وصلتا إلى تورونتو في منتصف الصباح. كان النهار معتمًا. كان رعد صيف وبرقٌ. لم تشاهد كيتي قطّ مثل تلك الفوضى على الساحل الغربيّ، لكنّ غريتا أخبرتها بأنْ لا شيء مخيفًا، فبدت كأنّها لم تخف. ولا حتّى من العتمة العظيمة المضاءة بالكهرباء التي قابلتهما في النفق حيث توقّف القطار.
وبعد أن أنهى هذه القطعة، بدأ في أخرى. "لا أحبّهم أنا. سامٌ أنا".
ضحكت غريتا، لكنّ كيتي لم تفعل. شعرت غريتا بشيء من الخزي. لقد استوعبت الكلمات السّخيفة وهي تخرج من كتاب ما، ولكن ليس من فم أيّ شخص بلا كتاب.
"معذرة"، قال الولد إلى غريتا. "نحن لم ندخل المدرسة بعد. هذا أدبنا". مال، ثمّ تحدّث بجدّية ونعومة إلى كيتي.
"هذا كتاب جميل، أليس كذلك".
"هو يعني إنّه يعمل مع الأطفال الذين لم يذهبوا إلى المدرسة بعد"، قالت الفتاة إلى غريتا. "أحيانًا يختلط أمرنا على النّاس، بالرّغم من ذلك".
واصل الولد حديثه إلى كيتي.
"قد أستطيع تخمين اسمكِ الآن. ما هو؟ أهو "روفوس"؟ أهو "روفر"؟
قضمت كيتي شفتيها، لكنّها لم تستطتع حينئذ أن تقاوم ردّها العنيف.
"لستُ كلبةً"، قالت.
"كلّا. ما كان ينبغي عليّ أن أكون بمثل هذه الحماقة. أنا ولد واسمي "غريغ". واسم هذه البنت هو "لوري".
"لقد كان يغيظك"، قالت لوري. "هل أوسعه ضربًا؟"
فكّرت كيتي بالأمر، ثم قالت: "كلّا".
"ستتزوّج ألِيس أحدَ الحَرَسْ"، واصل غريغ ترنيمه، "رهيبةٌ حياةُ الجنديِّ، قالتْ أَلِيسْ".
رنّمت كيتي بنعومة ]كلمة[ "أليس" الثّانية.
أخبرت لوري غريتا بأنّهما كانا يطوفان برياض الأطفال، يؤدّيان المونولوجات. كان هذا يسمّى عمل الاستعداد للقراءة. كانا في الواقع ممثّلين. كانت على وشك أن تنزل عند "جاسبر Jasper"، حيث كانت تعمل نادلة في الصيف، وتؤدّي بعض المقاطع الكوميديّة. ليست الاستعداد للقراءة تمامًا. "تسلية الكبار"، هو الاسم الذي كانت تدعى به.
"يا إلهي"، قالت. ثمّ ضحكت. "خذي ما تستطيعين الحصول عليه".
كان غريغ سائبًا، توقّف عند "ساسكاتون Saskatoon". كانت عائلته هناك.
كانا جميلين، قالت غريتا في نفسها. طويلان، رشيقان، نحيفان على نحو غير طبيعيّ أو يكادان، هو ذو شعر أجعد فاحم، وهي ذات شعر أسود أملس كالسيّدة العذراء. وحين ذكرت أوجه الشّبه بينهما، فيما بعد، قالا بأنّهما يستفيدان من ذلك أحيانًا، حين يتعلّق الأمر بترتيبات السّكن. جعل هذا الأمر الأشياء سهلة إلى حدّ بعيد، لكنّ عليهما التذكّر دائمًا بأن يسألا الحصول على سريرين، وأن يحرصا على تركهما غير مرتّبين بين العشيّة وضحاها.
أمّا الآن، يخبرانها، فلا داعي للقلق قطّ. فلا شيء يمكن أن يفضحهما. كانا على وشك الانفصال، بعد ثلاث سنوات من العيش معًا. كانا عفيفين لأشهر، مع بعضها على الأقلّ.
"الآن، لا مزيد من "قصر باكنغهام"، قال غريغ إلى كيتي. "فلا بُدّ أن أقوم بتماريني".
فكّرت غريتا بأنّ هذا يعني إنّه سيهبط السّلالم أو يمضي في الممرّ لأداء بعض ألعاب الجمباز، إلّا أنه ولوري قد رميا رأسيهما إلى الخلف، يمدّان عنقيهما، آخذان في الشّدْو والنّعيب، وينشدان أغنيات غريبة. كانت كيتي مسرورة، آخذة كلّ هذا بوصفه عرضًا خاصًّا، وفُرجة لمتعتها. تصرّفت كمشاهدة مثاليّة، أيضًا— هادئة على نحو ما حتّى انتهى العرض، ثمّ انفجرت ضاحكة.
كان بعض الذين على وشك صعود السّلالم قد توقّفوا في الأسفل، إنهم أقلّ انجذابًا من كيتي ولا يعرفون ماذا يفعلون بالأشياء.
"معذرة"، قال غريغ، بلا أيّ تفسير سوى إشارةِ وُدّ حميمة. مدّ يدًا إلى كيتي.
"لنرى إن كان ثمّة ملعب هنا".
لحقتهما لوري وغريتا. كانت غريتا تأمل في ألّا يكون أحد أولئك البالغين الذين يقيمون الصداقات مع الأطفال ليختبروا جاذبيتهم الخاصّة في الغالب، ولكنّهم سرعان ما يسأمون ويغضبون حين يدركون كم هي لا تكلّ عواطف الأطفال ولا تملّ.
بحلول وقت الغداء أو قبله بقليل، أدركت بأن لا حاجة للقلق. لم يكن الذي حدث أنّ اهتمام كيتي بغريغ يثقل كاهليه، بل لأنّ أطفالاً عديدين التحقوا بالمنافسة، لكنّه لم يُبد أيّ إشارة تعب على الإطلاق.
هو لم يُقِم أيّ منافسة. تمكّن من إدارة الأشياء فحوّل الانتباه الذي استجلبه هو إلى وعي الأطفال ببعضهم، ثم إلى ألعاب كانت مرحة أو حتّى جامحة، ولكن ليست عنيفة. لم تكن ثمّة سورات غضب. كما إنّ الدّلال تلاشى. لم يكن ثمّة وقت بكل بساطة— فمزيد من الأشياء المثيرة كانت تدور. كان الأمر معجزة، كيف تمّت إدارة كلّ ذلك التّرويح المشوب بالجموح في مثل ذلك المكان الصغير. وعدتهم الطّاقة المبدّدة بقيلولات في الأصيل.
"إنّه رائع"، قال غريتا إلى لوري.
"إنّه في الغالب هناك فقط"، قالت لوري. "هو لم يدّخر نفسه. تعرفين؟ كثير من الممثّلين يفعلون ذلك. الممثّلون خاصّة. موتى خارج خشبة المسرح.
فكّرت غريتا، هذا ما أفعله. أدّخر نفسي، في غالب الأحيان. شديدة الحرص مع كيتي، شديدة الحرص مع بيتر.
في العِقد الذي قد دخلاه للتوّ، ولكنّها على الأقلّ لم تنتبه إلى ذلك كثيرًا، كانت ثمّة عناية شديدة على وشك أن تبذل على هذا النّوع من الأشياء. "أن تكون هناك" كانت تعني شيئًا لم تقصد أن يكون كذلك. أن تنجرف مع التّيار. أن تمنح. كان بعض الناس خيّرين، فيما البعض الآخر غير ذلك قطّ. كانت ثمّة حواجز بين داخل رأسك وخارجه على وشك أن تسقط. الحقيقة اقتضت ذلك. أشياء كقصائد غريتا، كانت الأشياء التي لم تأت عَفْو الخاطر، موضع ريبة، بل موضع سخرية حتّى. وممّا لا شكّ فيه أنّها واصلت فعل الأشياء بالطريقة التي تعوّدت عليها، متأفّفةً متسائلة، ثابتة الجَنان في السرّ كأظافر تحفر في الثقافة المضادّة. ولكنّ طفلتها، في هذه اللحظة، كانت قد استسلمت إلى غريغ، وإلى كلّ ما يفعله؛ كانت في غاية الامتنان تمامًا.
في الأصيل، كما توقّعت غريتا، ذهب الأطفال إلى النوم. وأمّهاتهم في بعض الأحيان كذلك. لعب آخرون الورق. لوّح غريغ وغريتا إلى لوري، حين نزلت عند جاسبر. أطلقت بعض القُبل من رصيف المحطة. ظهر رجل أكبر في السنّ، أخذ حقيبة سفرها، قبّلها بحنان، ثمّ نظر نحو القطار ولوّح إلى غريغ. فلوّح غريغ إليه.
"إنها في أزمة نفسيّة"، قال.
مزيد من التّلويح آن انطلق القطار. أعاد، هو وغريتا، كيتي إلى المقصورة، حيث خلدت إلى النوم بينهما، نائمة في منتصف مقعد متحرك. فتحا ستارة المقصورة لمزيد من الهواء، الآن حيث لا خطر أن تسقط الطفلة.
"مدهش أن يحظى المرء بطفلة ما"، قال غريغ. كانت تلك عبارة أخرى جديدة في ذلك الوقت، جديدة بالنسبة إلى غريتا على الأقلّ.
"يحدث ذلك"، قالت.
"أنت هادئة جدًّا. ستقولين تاليًا: هذي هي الحياة".
"لن أقول"، قالت غريتا، ثمّ أطالت التحديق في عينيه حتى هزّ رأسه وضحك.
أخبرها بأنّه قد دخل مجال التمثيل عن طريق ديانته. انتمت عائلته إلى إحدى الطوائف المسيحيّة التي لم تسمع بها غريتا قطّ. لم تكن الطائفة كثيرة العدد لكنّها بالغة الثراء، أو على الأقلّ كان بعضهم كذلك. شيّدوا كنيسة تضمّ مسرحًا في بلدة على المروج. كان ذلك حيث شرع في التمثيل قبل أن يبلغ العاشرة. كانوا يؤدّون حكايات رمزيّة ذات مغزى أخلاقيّ مستوحاة من الكتاب المقدّس، ومن الزمن الراهن أيضًا، عن الأشياء الرهيبة التي حصلت لأولئك الذين لم يؤمنوا بما فعلوا. كانت عائلته في غاية الفخر، وكان هو، بالطّبع، فخورًا بنفسه جدًّا. لم يحلم بأن يقول لهم كلّ الذي وقع حين جاء المهتدون الجدد لتجديد عهودهم ويحصلوا على المباركة التي تخلّصهم من خطاياهم. كان، على أيّة حال، قد أحبّ الحصول على التأييد، كما أحبّ التمثيل أيضًا.
حتّى خطرت بباله، ذات يوم، فكرة أنّ باستطاعته التمثيل دون أن يمرّ بكلّ أمور الكنيسة تلك. حاول أن يكون مهذّبًا بشأن ذلك، لكنّهم قالوا إنّ الشيطان قد تلبّسه. "هَا- ها"، قال، إنّني أعرف من الذي يتلبّسني.
وداعًا.
"لا أريد أن تعتقدي بأنّ الأمر كان سيّئًا كلّه. فأنا ما زلت أومن بالصلاة وبكلّ شيء. لكنّني لم أستطع إخبار عائلتي بشأن الذي جرى. كان أيّ شيء بين المنزلتين سيقتلهم. ألا تعرفين أُناسًا مثلك ذلك؟"
أخبرته بأنها حين انتقلت مع بيتر إلى فانكوفر، فإنّ جدّتها التي تعيش في أنتاريو، كانت قد تواصلت مع قسّيس إحدى الكنائس هناك.
جاء زائرًا ذات مرّة، لكنّ غريتا كانت في غاية التكبُّر. قال إنّه يستطيع الصلاة من أجلها، لكنّها أخبرته، كما ينبغي لها، بألّا يزعج نفسه. كانت جدّتها تحتضر في ذلك الوقت. شعرت غريتا بالخجل وبالغضب من شعورها بالخجل كلّما فكّرت في الأمر.
لم يفهم بيتر كلّ ذلك. لم تذهب أمّه إلى الكنيسة قطّ، على الرّغم من أنّ أحد الأسباب التي دفعتها لتحمله عبر الجبال كان على ما يبدو كي يصبحوا كاثوليك. قال إنّ للكاثوليك ميزة في أغلب الظنّ، حيث يستطيع المرء أن يحوّط نفسه ضدّ الخطيئة حتّى الرّمق الأخير.
وكانت هذه هي المرّة الأولى التي فكّرت فيها ببيتر منذ فترة.
كانت الحقيقة أنّها هي وغريغ يحتسيان الخمر فيما تواصل كلّ هذا الحديث الملتاع المريح على نحو ما. كان قد أحضر زجاجة أوزو ouzo ]خمر يونانيّة باليانسون[. كانت متحفّظة بعض الشيء، مثلما كانت إزاء أيّ كحول شربتها منذ حفلة الكتّاب، لكنّ تأثيرًا جاذبًا كان هناك. تأثيرًا كافيًا حتّى شرعا في تمسيد يديّ بعضهما منهمكان في التّقبيل والملاطفة. كان كلّ ذلك قد جرى قرب جسد الطفلة النائمة.
"من الأفضل أن نتوقّف"، قالت غريتا. "وإلّا صار الأمر باعثًا على الأسى".
"لسنا نحن"، قال غريغ. "إنهما شخصان آخران".
"أخبرهما إذن أن يتوقّفا. أتعرف أسماءهما؟"
"انتظري لحظة. ريغ. ريغْ ودوروثي".
قالت غريتا: "كفّ عن ذلك، ريغْ. ماذا عن الطفلة البريئة؟"
"نستطيع الذهاب إلى مضجعي. هو ليس بعيدًا.
"ليس لديّ أيّ— "
"لديّ أنا".
"مستحيل؟"
"بالتأكيد كلّا. أيّ نوع من الوحوش تظنّينني؟"
هندما ثيابها، ثمّ انسلّا خارج المقصورة، بعد أن أحكما كلّ زرّ في السرير الذي كانت تنام فيه كيتي، وبلامبالاة جامحة شقّا طريقها، خارجين من عربة غريتا متوجّهين إلى عربته. كان ذلك ضروريًّا أو يكاد— فلم يقابلا أحدًا. كان الناس الذين لم يكونوا في العربة المقبّبة يلتقطون الصور للجبال الخالدة، متواجدين في العربة-البار، أو تأخذهم سِنة من النوم.
في حجرة غريغ المهملة، واصلا من حيث انتهيا. لم يكن ثمّة متّسع كي يستلقي شخصان كما ينبغي، لكنّهما نجحا في أن يتقلّبا فوق بعضهما. في البدء، كان ضحك مخنوق لا حدّ له، ثمّ هزّات مسرّة عظيمة، بلا أيّ مكان ينظران إليه سوى عينيّ بعضهما الواسعتين. كانا يعضّان بعضهما كي يتوقّفا حين يصدران جلبة عاتية.
"رائع"، قال غريغ. "حسنًا".
"عليّ أن أرجع".
"بهذه السّرعة؟"
"لا بُد أن كيتي قد استيقظت، وأنا لست هناك".
"حسنًا. لا بأس. عليّ أن أستعدّ للنزول بساسكاتوون على أيّة حال. ماذا لو كنّا قد وصلنا إلى هناك ونحن في خضمّ ذلك؟ مرحبًا أُمّي. مرحبًا أبي. أعذراني للحظة، فيما أطلق صيحات الحماسة والدهشة!"
ارتدت ثيابها محتشمة وغادرته. لم تكترث، في حقيقة الأمر، كثيرًا بمن قابلها. كانت ضعيفة، مصعوقة، ولكن مبتهجة، كمجالدة— فكّرت بالأمر ثمّ تبسّمت— بعد جولة في الحلبة.
على أيّة حال، هي لم تصادف نفْسًا قطّ.
كان مشبك الستارة السفليّ محلولًا. كانت متأكدة من أنها قد أحكمت إغلاقه حسب ما تذكر. وعلى الرّغم من أنّه مفتوح فإنّ من الصعب على كيتي أن تخرج، أو تحاول ذلك بتاتًا. كانت غريتا، حين خرجت لبرهة إلى التّواليت ذات مرّة، قد فسّرت لكيتي مليًّا بألّا تحاول اللحاق بها، فقالت كيتي "لن أفعل"، كما لو أنّها تحاول القول إنها تعاملها كطفلة صغيرة.
أمسكت غريتا بالستائر كي تفتحها دفعة واحدة، وحين فعلت ذلك لم ترَ كيتي هناك.
جُنّ جنونها. نترت الوسادة، كما لو كانت طفلة بحجم كيتي قد غطّت نفسها بها. خبطت بيديها على الملاءة كما لو كانت كيتي مختبأة تحتها. سيطرت على نفسها ثمّ حاولت أن تفكّر أين توقّف القطار، أو إن كان قد توقّف أصلًا، خلال الوقت الذي كانت فيه مع غريغ. هل حين توقّف، إن كان قد توقّف أصلًا، صعد أحدهم إلى القطار واختطف كيتي؟
وقفت في الممرّ، محاولة التفكير بما يتوجّب عليها فعله لإيقاف القطار.
ثمّ فكّرت، مرغمة نفسها على ذلك، بأنْ لا شيء مثل ذلك يمكن أن يحدث. لا تكوني سخيفة. لا بُدّ أنّ كيتي قد استيقظت ولم تجدها هناك، فذهبت تبحث عنها. وحيدة، ذهبت تبحث.
هناك، لا بُد أن تكون في الجوار هناك. كانت الأبواب في طرفيّ العربة ثقيلة ولا تقدر على فتحها.
لم تكد غريتا أن تتحرّك. كان جسدها كلّه بلا جدوى، وعقلها فارغًا. لم يكن هذا ليحدث قطّ. ارجعي، ارجعي، إلى حيث ذهبت مع غريغ. توقّفي هناك. توقّفي.
كان ثمّة مقعد شاغر عبر الممرّ في الوقت الرّاهن. تُركت فوقه سُترة امرأة وإحدى المجلّات تذرُّعًا. وبعيدًا أطول، كان ثمّة مقعدٌ حُلّت مشابك ستائره، مثلما كانت ستائر مقعدها— مقعديهما. فرّقتهما بقبضة واحدة. تقلّب الرجل العجوز الذي كان ينام هناك على ظهره ولكنّه لم يستيقظ البتّة. من المستحيل أن يكون يخبّأ شخصًا ما هناك.
يا للغباء.
استبدّ بها حينئذ خوف جديد. مفترضة أن كيتي قد شقّت طريقها إلى نهاية إحدى العربات، ثمّ تمكّنت فعليًّا من فتح الباب. أو تبعت أحد الأشخاص الذين فتحوه أمامها. كان ثمّة ممشى بين العربات حيث يعبر المرء ماشيًا في المكان حيث تلتحم العربات. هناك، تستطيع الشعور بحركة القطار على نحو فجائيّ مفزع. باب ثقيل خلفك، وآخر أمامك، وفي طرفيّ الممشى صفائح معدنيّة ترنّ. كانت هذه الصفائح تغطّي الدرجات التي يتمّ إنزالها حين يتوقّف القطار.
دائمًا ما يهرع المرء عبر هذي الممرّات، حيث يذكّرك الدويّ والتّمايل كيف وُضعت الأشياء معًا بطريقة بدت غير محتومة في نهاية المطاف. يكاد الدويّ والتمايل أن يكونا عرضيّين، على الرّغم من السرعة الكبيرة التي تمشي بها.
كان الباب في النهاية ثقيلًا بالنسبة إلى غريتا. أم إنّ خوفها قد أنهكها. دفعت بكتفيها كثيرًا.
وهناك، بين العربات، على واحدة من تلك الصفائح المعدنيّة التي تصدر ضجيجًا متواصلًا— جلست كيتي. العينان مفتوحتان على قدر اتّساعهما، والفم مفغور قليلًا، ذاهلة ووحيدة. لا تبكي البتّة، ولكنّها حين رأت أمّها أجهشت في البكاء.
أمسكتها غريتا، رفعتها إلى وركها، ثمّ زلّت بها الخطى تجاه الباب الذي كانت قد فتحته للتوّ.
كانت لكلّ العربات أسماء، تخليدًا لذكرى المعارك أو الاستكشافات أو الكنديّين المرموقين. كان اسم عربتهم "كُنُت Connaught". هي لن تنسى ذلك البتّة.
لم تصب كيتي بأيّ أذى بالرّغم من كلّ شيء. لم تتأذى ثيابها كما قد ينبغي على الحوافّ الحادّة المتحوّلة للصفائح المعدنيّة.
"ذهبت أبحث عنك"، قالت.
"متى؟" منذ برهة مضت، أم بعد أن تركتها غريتا على الفور؟
كلّا بالطّبع. كان لا بُدّ لأحد ما أن يجدها هناك، وأن يلتقطها، ويقرع جرس الإنذار.
كان اليوم مشمسًا، ولكنّه ليس حارًّا بالفعل. كان وجهها باردًا ويداها باردتين على نحو ما.
"ظننتك على الدّرج"، قالت.
غطّتها غريتا بالملاءة التي في مهجعهما، فأخذت هي نفسها حينئذ بالارتعاش، كما لو أنّها مصابة بالحمّى. شعرت بالمرض، وذاقت طعم القيء في حلقها. قالت كيتي: "لا تضغطي عليّ"، ثمّ تلوّت بعيدًا.
"تفوح منك رائحة كريهة"، قالت.
أخذت غريتا ذراعيها بعيدًا، ثمّ استلقت على ظهرها.
كان ذلك مريعًا جدًّا، أفكارها حول ما قد جرى مريعة جدًّا. كانت الطفلة لا تزال تحتجّ بقسوة، مبعدة نفسها عنها.
لا بُدّ أنّ شخصًا ما قد وجد كيتي. شخصًا كريمًا، لا شخصًا شرّيرًا، وجدها هناك فحملها إلى حيث كانت آمنة. كانت غريتا ستسمع الإعلان المفزع، الأخبارَ التي تعلن أنّ طفلة قد وجدت وحيدة على متن القطار. طفلة تقول إنّ اسمها هو كيتي. وكانت ستهرع من حيث كانت في تلك اللحظة، مرتدية ثيابها باحتشام على قدر استطاعتها، مسرعة كي تطالب بطفلتها، ثمّ تكذب قائلة إنّها كانت قد ذهبت إلى الحمّام.
لا بُدّ أنها كانت خائفة، لكنها كانت قد ادّخرت الصورة التي عرفتها الآن، عن كيتي جالسة في المكان الصاخب، عاجزة بين العربات. لا تبكي، ولا تتذمّر، كما لو كانت ستجلس هناك إلى الأبد، ولا تفسير يُقدّم إليها، لا أمل. كانت عيناها بلا تعبير على نحو غريب، وفمها مفغورًا يتدلّى، في اللحظة قبل أن تصفعها حقيقة إنقاذها، فتقدر على الإجهاش في البكاء. ليس إلّا آنئذ تستطيع أن تستردّ عالمها، حقّها في المعاناة والشّكوى.
الآن قالت إنّها لم تكن نعسانة، أرادت أن تنهض. سألت أين كان غريغ. قالت غريتا إنّه كان يَقيل، كان متعبًا.
ذهبت هي وغريتا إلى العربة المُقبّبة، لقضاء ما تبقّى من العصر. قضياه في أغلب الأحيان لوحدهما. لا بُدّ أن الناس الذين يلتقطون الصور قد أرهقوا أنفسهم على جبل روكي، ومثلما علّق غريغ قائلًا، تركتهم المروج منبطحين.
توقّف القطار لوقت قصير بساسكاتوون، فنزل بعض الناس. كان غريغ بينهم. رأته غريتا وقد حيّاه شخصان لا بُدّ أنهما والداه. كما حيّته امرأة في كرسيّ متحرّك، لعلّها جدّته، ثمّ حيّاه أناس عديدون أصغر عمرًا كانوا يتسكّعون في الجوار، مبتهجين، خجولين. لم يبدُ أيّ منهم كأنّه ينتمي لإحدى الطوائف، أو يشبه أناسًا كانوا متزمّتين، غير مرحين، بأيّ شكل من الأشكال.
ولكن، كيف تستطيعين تعيين ذلك في المرء، من دون شكّ؟
استدار غريغ عنهم وراح يعاين بناظريه نوافذ القطار. لوّحتْ من العربة المقبّبة، لمحها غريغ فلوّح لها.
"ها هو غريغ"، قالت كيتي. "انظري هناك، إنّه يلوّح. هل لك أن تلوّحي له؟"
ولكنّ كيتي وجدت البحث عنه بعينيها أمرًا في غاية الصعوبة. أو هي لم تحاول ذلك على الأقلّ. استدارت بعيدًا مستاءة على نحو ما، ثمّ، وبعد تلويحة مثيرة للضّحك، استدار غريغ. تساءلت غريتا إن كانت الطفلة تعاقبه على هجرانه، رافضة أن تفتقده أو حتّى أن تقرّ بوجوده.
حسنًا، إن كانت الأشياء ستسير على هذا النّحو، انسِ الأمر.
"لقد لوّح غريغ إليك"، قالت غريتا، آنَ اندفع القطار بعيدًا.
"أعرف".
***
وفيما نامت كيتي بالقرب منها على السرير في تلك اللّيلة، كتبت غريتا رسالة إلى بيتر. رسالة طويلة شاءت أن تكون ظريفة ومسليّة، عن كلّ أنماط البشر المختلفين الذين يمكن أن يتواجدوا على متن القطار. عن تفضيل كثير منهم النّظر عبر كاميراتهم، بدلًا من النظر إلى الشّيء الحقيقيّ بعينه، وهكذا دواليك. عن تصرّف كيتي المقبول عمومًا. ولا شيء عن الخسارة، بالطّبع، أو الخوف. أرسلت الرسالة بالبريد حين كانت المروج بعيدة خلفها وأشجار التنّوب السوداء تمتدّ إلى الأبد، حين توجّب عليهم التوقّف، لسبب ما، في بلدة "هورن باين Hornepayne"، الصغيرة الضائعة.
كان وقت صحوها طيلة مئات الأميال هذه قد كرّسته إلى كيتي. أدركت بأنّ هذا التكريس الذي أولته من جانبها لم يظهر قبل ذلك قطّ. كان حقيقيًّا أنها قد اهتمّت بالطفلة، ألبستها، أطعمتها، تحدّثت إليها، خلال تلك الساعات التي كانتا فيها معًا وبيتر في العمل. لكنّ غريتا كان لديها حينئذ أشياء أخرى في البيت ينبغي فعلها، فكان انتباهها متشنّجًا، وكانت رقّتها تكتيكيّة في أحيان كثيرة.
لم يكن ذلك عائد إلى العمل المنزليّ فقط. أفكار أخرى طردت الطّفلة من بالها. حتّى قبل انشغالها العبثيّ والمُضنِي والسّخيف بذلك الرجل في تورونتو، كان ثمّة عمل آخر، عمل الشّعر الذي بدا كأنّها كانت تديره في رأسها معظم حياتها. والذي يضرب في أعماقها الآن بوصفه عملًا غادرًا آخر— تجاه كيتي، وبيتر، وحياتها. والآن، وبسبب الصورة التي في رأسها عن كيتي وحيدة، كيتي وهي تجلس هناك وسط الصفائح المعدنيّة بين العربات— أنّ شيئًا آخر، كانت هي، أمّ كيتي، على وشك أن تتخلّى عنه.
خطيئة. لقد كانت مشغولة البال بمكان آخر. عاقدة العزم، يجتاح فكرها شيء آخر غير الطفلة. خطيئة.
***
وصلتا إلى تورونتو في منتصف الصباح. كان النهار معتمًا. كان رعد صيف وبرقٌ. لم تشاهد كيتي قطّ مثل تلك الفوضى على الساحل الغربيّ، لكنّ غريتا أخبرتها بأنْ لا شيء مخيفًا، فبدت كأنّها لم تخف. ولا حتّى من العتمة العظيمة المضاءة بالكهرباء التي قابلتهما في النفق حيث توقّف القطار.
قالت: "تصبحين على خير" .
قالت غريتا: "كلّا، كلّا، ينبغي عليهما المسير حتّى نهاية النفق، الآن بعد أن نزلتا من القطار. ثمّ يتوجّب عليهما صعود بعض الدّرجات، أو ربّما سيكون هنالك سلّم كهربائي متحرّك، ثم تحطّان في بناية كبيرة، ثم إلى الخارج، حيث تستطيعان الحصول على سيّارة أجرة. كانت سيّارة الأجرة حافلة ما، كان ذلك هو كلّ شيء، ثمّ ستقلّهما إلى بيتهما. إلى بيتهما الجديد، حيث ستعيشان لبعض الوقت. ستعيشان هناك لبعض الوقت ثمّ تعودان إلى "بابا Daddy".
قطعتا طريقًا منحدرة، فكان ثمّة سلّم كهربائي متحرك. توقّفت كيتي، فحذت غريتا حذوها، حتّى وصل الناس إليهما. رفعت غريتا كيتي وأجلستها على وركها، ثم تمكّنت من حمل حقيبة السفر بالذراع الأخرى، منحنية الظهر ترتطم بها على السلالم المتحركة. وعندما وصلا إلى الأعلى، وضعت الطفلة على الأرض، فكانتا قادرتين على المشي ثانيةً بيدين متشابكتين، في الضوء البرّاق القصيّ المنبعث من "يونيون ستيشن Union Station" ]محطّة الاتّحاد[.
هناك، أخذ الناس الذين كانوا يمشون أمامهم بالتفرّق، ليلتحقوا بأولئك الذين كانوا في انتظارهم، والذين نادوا على أسمائهم، أو كي يلتقطوا بكل بساطة حقائب سفرهم.
الآن ثمّة من أمسك بحقيبتيهما. أمسك بها، أمسك بكيتي، ثمّ قبّلها لأوّل مرّة، بطريقة احتفاليّة، مقصودة.
هاريس.
اعترت غريتا هزّة في البدء، ثم وقع في أحشائها شيء ما، سكون عظيم.
كانت، في تلك اللحظة، تحاول التشبّث بكيتي، لكنّ الطفلة اندفعت بعيدًا مخلّصة يدها.
لم تحاول الهرب. وقفت هناك منتظرة الذي سوف يحدث تاليًا، ليس إلّا.
(هذه القصة مأخوذة من كتابها، "عزيزتي الحياة "Dear Life، منشورات Knopf، في نيويورك، سنة 2012).