إن دورنا كمؤسسات فلسطينية نسوية كويرية هام ومفصلي في توفير مرجعية وبيت وعنوان للمثليين والمثليات والعابرين والعابرات، وفي أن نعمل معاً على بلورة الوعي المجتمعي في هذه القضايا رغم التشويه والهجوم الحالي الذي نتعرض له من خلال ظهورنا وحديثنا عن الموضوع.
دخل النقاش حول الحريات الجنسية والجندرية في الفترة الأخيرة مرحلة جديدة وبدأ ينتقل من حيّز النخبة الثقافية إلى الحيّز الشعبي الفلسطيني وإلى بيوتنا من خلال الجدل الواسع في وسائل التواصل الإجتماعي والإعلام عامة. فقد بدأنا نرى تحطيماً للتابوهات في طرح موضوع المثلية، فمجرد نقاش الموضوع ونقده وإثارة جدل واسع حوله، ينقله تدريجياً من هامش الأجندة المجتمعية إلى مركزها. وهذا، بدوره، يسهم في إحداث التغيير المجتمعي والفعلي المرجو على أرض الواقع.
حظيَ موضوع المثلية بمساحة إعلامية لم يسبق لها مثيل في الداخل الفلسطيني، وأثار نقاشاً على مستوى القيادات السياسية والمجتمعية، كما سلّط الضوء على الدور المهني والأخلاقي للأخصائيين/ات والمعالجات/ين في أعقاب تصويت البرلمان الإسرائيلي على تعديل مقترح قانون الأطباء النفسيين (تعديل يمنع علاجات "تصحيح" المثلية).
ما الذي أثار النقاشات في الشارع الفلسطيني خلال السنة بالذات؟
هنالك سلسلة من الأحداث، في العام الأخير وحسب، من شأنها أن تفسّر ولو جزئياً هذه الضجة المجتمعية. أولها كان طعن مثليّ فلسطيني في مدينة تل أبيب، التي يسعى النظام الاستعماري الإسرائيلي لترويجها في كل مناسبة كجنة عدن للمثليات/ين، لترسم صورة زائفة للمجتمع الدولي وتلوّن انتهاكاتها وجرائمها الجسيمة بحق الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات باللون الوردي. وقد شهد الشارع الفلسطيني في أعقاب هذه الجريمة التفافًا شعبيًا قادته مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني النسوية والحقوقية والتي انطلقت بصوت واضح ومسؤول في وقفة احتجاجية، الأولى من نوعها في فلسطين التاريخية، ضد العنف الجندري الممنهج تجاه المثليات/ين، العابرات/ين. وقد شارك في الوقفة المئات من النشطاء/الناشطات والأهالي والشبيبة الفلسطينيين/ات.
أما الحدث الثاني فقد كان غرق الراقص والفنان المثلي، أيمن صفية، في شاطئ قرب حيفا، وما صاحبه من تخاذل للسلطات الإسرائيلية في البحث عنه من جهة، ومن جهة أخرى دعوات من جهات دينية أصولية لعدم إتمام الطقوس الدينية المألوفة في حالات الموت. بين رافض ومؤيد، شارك الآلاف من الشباب والأهالي في تشييع جثمان أيمن صفية في جنازة لم يسبق لها مثيل تقريباً في وسط بلدته كفر ياسيف، مما وضع، مرة أخرى، قضية المثلية على الساحة المجتمعية وفي وسط البيت الفلسطيني.
والحدث الثالث كان قرار شركة "طحينة الأرز" العربية في الناصرة بالتبرع لمنظمة مثلية صهيونية تدعى "أغودا" تُعنى بحقوق المثليين/ات الاسرائيليين/ات، وتروّج سياسات الحكومة الإسرائيلية، وتعمل على تعزيز حملات الغسيل الوردي، مما وضَع قضية الغسيل الوردي في السياق الإسرائيلي- الفلسطيني وتأثيراته على حلبة النقاش العام.
وأخيرًا، كان تصويت القائمة المشتركة على تعديل مقترح قانون الأطباء النفسيين (تعديل منع علاجات "تصحيح" المثلية) . للتوضيح، تضع هذه العلاجات الميول المثلية في خانة مَرَضية، مما يتناقض تماماً مع الأبحاث العلمية المرجعية، وبالذات لكون منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة أكدت أن المثلية طبيعية وتم حذفها من لائحة الأمراض العقلية في السابع عشر من أيار عام 1990.
لماذا علينا الحديث عن المثلية علناً؟
لأن المثليات/ين، ببساطة، هن/م جزء لا يتجزأ من المجتمع الفلسطيني، ويحق لهن/م الحياة بسلام وكرامة مع توجهاتهن/م الجنسية والجندرية. هنالك عدة أفكار مسبقة وغير صحيحة عن الجنسانية بشكل عام وعن الهويّات الجنسيّة، الجندرية بشكل خاص في مجتمعنا، وبالتالي يواجه المثليون والمثليات والعابرون والعابرات ومزدوجو/ات الهوية الأفكار النمطية والرفض والتمييز والعنف. كما إن التهميش والتعتيم على هذا الموضوع يؤديان إلى الشعور بالوحدة والعزلة والإقصاء والخوف من الكشف العلني والعيش بحرية وأمان مع الهويات الجنسية والجندرية المتعددة.
إن دورنا كمؤسسات فلسطينية نسوية كويرية هام ومفصلي في توفير مرجعية وبيت وعنوان للمثليين والمثليات والعابرين والعابرات، وفي أن نعمل معاً على بلورة الوعي المجتمعي في هذه القضايا رغم التشويه والهجوم الحالي الذي نتعرض له من خلال ظهورنا وحديثنا عن الموضوع.
كما نعلم من تاريخنا أن المثلية نمط من أنماط العلاقات الطبيعية الموجودة في كل الثقافات والحضارات، الحضارات الإغريقية والصينية ووصولاً إلى الحضارة العربية. فالمثلية كانت حاضرة في الحيّز العام في العصرين العباسي والأموي، وكثير من كتب التاريخ والأدب والشعر كتب عنها في حضارات العرب والصحراء.
ما علاقة تبرع "طحينة الأرز" لجمعية مثلية إسرائيلية صهيونية بالغسيل الوردي؟
كي نفهم الضجة التي أثارتها شركة "طحينة الأرز" بتبرعها لمؤسسة مثلية إسرائيلية صهيونية توفر خط دعم للمثليين العرب، علينا أن نفهم مصطلح الغسيل الوردي، Pinkwashing، وهو مصطلح يتم طرحه عندما تقوم أنظمة ودول بتوظيف قضايا التعددية الجنسية والجندرية والحقوق المثلية للتغطية على عنفها وجرائمها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان. في واقعنا الفلسطيني، تعرض إسرائيل نفسها للعالم كجنة عدن للمثليين والمثليات للتغطية على جرائم الاحتلال والفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني والحصار والتطهير العرقي المتدرج. تكمن خطورة استراتيجيّة الغسيل الوردي في ترسيخ صورة عنصريّة وخاطئة عن الفلسطينيين والعرب بشكل عام من خلال وصفهم بالرّجعيّة والتخلّف وكمَنْ يعانون جينياً من رهاب المثليّة.
إن قرار شركة "طحينة الأرز" العربية بدعم جمعية مثلية صهيونية مثل "أغودا" يصب في دعم القمع ضد الفلسطينيين لأنها لا تعمل على مناهضة الاحتلال وسياسات الفصل العنصري والاستعمار وفك الحصار عن غزة، أو الاعتراف بكافة حقوق الشعب الفلسطيني بموجب القانون الدولي، ولا على ربط النضالات ضد كل أشكال العنف والاضطهاد.
إنه لأمر مستهجن أن تختار شركة "طحينة الأرز" دعم مؤسسة إسرائيلية منتهكة لحقوق الفلسطينيين/ات، بمن فيهم/ن المثليون/ات، خاصة في وجود حراكات ومؤسسات فلسطينية نسوية كويرية تعمل في كل فلسطين التاريخية (48 و 67) منذ عقدين وعلى رأسها "أصوات - المركز النسوي الفلسطيني للحريات الجنسية والجندرية" و"القوس" و"منتدى الجنسانية".
من المهم، برأيي، أن نعترف بأن واقعنا السياسي والاجتماعي كأقلية مُركّب، وأن نكثّف، بالتالي، من جهودنا التقاطعية لربط نضالنا الاجتماعي بالوطني بشكل أوثق، ولرفع الوعي المجتمعي وتحريك الشارع الفلسطيني للنهضة من أجل الحريات الفردية والجماعية والعمل على بناء مجتمع يحترم التعددية والاختلاف بشكل موازِ للنضال من أجل التحرر وتقرير المصير وعودة اللاجئين.
ما هو دور القيادات السياسية في الداخل في قضية المثليين/ات؟
القيادات السياسية في الداخل وعلى رأسها "القائمة المشتركة" موجودة اليوم على المحك في قضية الحقوق الجنسية والجندرية. هناك مطالبة مؤسساتية نسوية أكثر وضوحاً من السابق بأن تتخذ هذه القيادات موقفا تقدميّاً واضحاً ومسؤولاً. فالتصويت الأخير على مقترح تعديل قانون العلاج التصحيحي للمثليين كشف التضارب الموجود داخل قيادات في "القائمة المشتركة"، مما أدى إلى خيبة أمل الناشطات/ين المجتمعيات/ين، خاصة من أحزاب كنا نعتقد أنها تقديمة وداعمة لقضايا المثليين والمثليات، وأخص بذلك حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" الذي امتنع عن التصويت.
أصدرت مؤسسة "أصوات" بياناً بهذا الصدد، موضحة خطورة صمت السياسيين/ات بهذا الشأن، وتحديداً عندما يكون الطرح حول قانون خطير كقانون العلاج التصحيحي للمثليين/ات.
كما وسلّط موضوع التصويت على القانون الضوء على أخلاقيات العمل في مجال العلاج النفسي والدور المفصلي الواقع على الأخصائيين النفسيين وواجبهن/م المهني في التأكيد على مرجعية منظمة الصحة العالمية بأن المثلية طبيعية وليست بحاجة لعلاج, مما دفع رابطة السيكولوجيين العرب لإصدار بيانٍ يؤكد أن "تعدّديّة الهويات الجنسيّة والجندريّة باتت حقيقةً في الوقت الذي تشير فيه الأدبيّات النفسيّة بوضوح إلى فشل ما يسمّى بـ "العلاج الإصلاحيّ" وإلى انعكاساته السلبيّة المدمّرة على الصحّة النفسيّة والجسديّة للأفراد" وأشارت إلى أهمية المساهمة في إتاحة مساحة رحبة من الحوار حول المواضيع التي تعنى بالحريات الجنسية والجندرية.
يتميز هذا الجدل بأنه بات أكثر شعبية وأكثر تعبيراً عن آراء ومواقف الناس في الشارع الفلسطيني بكل أطيافه. إن الأغلبية من المجتمع تسمع الآن وتقرأ الجدل المدوي على وسائل التواصل الاجتماعي، بعضها يساند، بعضها يناصر، والبعض يشعر بوجود خلل، لكن هذا الجدل يصب في سيرورة التغيير. لذا علينا أن نستثمر جهداً أكبر في تغذية هذا النقاش بالحقائق والمقترحات العملية المدروسة والفعالة والمسؤولة لرفع الوعي الفردي والمجتمعي من خلال فتح فضاءات للنقاش وتوفير مساحات آمنة وداعمة للمثليات والمثليين.