أما الإضافة الأبرز في رؤية ساشو للمسرحية فكانت حيث يخاطب فلاديميرُ ستراغونَ باسم "غوغو" في بعض الأحيان، ويناديه ستراغون باسم "دودو" ما يجعل كلمة "غودو" هي نتيجة التقاء الاسمين، وكأن المعنى المراد هو أن غودو ما هو إلا فلاديمير وستراغون دون أن يعيا ذلك، ليبتعد المخرج عن الكثير من التحليلات الشائعة للنص، أبزرها تلك التي تعبر غودو لفظة مموهة لكلمة GOD (الله)، الذي ينتظر البشر تدخّله لوقف هذا العبث ولا يتدخل.
يُعرض على خشبة مسرح "Essaïon" في أفينيون مسرحية «في انتظار غودو»، لصامويل بيكيت، وإخراج الفرنسي جان كلود ساشو. المسرحية الشهيرة تُقدم ضمن عروض ما يسمى خارج المهرجان: OFF.
الخشبة ضيقة وقريبة من الجمهور، عليها شجرة عارية كما هو في النص الأصلي، مساحة اللعب تبدو خانقة لولا أن الجدار الذي تنتهي به الخشبة مغطى بستار مرسومة عليه سماء زرقاء مليئة بالغيوم، فلاديمير وستراغون على الخشبة والمفاجئة أن ستراغون يؤديه ممثل مسنّ هو فيليب كاتوارو وفلاديمير يؤديه مسنّ آخر هو دومينك راتونا، أحدهما بلغ السبعين من العمر والآخر يناهزه.
تتحدث المسرحية المكتوبة مطلع الخمسينات من القرن الماضي، عن انتظار الرجلين لغودو، هذا الشيء الذي لا نعلم إن كان رجلاً أم كائناً ما، أم مجرد رمز لشيء لا يستطيعان مغادرة هذا القفر دون أن يأتي. سبب الانتظار مجهول كما الهدف من اللقاء، ينقضي الفصل الأول بأفعال مجانية وثرثرات فارغة من المعنى، يقطعه مرور بوزو ولاكي، شخصيتان لا تقلان غرابة عن سابقتيهما، إلا أن بوزو يعذّب لاكي، ويعامله كعبد له. وبعد خروجهما تعود المسرحية لما كانت عليه إلى أن يُسمع صوت يخبر أن غودو لن يأتي اليوم.
أما الفصل الثاني فهو نسخة تقريبية عن الفصل الأول، الفرق الوحيد هو أن بوزو صار أعمى يقوده لاكي، وأن الشجرة أورقت ورقة وحيدة، ما يشير إلى أن زماناً قد مر، وأن أحداث الفصل الثاني لا تجري بالضرورة في اليوم التالي.
المسرحية الخالية من الدراما والتي تأتي أهميتها من معناها الكلي، وما تحاول إيصاله عن انعدام جدوى الفعل في ظل عبثية العالم، غالبا ما تربك المخرجين خصوصا الذين يؤمنون بوجوب أن يكون العرض ممتعاً على امتداد لحظاته، لا في مقولته النهائية فقط. لكن كيف تتحقق المتعة في نص داكن كهذا، مليء بالثرثرات والأفعال المجانية، لا يقطعها سوى سؤال ستراغون لفلاديمير المتكرر:
- لماذا لا نذهب؟
- لا نستطيع
- لماذا؟
- لأننا ننتظر غودو
- صحيح.
يأتي جواب جان كلود ساشو من خلال الأداء، فبيكيت لم يحدد عمر فلاديمير وستراغون، ما ترك لساشو حرية انتقاء ممثلَين قاربا السبعين من العمر، وخطّت السنوات على وجهيهما، فمع افتتاح المسرحية تشعر أنهما انتظرا غودو طيلة حياتهما، وما يثبّت هذا الإحساس هو أنهما يؤديان بطريقة احترافية مذهلة كمن تدرّب على النص طيلة حياته، علماً أن العرض الأول لهذه المسرحية قد قُدم عام 2014، أي قبل ثلاثة أعوام فقط.
يشكل الأداء في نصوص بيكيت أحد أهم تحديات المخرج والممثلين، إذ أن مناهج التمثيل المعروفة وطرقه تعجز في معظم الأحيان أمام تقشف نصوصه، هنا لا شخصيات تعطيك مفاتيح عالمها النفسي كي تدخل إليها عبر منهج ستانسلافسكي وأتباعه الواقعيين، ولا حكاية للشخصية يتوجّب على الممثل أن يباعد بينه وبينها كي تُؤدى حسب بريشت، وليست الشخصية السوداء مجرد مهرج هدفه الإضحاك، بل يبدو أحيانا أن اتّباع أساليب المهرج في العمل على الشخصية سيجلب كارثة على المعنى. إذن بماذا يملأ الممثل ذهنه وقلبه وعينيه في مواجهة جمهور يبدو أنه لا يفهم ما الذي يجري بالضبط خلال العرض البيكيتي؟
بين هذه الطرق جميعها وجد ساشو وممثلوه طريقهم للمعنى، فأتى الإضحاك من خلال تبني ممثلين كبار في السن لشخصيات تبدو بمأزق لا مخرج منه، عليها دائما أن تبتكر فحوى المشهد لأنه ما من شيء تبقى لها، وما يزيد غرابة الموقف وجماله هو الطاقة الجبارة التي يمتلكها الممثلون على الخشبة، بالرغم من أعمارهم. عيونهم مليئة بفهم عميق للنص ينعكس رشاقة إذا ما تحدثنا عن أجسادهم، فأتى أداء «في انتظار غودو» خارج كل المناهج المعتادة، أو الوصفات السريعة لمقاربة بيكيت على الخشبة.
للذليل لاكي مونولوج وحيد خلال المسرحية، فسيّده بوزو يأمره بأن يرقص، وأن يحمل الحقيبة، وأخيراً أن يتكلم. يعاني لاكي في إخراج الكلام من فمه، ثم يندفع الكلام على شكل مفردات غير مترابطة لا يجمع بينها شيء، وخلال إلقاء لاكي لكلامه (الممثل شبه العاري الذي تجاوز السبعين) يعلو صوته وتزداد طاقته الجسدية، فينفلت عن الخشبة الضيقة ليركض كالمهووس قافزاً على كراسي الجمهور، بينما الجمهور يشعر بخطره بعد أن ضرب ستراغون وأدماه، المقطع المكتوب بالنص يمر مرور الكرام أثناء قراءة المسرحية، لكنه في عرض ساشو كان أحد أجمل المشاهد وأكثرها رعباً حيث يصدّق المتلقي ويلامس تحول الإنسان لمسخ عنيف منفلت من عقاله.
أما الإضافة الأبرز في رؤية ساشو للمسرحية فكانت حيث يخاطب فلاديميرُ ستراغونَ باسم "غوغو" في بعض الأحيان، ويناديه ستراغون باسم "دودو" ما يجعل كلمة "غودو" هي نتيجة التقاء الاسمين، وكأن المعنى المراد هو أن غودو ما هو إلا فلاديمير وستراغون دون أن يعيا ذلك، ليبتعد المخرج عن الكثير من التحليلات الشائعة للنص، أبزرها تلك التي تعبر غودو لفظة مموهة لكلمة GOD (الله)، الذي ينتظر البشر تدخّله لوقف هذا العبث ولا يتدخل. هنا، فلاديمير وستراغون هما غودو الذي ينتظرانه، ليأتي دمية على شكل طفل جميل مع نهاية كل فصل وتخبرهما بلطف أنه لن يأتي اليوم، عساهما ينتبهان للمهزلة ويوقفانها، لكن المهزلة تستمر، وقد يكون الرجلان واعيين لها، ما يجعلها، المهزلة، أكبر وأشد وطأة.