لم يسألنا أحد إن كنا نريد الموت...

2023-11-08 10:00:00

لم يسألنا أحد إن كنا نريد الموت...
Untitled 2020, Malak Mattar

تشدني الحرب إليها من جديد والمأساة، أتمنى أحيانًا لو أنني من مكان آخر، لكن تأتي ابنتي لتقول لي بالإنجليزية " تعرفي يا أمي أنا عندي أحسن بلد أم في العالم، كل الناس تحب فلسطين". فابتسم وأفكر ربما ستكون الحياة مختلفة مع جيلهم، لقد واجه جيلي أصعب أوقات وحروب واقتتال داخلي، لقد فقدنا الأمل ألف مرة، وعشعش الخذلان في أحلامنا.

على شاشة التلفاز أمامي: خبر قصف في جنوب قطاع غزة، أُمسك هاتفي وأبعث رسالة على تطبيق "واتس أب" لشقيقتي.

"ألو فدوى؟

انت منيحة؟

ردي؟

ألو؟

سمعت في قصف بمنطقتك؟

ما كتبوا اسم العيلة.."

لم ترد شقيقتي، فتحت "جروب" المحادثة بين شقيقاتي على الواتس وأرسلت لهن:

"فدوى ما بترد

متى كلمتوها آخر مرة؟

ردت عليكم؟"

ثم يظهر على الشريط الإخباري في قناة تلجرام وهو التطبيق الأسرع والبعيد عن الرقابة، اسم العائلة التي قتل منها 6 أفراد، وأقول في نفسي الحمدلله ليس منزلهم.

أصبحت أكره صوت إشعار رسائل التلجرام الإخباري، مرة أخرى قصف في المنطقة نفسها، وهذا المرة 13 شهيدا أغلبهم من النساء والأطفال. الرعب من جديد، أرتجف، أذني تزنان.

"ألو فدوى

نايمين؟"

لكن شقيقتي لا ترد، اتصل عليها عبر تطبيق "واتس أب"، لا رد، ثم اتصال دولي، ومسج دولي، أتصل على الأرقام التي أعرفها لأي شخص حولها.

ثم أدخل على "جروب" شقيقاتي:

"قصف آخر في المنطقة

الله يستر

حد كلمها؟"

رعب، معدتي تنكمش، صداع فظيع، بكاء مكتوم، أخاف أن أيقظ والدتي التي تعاني من مشاكل بالقلب لا أريد فزعي أن يفزعها.

ثم فجأة رسالة ظهرت على "واتس أب"

"أنا بخير، ماذا يوجد أخبار؟ لا نستطيع أن نعرف الأخبار هنا"

أحب رسائلها، أحب حين يظهر إشعار بحرفها الأول، لكن يا إلهي، ربما أرسلتها بوقت أبكر قبل القصف الأخير، ووصلت متأخرة.

لم يظهر اسم العائلة الأخيرة المقصوفة بعد، حين يظهر أو لا يظهر، فستبقى مصيبة عند أحد ما وراحة عند آخر.

ثم أصبحت أسأل نفسي أسئلة تقنية: هل تطبيق "الواتس" مثل "الماسنجر" رسائله تصل متأخرة أحيانًا؟،

 هل أبحث عن الإجابة في غوغل، أم أبحث عن اسم العائلات الجديدة التي قصفت؟ يدي ترتعش

ربما أختي هي ميتة الآن، يخرجوها من تحت القصف أشلاء كما يحدث كل يوم مع مئات العائلات، ربما لن يجدوا ابنتها الرضيعة أبدا.

تظهر رسالة أخرى منها.

"كنا نايمين، ننام بشكل متقطع من القصف "

أغلب العائلات التي قصفتها إسرائيل، فعلت ذلك بالليل، ويبلغ عددها حتى الآن أكثر من 900 عائلة بمجموع 7000 شهيد.

 وهنا ظهرت رسالة جديدة.

"صحيت بعد ما صحيت يويو، حتبدأ تمشي قريب، في أسبوعين صارت تتحرك أسرع من أي وقت".

الحمدلله، بالتأكيد لم يخطئ "الواتس أب"، هي بخير، أخذت أنفاسي، لكن بالتأكيد هناك شعرات بيضاء جديدة من الخوف في رأسي، فقد ظهرت الأولى بعد الحرب بيومين.

مرت على الأقل الساعات الأولى من الفجر دون خسائر، أسهر أتابع كل ليلة الأخبار في كل مكان ممكن، وأتساءل: هل قصفوا مكان شقيقتي ووالدي، فكل منهما في منطقة...؟ غصة مستمرة في الحلق، رعب من الأسماء التي تظهر للشهداء الجدد..أسرق بعض النوم لأرتاح.

قطعت إسرائيل الاتصالات يومين تقريبًا، فقد حجبت قطاع غزة عن العالم، فهي تتحكم بكل شي حتى وقت الهدوء، لم أعرف شيئًا عن شقيقتي ووالدي، شعرت أنني أريد السفر فوق المعابر كي أصل إليهما وأحميهما، لكن هذه الأيام لا يسافر من قطاع غزة المحاصر، سوى أرواح الموتى، والسماء مزدحمة هناك الآن.

إنه شهر ممتلئ بمصائر الناس الذين أحب، ومصائر المدنيين الأبرياء الذين تنتقم منهم إسرائيل، فبين 10 آلاف شهيد ومفقود جلهم من الأطفال أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفخاي أدرعي عن استهداف 55 اسمًا ممن يريدون قتلهم، يا للعار الذي سيلف إسرائيل وأمريكا للأبد.

صوت رنة إشعار الأخبار، قصف جديد في المنطقة ذاتها، بدأ الجحيم من جديد إنه أقصى من عقاب سيزيف الأبدي.

ظهرت الأسماء بسرعة، حزينة على العائلات التي تفقد أبناءها خاصة الذين يعيشون في الغربة مثلي، فتكون الحياة عادية تسير مثل أي يوم، ابنتي ترسم على وجهها بروفا للهالوين، ابني يلعب بلايستشن، أمي تصنع الزيتون بعد أن جمعته من الشجرة الوحيدة في المنطقة، والحمدلله لم يتشك علينا أحد، أختي تدرس الفرنسي.

 كلاهما ماما وشقيقتي وصلتا هنا منذ عام ونصف وأنا وصلت قبل سبعة أعوام، وعملت المستحيل كي تأتيان، ولو استطعت لجلبت كل عائلتي من الجحيم المفتوح هناك، لكن لم أستطع. بقيت أختي ووالدي، أما بقية أشقائي وشقيقاتي انتشروا في بلاد الله كأي فلسطيني من السكان الأصليين صُودرت أراضيه عام 1948.

نعم تكون هكذا الحياة تسير ببساطة حتى يظهر خبر عاجل لقصف في منطقة عائلتي، ليتوقف كل شي، نتشنج، يسكت البلايستيشن ودق الحجر على الزيتون، تأتي ابنتي سريعا "ماما ما تخافي"، الصورة تجمدت، هناك حزن كبير وغضب عاجز على كل هؤلاء الموتى الفقراء، الذين لم يروا سينما في حياتهم أو ركبوا طيارة، لكن عائلتي... أكاد أستفرغ قلبي خوفا عليهم، إلى هذه الدرجة يبلغ الرعب.

والدتي فجأة تبدأ تسرد حرب 1967 "يفتعلون مجاعة… هيك عملوا في 1967، كنت وعائلتي نقرقش الفول الناشف من الجوع، واعتقلوا سيدك، أبويا وهو بشتغل في المستوطنات بالضبط كما فعلوا هذه الأيام مع العمال من غزة العالقين في الضفة الغربية".

ماما طوال أيام الحرب تمر على عينيها ذكريات طفولتها في تلك الحرب " الناس سرقت الطحين من مخزن الوكالة، هيك عملوا الناس بالضبط في ال1967".

أشفق عليها من حربين في رأسها، كيف ستحتمل، لديها دعامتين في القلب، إنهار قلبها بعد حرب 2008 ستبقى الحرب الأعنف في ذاكرتنا لأنها الأولى، ربما كنتُ السبب، جعلتها تخاف علي كثيرا، فقد قضيت أغلب الوقت تحت القصف، أغطي القصص، وأترك كل شيء ورائي واستمريت هكذا في حربي 2012 و2014.

لم أشعر أن شيئاً سيحدث لي على أرضي، عكس هنا، ففي كل مظاهرة لوقف الحرب، الآن نخرجها في مدينة تولوز الفرنسية التي أقيم بها والشرطة تلقي علينا القنابل، أشعر أن القنبلة ستأتي على رأسي أنا بالذات وأخاف، لم أعرف الخوف في غزة، لكني عرفت على أرض ليست لي، تؤيد حكومتها المجازر بحق أهلي.

لا تعرف عيناي النوم، أفكر: كيف سكت الله ولم يخبرنا أن كل ذلك الموت قادم إلى غزة في شهر أكتوبر، من كان يعرف؟ هل حماس نفسها كانت تعرف؟ أشك في ذلك. لم يعرف أحد سوى أبو خالد الضيف ورجاله بأن عزرائيل سيحوم في سماء غزة شهرًا وأكثر.. دون أن يسألنا إذا كنا نريد الموت؟ نريد فقد منازلنا وذكرياتنا، وأصحابنا؟ مكاننا الوحيد الذي شكلنا فيه حياة نحن الذين نعيش أشباه حياة بعد أن نغادرها في أوروبا والخليج وأمريكا.

لقد تركونا كلهم "حماس والعرب والغرب ومحمود عباس" في أفواه الوحش، لكن أليس كل السكان الأصليين يدافعون عن أرضهم حتى الموت؟ أليست الدماء ثمن والمدنيين وقود الحروب في كل مكان؟، لكن نحن وفي هذه اللحظة أمام عدو لا يريد أن يعترف بفشله بالسابع من أكتوبر/تشرين أول، ولن يتفاوض، ولا يريد سوى رد هيبته بالقوة والسلاح وأقصى أساليب قتل ممكنة ولن يتراجع بل سينتقم ويقتل ويجوّع البقية.

لم يظهر اسم العائلة التي قصفت، ستكون ليلة طويلة أخرى من الجحيم، أذرع الغرفة ذهابًا وإيابا، أرد على عشرات الرسائل على "ماسنجر"، وتنبيهات من إدارة الفيس لإبلاغي بحذف منشورات لي.

أمريكا تحيط بنا في كل مكان، لا منبر حر للفلسطيني، إنها "الهمجية مقابل الحضارة" كما وصفنا بنيامين نتنياهو بكل عنصرية المستعمر، نحن " الحيوانات" كما وصفنا وزير الدفاع الإسرائيلي، لا نستحق منبرا مفتوحا ولا ممر غذائي أو أماكن آمنة للنزوح، يجمعون الناس فوق بعضها في المدارس، يستخدمون حمامات قذرة، أغلبهم أصيب بالحكاك والجرب، ليس لديهم مياه نظيفة أو خبز، إنه احتقار وانتقام من نوع آخر لإذلال الناس.

لا يمكن أن نوقف المحرقة التي تأكل الناس الآن، لكن أتمنى ألا يصيب لهيبها عائلتي، من الصعب على شقيقتي الكتابة عبر تطبيق الفيس، لأنه يأخذ وقت أكثر في التحميل، ولديها حزم صغيرة من توفير الانترنت، لذلك يعتبر تطبيق "واتس أب" أسرع وأسهل.

أرسلت صورة لابنتها لقد صنع لها أطفال من أقاربها اسورة من الخرز الزهري.

"يا إلهي ما أجمل يدها بالإسوارة".

هل ستكون الإسوارة هذه علامة التعرف عليها حين يردمها الإسمنت؟، يا إلهي أنا مجنونة، ولدي فوبيا الفقد، وزادتها الحرب استعارا..

هل ستكون هذه آخر صورة لها؟ وحين ترحل مع العصافير سننشرها على السوشيال ميديا وننعاها بكلمات حلوة..؟.

 لقد جننت، يجب أن آخذ مهدئات، ولكن أين؟ لا أعرف من أين آتي بها؟ كما أنني في إضراب عن الطعام منذ اسبوع؟ وستقتلني المهدئات… لا شيء أعمله كصحافية عاطلة عن العمل، تشعر بالعجز أمام دمار مدينتها، سوى الإضراب عن الطعام مع مجموعة أخرى من الناشطين في العالم.

حاولت أن أُضحك شقيقتي بتسجيل صوتي، فقلت لها:

" وصيت ماما ألا تطبخ شيء أحبه وله رائحة نفاذة بسبب إضرابي وراحت عملت مناقيش، ومجدرة، وكيكة شوكلاتة، وفلافل، ومقلوبة، وأنا أهرب إلى الغرفة الأخيرة كي لا أرى ولا أشم، أقسم بالله طلعت أمك سعودية" فضحكنا كثيرا.

وقد أقامت السعودية، موسم رياض في احتفالات ضخمة وأغاني حية وحضور نجوم من العالم، دون التضامن مع فلسطين وقضيتها، إن إغراق السكان بالحريات الجديدة الحل كي لا يسأل أحد عن القضايا القومية والأخلاقية ولن أقول العقائدية.

أدعو الله ألا تكون هذه آخر ضحكات أختي، توأمها تعيش معنا، هي قلقة وحزينة جدا، وتكاد تجن لكن بأسلوبها، فالشباب أكثر اتقانا للهرب من الألم، وأقل دراما مني، أنا أصرخ بمجرد أن أقرأ خبر قصف قريب، وأقفز عن الكنبة.

أشعر أن سأقتل أمي بسبب ردات فعلي..لكني أكره الحرب، أشعر أنها لن تتركني أبدًا بعد أن كنت تقدمت في حياتي هنا وبدأت اندمج وأتعلم اللغة أنسى الماضي المؤلم.

تشدني الحرب إليها من جديد والمأساة، أتمنى أحيانًا لو أنني من مكان آخر، لكن تأتي ابنتي لتقول لي بالإنجليزية " تعرفي يا أمي أنا عندي أحسن بلد أم في العالم، كل الناس تحب فلسطين". فابتسم وأفكر ربما ستكون الحياة مختلفة مع جيلهم، لقد واجه جيلي أصعب أوقات وحروب واقتتال داخلي، لقد فقدنا الأمل ألف مرة، وعشعش الخذلان في أحلامنا.

تظهر عائلة جديدة ومذبحة أخرى ضحيتها عشرات من النساء والأطفال، أشعر بالذنب حين أفرح أنهم ليسوا عائلتي، الحرب تقلل إنسانيتنا بالتأكيد، وتجعلك تفرح للانتقام، كنت بعد أن فقدت عائلة عمي في 2014 كتبت مقالات مشهورا " لا تحدثني عن السلام بعد اليوم؟" أعرف جيدا ما الذي قد تفعله هكذا حروب في داخل الانسان، يفقد الأمل بكل شيء، اعتقدت وقتها أنني أعطيت نصيبي من الشهداء والموتى لكن يبدو أن الزمن يخبئ لي مآسي أخرى.

أتمنى ألا يفقد الناس الأمل بالحياة والعدالة، الاعتدال سيكون نادرا بعد هكذا حرب، ومصافحة العدو غدت استحالة، إسرائيل تعيد النفخ في روح أعدائها من جديد، بل تصنع منهم جيلا آخر بل أجيال قادمة لن تنسى الثأر.

لا أصدق حين أرى الركام الجديد الذي جاء فوق القديم والرماد على الوجوه والمباني، كأنه فلتر هاتف محمول أو فلتر تطبيق سوشيال ميديا، يا ليته فلتر، بمجرد إزاحة الشاشة يعود كل شيء إلى ما قبل 7 أكتوبر، يعود الشهداء والـ4000 طفل.

قصف جديد في المنطقة، وأرسل من جديد لشقيقتي:

"كويسين؟..

آه كويسين ما تقلقي، يويو جربت تاكل كوسا أول مرة تاكلها وامبارح بطاطا، هذا المتاح.

واليوم عبينا مي بطلوع الروح وجبنا شوية خضار

 لا تخرجي يا أختي، لتشتري أي شيء، إنهم يقصفون السوق والسوبرماركت والكنيسة، ما تخرجي، ليس هناك مكان آمن".

إنهم الحراس بالبدلات الزهرية يا أختي، ونحن نرتدي الخضراء، هي الآن سكواد جيم... بل أكثر إنهم الله، يختارون من يعيش ومن يموت.

قليلون الناجون من القصف، وقليلون جدا من يعيش بعد القصف، وأقل منهم من يكون سليما تماما. هي الصدف والأقدار والحظوظ. لقد تعبت من الحروب والطائرات والمدافع التي تحكمت في حياتي وحياة من أحب، وسمحت لنا بالعيش، أو أعطتنا يوما آخر إضافي ونحن نعرف أننا سنموت في اليوم الذي يليه. لكني الآن سآخذ نفسًا، فقد نجت شقيقتي وابنتها يويو هذه الليلة، وسأعود غدًا إلى يوم آخر طويل من الجحيم.

 

نشر النص باللغة الفرنسية في L'orient le jour.