مُقدّمة لانهيار اللـ*** (كيف تضيق بنا بيروت)

2019-10-15 14:00:00

مُقدّمة لانهيار اللـ*** (كيف تضيق بنا بيروت)
RANA SAMARA

لكن الحقيقة تقول إن الحدود حقيقية جداً، وإن الاحتلال لا يمكن له أن يكون في الخلفية ونحن نحلم بعودة فردية أو جماعية. الحقيقة تقول إني أعود إلى بيروت وفي كُل مرّة تضيق بي وبنا. منذ سنة تقريباً، لم تعد كبيرة كما كنت أشعر، لم تعد متسامحة، لم تعد جميلة، وبالتأكيد لم تعد مدينتي.

من أشهر، قررت أني استنفدت مخزون الحزن عندي، ولم يبق منّي شيء لم أستهلكه، حتى لم أعد أعرف كيف أبكي. جُفّ البئر، وتمرّغت أياماً عدّة في السرير لا أريد أن أخرج منه، وسمعت كُل الأغاني الحزينة، وتخيّلت كل السيناريوهات التراجيدية عن كيف سيكون المستقبل قاتماً وباهتاً وقبلت أني هنا وأنتن هناك وقررت أن كُل هذا مفيد للقضية وفلسطين. فكُلما نتخطى هذه الحدود ونلتقي ونضحك ونغني، تصبح الحدود أصغر وأتفه مما اعتقدت، وصرت أحسب إني سوف أجد الطريقة السحرية التي لم ينتبه لها أحد وأعود إلى رام الله أو نابلس مثلاً كأني كنت دائما منهاً وسوف تقطعن الحدود من حيفا وربما أنا يوماً ما، وسوف يكون لدينا يومياتنا التي حسب ما أفكر تعبث فيها السلطة والاحتلال ككومبارسات في الخلفية، وضمن تخيلاتي الكثيرة عن كيف أريد أن أكون في مكاني الطبيعي، أو كيف لا أريد أن أكون هُنا.  

لكن الحقيقة تقول إن الحدود حقيقية جداً، وإن الاحتلال لا يمكن له أن يكون في الخلفية ونحن نحلم بعودة فردية أو جماعية. الحقيقة تقول إني أعود إلى بيروت وفي كُل مرّة تضيق بي وبنا. منذ سنة تقريباً، لم تعد كبيرة كما كنت أشعر، لم تعد متسامحة، لم تعد جميلة، وبالتأكيد لم تعد مدينتي. لا يوجد مكان لكُل هذه السرديات والتفاصيل في بيروت. حاليا، أعوّل على انهيار الليرة، كمقدمة للإعلان عن ضرورة استغلال هذه الفُرصة لننهار نحن أيضاً. 

هكذا بدأت حاجتي للانهيار، كنت أقود سيارتي على إيقاع السائقين في هذه المدينة المُضحكة، حيث لا يمكن أبداً أن تحصَل على ما تريد من دون توتر ما، شدّ ورخيٌ، كل شيء في هذه المدينة هو معركة داخل معركة داخل ثقب أسود لا ينتهي، اضطررت إلى سماع شتائم السيدة السائقة التي أرادت أن أتراجع لها حتى تمُر على تقاطع عكس وجهة السير المسموحة لها. تفتح شباكها وتلعن من أنجبتني وشكلي وأخلاقي. يضحك شرطي السيّر ويبوح لي "الناس جنّت". أتابع سيري، لتعتريني موجة من الذنب التي تتحول بعد دقائق إلى موجة من الحزن العارم. لم أقصد أن أقول لها "يا حيوانة"، قصدت أن أقول لها إني لم أعد أستطيع أن أتحمل كُل هذا العنف اليومي العادي. ربما لم يجف البئرُ، لكن لا مكان للحزن في بيروت، وما أفعل به وسط مدينة أدارت ظهرها لثلاث مُخيّمات على أطرافها وفي قلبها، بيروت لم تسمع، ولم ترَ ولن تتكلم. ترتطم هتافات أهل المُخيّم بالجدار المحيط ببيوتهم ويرتد إليهم، موجات من الوحدة وموجات من الحزن، فيغرقوا في الصمت مُخيّماً تلو الآخر. 

كُل هذا الحزن في مدينة تحصل فيها الأشياء بِسُرعة، ولا نجد الوقت كي نحزن ونحن نعدّ جثث النساء التي تنهمر من الشرفات لنرثيهن، مذهل كيف يمرّ الموت على هذه المدينة كأنه سحابة عابرة، انتظار مملٌ في ترانزيت مطارات تسألك أفكارك فيها إن كنت تريد العودة حقاً. كيف حصل كُل هذا، كيف قضمتنا السنين حتى تحولنا إلى أشباح مضحكة، نعيد التمسك بالمألوف فينا وبالآخرين وبالشوارع، كأننا لا نتغيّر، نعيد ترميم ذكرياتنا عن العيش في بيروت، لكنها حطامٌ مهملة لم تعد تصلح لأن تكون وطناً أو منفى. كنت أحسب لوقت طويل، أن لي شيء ما في هذه المدينة، أنها الأقرب إلى العيش داخل ما أتخيله في شوارع وطن للحقيقة لا أعرف عنه شيئا، سوى كيف بنيته في رأسي، وأنا أستعير قصص أبي أحياناً أو أصنع من رغباتي أحياء ومواقف وقصص وإصلاحات وحب وعداوات سياسية. ليتضح أنها أقرب صورة للمنافي الصعبة، المنفى الذي يبتسم لك مخادعاً، فتسكنه مطمئناً ويلفظك غريباً، ولمن لا يعرف، لم تعد بيروت صديقة للغرباء. كُل هذا، ولا مكان ليكون المرء حزيناً، ألّا يختبئ وراء غضب أحياناً كثيرة يكون مفتعلاً، أن يكون فقط حزين مثل الذين يفقدون أحباء لهم، فيأتي الحزن ليرافقهم بعد الفاجعة، ونحن نعِدُ الفواجع يوماً بعد يوم، مخيّمات تحترق، عاملات تسقط من الشرفات، أطفالا تُدفن على عجل، بكاء رجل عجوز على شاشة التلفزيون يقول أشياء مؤلمة، لكن صدى بكائه عالٍ فلا تسمع.  

فيأتي خبر انهيار الليرة لينقذني وغيري من افتعال يوميات تروّج ولو عبثاً أننا مازلنا نتصل بالسياق الأكبر والأوسع، وأن الشأن العام يتلهف لتدخلاتنا العظيمة وأفكارنا النيّرة والتي يأكلها سريعاً عفن بيروت، والذي يستوطن القاع الذي تسكنه أشباح ماضينا والتي ضاقت بها المدينة في حلّتها الجديدة، فنزلت إلى القاع تحاول عبثاً إغراقنا جميعاً. بيروت تضيق على نفسها، مساحة وبشراً، وتكبر كثيراً كذكرى فضاء كان يوماً ما لنا كُلنا. خبر الانهيار ينقذني من حقيقة إني أستسهل أن أقود ساعتين إلى الشمال، من أن أذهب من حيّي إلى شارع الحمراء. وينقذني من أن أعيد التفكير بكل هذا الحزن، فأتحضّر لأحزن على الاقتصاد، ولكني في الحقيقة أجرف مع كُل هذا الإحساس بالأمان، كُل تلك الأحزان المتراكمة منذ سنين طويلة، وآخرها أني لا أحب هذه المدينة وأنها تضيق بي (وبنا).  

 

 *** الليرة : لم توضع في العنوان بسبب القرار في محاسبة أي شخص يروّج لانهيار الليرة!