صادرة بالعربية عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع

«فتيان الزنك»… رواية أشلاء وشظايا كأطراف الروس المبتورة في كابول

2018-11-13 00:00:00

«فتيان الزنك»… رواية أشلاء وشظايا كأطراف الروس المبتورة في كابول

الشهادات المنقولة، ضمنت للمؤلفة عدم التورط في أيديولوجيات بعينها، لم تمتدح المعسكر المنافس، كل ما فعلته هو أنها قدّمت الوجه الإنساني للمأساة، الشخوص هم من هجوا الحرب وليست سفيتلانا، وقد حضرت بين الشهادات الكثير من الشخصيات الفاشية أو ممن لا يجيدون التحكم في مشاعرهم ويبالغون في ردة فعلهم إزاء حرب أفغانستان ورفاق السلاح الذين يضعونهم في مصاف الملائكة:

لا دراما لا تخييل، لا وجود لقصة طويلة ممتدة تنبثق عنها قصص فرعية، لا عقد لا حبكات… كل ما هنالك شظايا تشبه تلك التي كانت تغوص في أجساد الفتيان الروس، وأطراف مبتورة تشبه جيش المعاقين الذي عاد من أفغانستان، ليؤرق الداخلي الروسي ويُنظر لهم لاحقاً بوصفهم عصابات المجرمين من "الروس الأفغان" هكذا اختارت سفيتلانا ألكسييفتش صياغة فكرتها في رواية «فتيان الزنك» والصادرة في ترجمتها العربية عن دار ممدوح عدوان، بتوقيع العراقي عبد الله حبه.

لا فضائل في الحرب

"إن الحرب لا تجعل الإنسان أفضل، بل تجعله أسوأ فقط. هذا حكم قاطع. لن أعود أبداً إلى ذلك اليوم حين ذهبت إلى الحرب. ولن أصبح ما كنت عليه قبل الحرب. كيف يمكن أن أصبح أفضل إذا ما رأيت كيف يتم شراء قدحين من بول مصاب بداء اليرقان من المسؤول الطبي مقابل صكوك؟ يشربه أحدهم، فيمرض، وتفحصه اللجنة وتصدر قرارها بمرضه. وكيف يتلف أحدهم أصابعه بزناد المدفع الرشاش. وكيف... وكيف... وكيف تعود إلى الوطن في طائرة واحدة مع توابيت الزنك والحقائب الحاوية على معاطف فرو الضأن وسراويل الجينز والملابس الداخلية النسائية، والشاي الصينى"... (ص 95) من شهادة جندي لسلاح الإشارة في الجيش السوفييتي.

كانت الحرب الروسية الأفغانية حرباً غير عادلة، تم التخديم عليها والدعايا لها عبر الأبواق الشيوعية المبثوثة في ربوع دولة الاتحاد السوفييتي من أقصى آسيا وحتى شرق أوروبا. لم يتحمّس الكثير من الجنود الروس لخوض الحرب، بعض الفتيان المندفعين وبعض أصحاب النفوس الخاوية وجدوا فيها فرصة للقيام بشيء ما. آخرون كانوا يبكون وكانت أمهاتهم تتوسّل للمسئول الحزبي أو القائد العسكري لإعفائه من أداء الخدمة العسكرية، وبعضهن كن يدخرن مبلغ 2000 روبل كرشوة تعفي أولادهن من الالتحاق بالقوات السوفييتية (الأممية) المقاتلة في كابول وغيرها من مدن أفغانستان.

انتصرت سفيتلانا ألكسييفتش للتعريف الباختيني للرواية: "الجنس الأدبي الوحيد الذي يرفض الاكتمال"، فرفضت تقديم شكل كلاسيكي، هناك فقط حدث مركزي متشظٍ مقدم في طبق مكوناته تشتمل أكبر قدر من الواقع وأقل قدر من التخييل.. شهادات متفرقة مبثوثة على طول الرواية، حتى إنه يهيئ للقارئ أنه يقرأ عملاً صحفياً توثيقياً لا عملاً روائياً. والحقيقة أن رواية سفيتلانا ألكسييفتش هي مزيج من هذا وذاك، وهو الشكل الفني الذي اختارته المؤلفة لموضوعها الأثير (الحرب): "كيف يمكن في آن واحد معايشة التاريخ والكتابة عنه؟ فلا يمكن أن تؤخذ أية قطعة من الحياة، وتجميع "القذارة" الوجودية عنوة ووضعها في كتاب، وفي التاريخ. لا بدّ من "تحطيم الزمن" و"اقتناص الروح". (ص 18)

إذا كانت جل الفنّيات والجماليات الحداثية في الرواية تقوم على الشكل، يبدو أن ألكسييفتش اختارت الانحياز للفكرة، والحفر فيها طويلاً حتى تتوصّل إلى الشكل الملائم، والذي لا يهم مدى جماليته وابتكاره، قدر أهمية قدرته على التعبير عن الفكرة. فكرة الحرب، القهر، العدوان، الظلم، الخسة... الخدعة الأيديولوجية السوفييتية بكل ضحاياها وعلى رأسهم فتيان الزنك، الحمقى الروس الذين عادوا من كابول مهزومين مشوّهين تائهين، تماماً كجيل البت الأمريكي من رافضي حرب فييتنام، سخط وغضب وعبث ولا جدوى.. إنه الهباء، والمحزن أن الروسي لم يكتشف ذلك إلا بعد عامين من التجنيد الإجباري وفقاً لرؤية الحزب، خسر فيهما جسده وعقله وروحه ثم يعود أو لا يعود.

كانت معسكرات الجنود الروس فضيحة متكاملة الأركان، لا ينقصها سوى نقل الشهادات من هناك إلى هنا: الرشاوي العينية والجنسية والصراعات على فتات الموائد والمخدرات وبيع ملابس الجيش للمحال الأفغانية مقابل ستيريو جيد أو دخان أميركي. لم يكن هناك شيء يمضي بشكل طبيعي. كل شيء غارق في الكذب الدعائي السوفييتي والفساد. وقد تكفّلت شهادات الجنود بنقل صورة حية لما يحدث في تلك المعسكرات، والمنطق الداخلي لتلك المعسكرات القتالية التي راحت تنفصل رويداً رويداً عن الواقع داخل بلدها الأم وتخلق لنفسها واقعاً بديلاً عجائبياً له قاموس خاص به لوحده: "الحرب ذات قوانين سافلة: التقطتَ صورة فوتوغرافية قبيل التوجّه إلى مهمة قتالية، إذاً ستقتل. وإن حلقتَ ذقنك؛ ستقتل. وكان أول القتلى من جاء لاجتراح المآثر البطولية، ومن ذوي العيون الزرق. والتقيتُ أحدهم: "سأكون بطلاً". ولقي مصرعه فوراً. وفي العملية القتالية نحن نربض هناك وفور ذلك نقضي الحاجة الطبيعية. والمثل السائد لدى الجنود: من الأفضل أن تدوس على خرائك من أن تصبح أنت نفسك خراءً في الألغام. وولدت لدينا عبارات شعبية شائعة: "السطح" أي الطائرة. "الدرع" أي السترة المضادة للرصاص. "الخضراء" أي الأحراش ومنابت القصب. و"الدوارة" تعني المروحية. و"أوهام" تعني التخيلات بعد تناول المخدرات. "قفز على لغم" أي انفجر فيه لغم. "البديل" هو من يسافر عائداً إلى الوطن. وابتدعوا الكثير من العبارات والألفاظ بحيث يمكن تأليف قاموس منها". (ص 163)

الشهادات المنقولة، ضمنت للمؤلفة عدم التورط في أيديولوجيات بعينها، لم تمتدح المعسكر المنافس، كل ما فعلته هو أنها قدّمت الوجه الإنساني للمأساة، الشخوص هم من هجوا الحرب وليست سفيتلانا، وقد حضرت بين الشهادات الكثير من الشخصيات الفاشية أو ممن لا يجيدون التحكم في مشاعرهم ويبالغون في ردة فعلهم إزاء حرب أفغانستان ورفاق السلاح الذين يضعونهم في مصاف الملائكة: "ماذا غزونا هناك، وماذا جلبنا من هناك؟ "حمولة 200" – التوابيت التي تضم رفاقنا؟ وماذا كسبنا؟ الأمراض من التهاب الكبد إلى الكوليرا، والجروح، والعجز؟ ليس لدي ما أعلن توبتي عنه. لقد ساعدت الشعب الأفغاني الشقيق. لديّ قناعة راسخة بهذا! ومن كان معي هناك هم أيضاً شبّان مخلصون وشرفاء". (ص 273)

رصدت ألكسييفتش عبر تلك الشهادات، لا الهزيمة الأممية السوفييتية فحسب، بل وأيضاً الهزيمة الفردية لكل روسي أو روسية شاركوا في الحرب، وعاد دون إصابات جسدية أو عاد معاقاً أو حتى ميتاً ومحمولاً في صندوق من الزنك اللامع، وهزائم أهالي الموتى. تقول ألكسييفتش: "إنني أتابع الشعور، وليس الحدث. ربما كان ما أقوم به يشبه عمل المؤرّخ، لكنني مؤرّخ لما هو بدون أثر. ماذا يجري للأحداث الكبرى؟ إنها تنتقل إلى التاريخ، أمّا الأمور الصغيرة، لكنها الرئيسة بالنسبة إلى الإنسان الصغير، فإنها تختفي بلا أثر". (ص 28)

ملحق: محاكمة فتيان الزنك

نُشرت رواية «فتيان الزنك» في نسختها الأصلية دون الملحق الأخير المعنون "محاكمة فتيان الزنك" والذي يتضمن اقتباسات مباشرة من مشهد محاكمة سفيتلانا ألكسييفتش من قِبل بعض أصحاب الشهادات في «فتيان الزنك» بدعوى أنها لم تكن أمينة في نقل أقوالهم. ونصوص أقوال لجنة القضاة، وبعض الشهادات الصحفية لمناصريها. والأهم من ذلك كله شهادة فنية عميقة من رئيس معهد الأدب البيلاروسي.

لا يمكن تثمين حجم الإضافة الذي قدّمه الملحق "محاكمة فتيان الزنك" ولا يسعنا سوى شكر المحرر صاحب هذا الاقتراح البديع لما أضفاه على النص من قيمة مضافة، فقد كان بمثابة غطاء للقارورة، وإضاءة رائعة على هذا الصنف الأدبي النادر، وبمثابة فصل من "الميتاليتراتورا" أو الميتا سرد، أي الكتابة التي تتكلم عن الكتابة، وفي حالتنا هذه فهي كتابة لا تتكلم عن الكتابة من جانبها الفني فحسب، بل من جوانب أخلاقية وقانونية وإعلامية. إضافة إلى أن هذا الفصل قدم وجهاً آخر من لغة الكاتبة وأسلوبها وفصاحتها الذين حاولت تحييدهم أثناء نقل الشهادات الأصلية من الجنود وأمهاتهم الثكلى.

صار لدينا الآن صورة كاملة لحياة الجنود السوفييت في معسكراتهم، عتادهم، أسلحتهم، خططهم العسكرية، المنطق الداخلي لتلك المعسكرات، السوق الناشئة بين الجنود، الوشايات، الرشاوى الجنسية، الجوع، الموت، الفقد، ردود فعل الناس داخل الاتحاد، الأفغان الغامضون وعصاباتهم الشبحية.. لدينا كل هذه التفاصيل، لكن ليس لدينا حكاية، حكاية واحدة كبيرة كمظلة فوق الملعب، في الحقيقة ليس هناك هذا النمط المألوف من الحكايا، وإنما هناك حكايات كثيرة متناثرة ومشعثة، تشكل في مجملها هذا الطود الكبير.. إلى هنا ينتهي الجانب الحكائي أو القصصي في الرواية، ولاحقاً يبدأ جانب حكائي آخر، لكنه ليس حكائياً فقط، بل هو فني أيضاً، وذكي ومثقل بروح الحداثة، إن رواية «فتيان الزنك» أضحت في فصلها الأخير نصّاً واعياً بذاته، يفسّر نفسه أخلاقياً وفنّياً ويقدّم نفسه رفقة مانفيستو مبدئي (وإن وقع في آخر النص) عن هذه الرواية المثيرة للجدل.