لينتقد الإدارة الأمريكية وسياستها القمعية في حق الشعوب تحت شعار الديمقراطية وتحريرهم من جلادهم. 

أساء العديد فهم إدوارد وغاياته، فنقده اليمين المتطرف بالإرهابي المستميت بالدفاع عن المسلمين وهو المسيحي، وهاجمه بعض المستشرقين متحاجين بكونه يدعي أن من حق الشرقي فقط دراسة الشرق. سوء فهم إدوارد وكتابه أحدث هوة بين بغيته والجمهور القارئ.

إن سعيد أولا أراد تعرية النوايا من وراء منظومة الاستشراق والتي تغلب على جلها النزعة التسلطية ومن هنا يمكن الإحالة إلى التقارب بين أطروحة فوكو والذي يرى المعرفة كأداة سلطوية يمكن تطويعها لأغراض سياسية، وإدوارد التي يراها أداة سلطوية تعتمد لتكبيل أيدي العرب تحت عنوان التعرف عليهم.

ثانياً، لا تهدف منهجية إدوارد إلى منع الغرب من التعرف واكتشاف الشرق بل يعد كتابه الاستشراق مرآة يرى الغرب من خلالها النقائص التي وجب الوقوف عليها.

فلسطيني الجذور وكونيّ الهوية، ينتمي إدوارد إلى الإنسانية في كليتها مدافعاً مستميتاً عن القضية ومكرّساً حياته مناقشة لأطروحته "الاستشراق". هذه الأطروحة التي هوجمت في حياته ومماته، ومن جهات عدة فسرتها على أهوائها.