أين الله من غزة؟

2024-05-11 02:00:00

أين الله من غزة؟
The Adoration of the Name of The Lord, Francisco Goya, La Adoración del Nombre del Señor, 1772

في الجهة الأخرى، هل ينتظر منا الله شيئًا ما؟، تذكرت أجمل دعاء لشاب يبكي عائلته التي قتلتها القنابل، حين قال " صلِ علينا يا الله، صلِ علينا يا الله"، ولم أجد ثقة مثل تلك في الحب المتبادل.

سمعتُ صوتًا غريبًا أمام الباب بعد منتصف الليل، مثل نعيق بومة لكنه أخفض وأقل تمييزًا، صوت غريب، فتحت باب منزلي ووجدت ظلامًا دامسًا وبرد، مشيت خطوة، شيء ما غزّني في قدمي الحافية بشدة، نظرت إلى أسفل وإذ بقنفذ ينظر إلي، كأن هناك حفرة وسط أشواكه، صرخت. إنها المرة الأولى التي يحدث هذا لي، نعم رأيت قنافذ كثيرة في منطقتي، لكن هذا القنفذ جاء إلى بابي وصرخ، نادني، وأنا أجلس خلف الباب مباشرة، كأنه قادمٌ لي، كنت أشاهد أخبار رفح، لكن صوته كان أعلى من الجزيرة. المرة الأولى التي أسمعه فيها.

نسيت وجع الأشواك في باطن قدمي، وتساءلت لماذا جاء القنفذ إلى بابي؟ ماذا أراد أن يخبرني؟ هل هو إشارة من الله؟ الإشارة التي أنتظرها منذ أن بدأت الحرب؟ هل سأفقد أحدًا؟ بابا، جدتي، عمتي المفضلة، عمي المسكين، صديقة الطفولة، يتوارد إلى رأسي جميع من عرفتهم في رفح، وطني الأول الذي يترافق مع وعي طفولتي.

لا يمكنني النوم، لقد تساءلت كثيرًا عن الله في هذه الحرب، لماذا لم ينقذنا؟، لماذا ترك 16 ألف طفل يُقتلون بأبشع الطرق؟ لماذا يتألم البقية من عشرات آلاف الجرحى والمصابين؟ كان يستطيع الله أنْ يخسف بإسرائيل، وأن يخدل الألم، وأن يجعل ثقل الحجار وطوابق البناء مثل قطن على أجسادنا؟ لماذا لا يتدخل الله؟

لماذا تحلل الشهداء وأصبحوا هياكل عظمية؟، لماذا لا تُشفى الجروح بسرعة؟ بل تتعفن وتخرج منها الديدان، ألسنا نحن في أرض فلسطين؟، أليس كل ما يحدث مقدّس وذكره القرآن؟، أليست هذه أرض الرباط وهم أحياء يرزقون؟

أعرف أنها ليست أسئلتي وحدي، بل حجم الفاجعة يطلقها تركض في أفكارك وقلبك، إنها أسئلة المؤمنين والملحدين، لقد زرت مدنًا عدة في الشهور الماضية، وسمعت أصدقاء يهمسون بها "وين الله عن الي بصير بغزة؟" لقد كانت على الدوام الإجابة راسخة داخلي إنه في القلوب، لولاه لما احتمل أحدٌ منا ذلك، لما صبر الناس على موت أبنائهم بأبشع الطرق.

الله وراء الصمود، الله المجرد من أي شيء ولون، الله الذي نحب، الله الذي نختاره نحن، ولا يفرضه علينا أحد، والذي يحمل أطفالنا إلى الجنة، ونساءنا إلى أنهار لا تنضب.

في واحدة من مسرحيات غسان كنفاني وهي ليست كثيرة، قال البطل إنّ الناس بحاجة إلى الله كي تصبح الدنيا قابلة للعيش، فما بالكم بالحرب، كيف ستكون قاسية لولا الله.

أنا لا أحاول الإجابة عن الأسئلة، غالبًا الإجابة عليها نسبيّة، لكني أعرف أن الله ليس ضد العلم وليس ضد العقل، بل إنّ ما يحدث يؤكد وجوده ولا ينفيه، بمعنى لا نحتاج إلى البحث عن الكرامات والمعجزات كرائحة مسك متهيئة لنا، هنا أو هناك كي نقول الله موجود، بل إن الله موجود دون ظهور علامات وإشارات، ولأن الله لا يمكن أن يحول الضعيف إلى قوي والرصاص إلى ريح والنار إلى ثلج لمجرد دعواتنا أن يحدث ذلك، لكنه موجود، وإلّا لماذا خلق الإيمان؟، إذا كان من السهل ظهوره.

لا أدري بعد لماذا جاءني هذا القنفذ؟ هل هو جائع؟ لقد غادر بسرعة، اختفى في لحظات، لكن علقت زيارته في رأسي، لقد جاء يخبرني بشيء سأعرفه قريبًا، أحيانًا تصلنا الرسائل بطرق أخرى، بالتأكيد أحدها الأحلام، لكني منذ الحرب لا أتذكر أحلامي، رغم أنها كانت كل شيء بالنسبة لي قبل السابع من أكتوبر، حتى الأمهات والآباء ليس أمامهم الآن سوى الأحلام، أسمعهم في مقاطع الفيديو يودعون أبناءهم وبناتهم الشهداء والشهيدات وهم يقولون "زورني في المنام يما". فالأحلام رسائل الله أيضًا.

يشتدّ الدعاء في كل مكان، أسمعه عشرات المرات كل يوم، دعاء العالقين تحت الركام، دعاء من في الأنفاق، دعاء النازحين، دعاء أهل الخيام، دعاء الأطفال، دعاء من خرجوا من غزة غصبًا عنهم، ودعاء المغتربين، الجميع يدعون الله، فأين أنت يا الله؟

نعم نشعر باليأس، فالحرب لا تتوقف، لا شيء يوقفها، لا دعاء الملايين، ولا دعاء رمضان، ولا العشر الأواخر منه، ولا ليلة القدر، ولا ملايين المكلومين، لكن لا نزال نقول، يا رب.. بصوتٍ واحد، نؤمن بك ونعرف أنه اختبار الإيمان، فلو أنك سهل يا الله ما كنا ننتظر الموت كي نلقاك.

لم يعد أحد يكتب أين القصف في رفح، من شدة القصف وتتاليه، إنها انفجارات عنيفة في كل مكان، كأنني دخلت سحابة ضباب، لا يمكن أن أعرف من فقدت إلّا في الصباح كذلك الآلاف مثلي.

إنّ صبر الناس على هذه الوحشية التي لم يشهدها التاريخ، ورباطة جأشهم بالنسبة لي هي الله، دفن الأم لابنها وهي تبكي لكنها تحضنه وهي تمتدح جماله هي الله، إن دموع أب على ابنته التي وجد عظامها بعد 200 يوم من الحرب وعرفها من ملابسها، كي يقول إنها أحب أولاده إليه هي صورة الله، إنه صراخ الطفلة أن يتركوها تحت الركام وينقذوا بقية عائلتها هنا الله، كلمات شقيقين " شكرًا يا إسعاف" والدماء تسيل على وجهيهما تمثل آخر لوجود الله.

الله ليس بالقوة الخارقة كما يعتقد الناس، ليس لمحاربة الظلم، ليس سوبر باور، إنه الصبر في قلب الضعفاء، والثبات في الأهوال، والأمل في كل ذلك اليأس، إنني أراه في ناسي كل يوم وفي كل حرب، ومنذ أن بدأ الموت يزورنا كل عامين، رأيته بالرضا، والتفاصيل الصغيرة، إنه الحنان في لحظة وداع. إن هذه الحرب نخوضها في قسوتها داخل رحمة الله. انظروا إلى كل ذلك الصبر والدموع المسكوبة محبة وانتظار.

أنا لست متدينة، لكن أربع حروب رأيت فيها الله في القصف والجثث المحروقة، وتحت رعب الطائرات المسيّرة وغير المسيّرة، لم أعد أسأل أين يذهب الشهداء؟ بل أصبح سؤالي كيف سنلقاهم ونحن أحياء؟

في الجهة الأخرى، هل ينتظر منا الله شيئًا ما؟، تذكرت أجمل دعاء لشاب يبكي عائلته التي قتلتها القنابل، حين قال " صلِ علينا يا الله، صلِ علينا يا الله"، ولم أجد ثقة مثل تلك في الحب المتبادل.

آلمتني قدمي التي غزت بها أشواك القنفذ، نبهتني أنّ الألم حكمة، والفقد حكمة، والخوف حكمة، وقد يكون لا شيء سوى ما هو عليه، الألم عذاب، والفقد شوق، والخوف هرب، لكن صورة الله داخل كل واحد فينا تجعل لكل شيء معنى آخر.