أشتاق إلى حياتي البائسة قبل الحرب...

2023-10-29 02:00:00

أشتاق إلى حياتي البائسة قبل الحرب...
When Family is the Only Shelter, 2014, Malak Mattar

في لحظة ما كنت أشعر أني لي مأساتي الخاصة بفقدان عائلة عمي والمنزل الذي ولدت فيه، وبنى غرفه واحدة واحدة أعمامي الثمانية مع والدي وجداي بعد أن هاجرا من قريتنا صرفند العمار عام 1948.. لكن الآن لكل واحد منا في القطاع مأساة فقدان عائلة تخصه.

أجلس في محطة القطارات الكبيرة حيث المطاعم والمقاهي، أفكر أن أشتري دلوًا من الدهان الأحمر وألوث به واجهتيّ ستار بوكس وماكدونالد، من الداعمين الأساسين لجيش الاحتلال الإسرائيلي.

ورغم تاريخي في المشاغبة والمظاهرات ضد الانقسام في قطاع غزة وحركة حماس، إلا أنني ليست لدي القدرة على التخريب وحتى لو كان أمرًا يستحق ولقضية عادلة مثل وقف الحرب على قطاع غزة، وأغبط كل من لديه قوة القلب لفعل ذلك.

أقضي أيامي منذ السابع من أكتوبر/تشرين أول الجاري أجلس في المحطة حيث أقضي الوقت بين موعدي أن اصطحب ابنتي إلى المدرسة ثم أعود بها، أجلس مع جهازي الحاسوب وأكتب، وهناك مداخل كهرباء كافية لي ولجميع المسافرين الذين ينتظرون وأيضًا بعض المتشردين.

لا أستطيع أن أسمع مزيدًا من الأخبار، فقناة الجزيرة تصدح في المنزل طوال اليوم، نتابع كل الأخبار في كل مكان، فيسبوك/ انستغرام/تلغرام/ راديو، فلا يزال لدي عائلة هناك نرتعب عليها، ونحاول معرفة مكان القصف تحديدًا وعائلة من، وندعو الله " ما يكون عليهم أو جنبهم".

في يوم عملية بالسابع من الشهر، استيقظت فجرًا فجأة وفتحت الانترنت، وجدت الأخبار متلاحقة وهي أشبه بفيلم أكشن، لم أصدق، لم أعرف حجم الكارثة في البداية، اعتقدت أننا نحرر البلاد ونهاجم الجنود، فرحت وقلت أخيرًا مرة واحدة سنبدأ نحن القتال، رويدًا رويدًا عرفت أن الموضوع أقل من ذلك وأكبر في الوقت ذاته، فلم نحرر البلاد بل خط حدودي منها ومؤقتًا، ولم نقتل جنودًا فقط بل مدنيين أيضًا، ومع ذلك بقي لدي أمل بأن كل ما يحدث سيجعل قطاع غزة في وضع أفضل، لا شك إن الحرب تجعلنا إنسانيين أقل، كذلك تفعل الكراهية والحصار والقتل والفقر.

بعد أن قضيت في غزة عشرين عامًا من عمري الذي وصل الآن إلى بداية الأربعينات أستطيع أن أخمن، لماذا حدث كل هذا؟، لقد يأس الناس هناك إلى درجة غير مسبوقة، وزاد الشقاق داخل حماس، فريق يريد السلطة، وآخر يصر على النقاء الجهادي والأهداف العقائدية الأولى، وفي وسط كل ذلك، بطالة مرتفعة، فقر مدقع، ركام خمس حروب، كثافة سكانية عالية، هجرة عشرات الآلاف، تراجع الحقوق والحريات، ومع كل ذلك عدوان الاحتلال المتكرر وتعنته في الضفة والقدس وما يفعله الأسرى وعائلاتهم وأخيرًا قتل شيرين أبو عاقلة، والاستهانة بالحادثة بكل غرور.

لم يمر سوى يوم حتى بدأت تتكشف خيوط الحادثة وقصة المهرجان وارتفعت الأعداد، "لطمت" حرفيًا في المنزل، لا يمكن أن يكونوا قصدوا كل هذا؟، عرفت أن القادم سيحرق كل شيء، فمقاومة الاحتلال هذه المرة لتحرير القطاع من حصار وانقسام وعزلة عالمية وفقر ونسيان ربما تأتي بنتائج عكسية تمامًا، لم يتوقعها أحد.

لقد دمرت طائرات الاحتلال الإسرائيلية المجرمة مدينتي الساحلية الجميلة، قتلت ما يزيد عن 8000 شهيدًا أغلبهم من الأطفال، تراجع التعاطف مع القضية في البداية إلى أقصى درجاته، ثم سرعان ما عاد بعد أن فقدت إسرائيل سيطرتها وقتلت بوحشية مئات العائلات لاستعادة ماء الوجه، كما ظهرت حقيقة الأخبار الزائفة التي روجت لها في البداية حول قطع رأس أربعين طفلًا.

إلا أن للمدن أقدارها أيضًا، فمن يعيش في غزة يشبه تمامًا من كان يعيش في كيبتوسات مستوطنات الغلاف حول القطاع، كلاهما يعرفان أنهما في إناء يغلي على النار، سيحترق في أي لحظة، مع فارق أننا لم نستوطن الأرض، بل ولدنا فيها.

أيامي سيئة جدًا، يسودها الغبش، لكنها لم تكن حتى قبل الحرب جيدة أيضًا، أعيش مغتربة في فرنسا، معي إقامتها لكني لست سوى دخيلة عليها، لا أشبه الفرنسيين أو العرب هنا، المفاهيم الاجتماعية عمومًا لا أتوافق معها، أتكلم الإنجليزية وهو أقصى ما يكرهه الفرنسي طالما أنك لست أمريكيًا أو بريطانيًا، لا آكل لحم الخنزير، ولا آكل الحلال أيضًا، لست من هواة العلاقات العابرة وضد الزواج أيضًا، لست من هواة الحجاب لكني ضد منعه.

أمشي غريبة عما حولي كما كنت أمشي في شوارع غزة، إلا أنني كنت أسمع هناك الشتائم، وهنا لم أسمعها بعد إلا أنني أرى العنصرية/الشفقة في العيون، لا أعتقد أنني سأشبه مكانًا طالما أنني لم أكن في أرضي الأصلية يومًا، الغربة متكاملة بالروح والعقل والجسد، حاولت أن أغير ذلك، وأتعرف عمن حولي، حتى أضفت تطبيقات التعارف إلى هاتفي.

دخلت مدرسة نسائية للبالية والرقص الحديث، داومت على دروسي لتعلم اللغة الفرنسية، ذهبت إلى اجتماعات لم أفهم منها شيئًا، زرت جيرانًا فرنسيين كانوا يعاملوني كلاجئة وليس مساوية لهم، وجيرانًا عربًا عاملوني كخارجة عنهم، لم أبحث سوى عن المحبة، فقدت الأمل في التفاهم والالتقاء، المحبة ما قد يجمعني مع كل هؤلاء، رأيت بعض أمل، لكن كنت أحاول جاهدة، أعيش حياة بؤس، لم تختلف عن بؤسي وحزني في غزة.

ثم فجأة تدخل الحرب متوحشة على حياتي، توقف كل شيء، تركت الاهتمام بالذات بل أصبح الاستشفاء مفهومًا مضحكًا أمام ما يحدث، طلبت معلمتي الفرنسية أن أترك "كورس اللغة" لأني لا أحرز تقدمًا و"بالي مشغول"، فقدت التواصل مع محيطي مرة أخرى، أكرر الكلمات ردًا على المواساة كأنني آلة، لا أفكر فيما أقول، لا أفكر سوى وأنا أكتب أو حين أحاول التواصل مع عائلتي في غزة.

صور الضحايا والأخبار أكلت روحي وعقلي، الصدمة والمفاجأة والإحساس بالتقصير يجعلني أتراجع عن الحياة، وكل ما شُفي داخلي عاد للخراب.

 كنت صحافية غطيت ثلاث حروب في قطاع غزة 2008 و2012 و2014، أتحرك في كل مكان، فحين تكون صحافيًا في بلدك تحت الحرب تؤمن إيمانًا غريبًا أن لا شيء سيحدث لك، الآن أشعر بالعجز وأسافر في خيالي إلى الموتى والمدينة التي هجرها أهلها وقصفت بيوتها، وأتخيل ماذا كنت سأكتب؟ ماذا كنت سألاحظ؟

 ربما كنت سأتبع القطط الوحيدة، أبحث عن ساكنين لم ينزحوا من المكان وأواسيهم، ربما لأول مرة سأعيش اللحظات التاريخية في غزة حين تمر من فوقي طائرة اف 16 وحولي الخراب ممتد آلاف الكيلومترات، وبذلك أكون في حرب كبيرة أخرى عالمية، لكني عشتها هذه اللحظات العالمية هناك من قبل؛ في انسحاب الاحتلال وفوز الإسلاميين بالانتخابات، وفي الانقسام الداخلي وفي ربيعنا العربي. 

فقد كانت لدي دائمًا الأحاسيس الأولى الطازجة نحو الأماكن والأحداث تجعلني أركض لقلمي، لذلك الآن أشعر بالرغبة الشديدة للذهاب هناك كما لو أنني ذاهبة لحبيب سري نستكشف معًا العشق..

شاهدت في فرنسا على التلفاز حربي مايو/أيار 2021 وأغسطس/آب 2022، لم تكن كما مشاعري الآن الملحة والقوية لأكون بين عائلتي وأحميها.

 لقد اُرتكبت الأخطاء نعم، لكن ما ذنب الناس والأطفال لتنتقم إسرائيل منهم؟، ويسكت العالم كما سكت على العراق وأفغانستان وقانا في لبنان، سيحاسبهم التاريخ والصحافة الحية. لقد كانت حربًا على الأطفال، ويظهر ذلك في أعداد القتلى والمصابين والمهجرين.

استشهدت الشابة مريم سمير بعد أن قصفت منزلها طائرة إسرائيلية/أمريكية، وهي أديبة، كانت تتحمس كثيرًا لزيارة العالم خارج قطاع غزة، فقد قضت معظم حياتها في الحصار والحروب، لم تعرف ماذا يعني طائرة أو سينما. ذكرتني بابنتيّ عمي اللتين قتلتا في حرب صيف 2014 في قطاع غزة، فقد كانت آخر مكالمة بيننا قالت فيها هنادي وبجانبها أختها أسماء تقهقه "بدنا نيجي غزة، نطش بعد ما تخلص الحرب "، لكنهما قتلتا حيث تسكنان في مخيم رفح، جنوب قطاع غزة، مع سبعة آخرين من عائلتهما.

في لحظة ما كنت أشعر أني لي مأساتي الخاصة بفقدان عائلة عمي والمنزل الذي ولدت فيه، وبنى غرفه واحدة واحدة أعمامي الثمانية مع والدي وجداي بعد أن هاجرا من قريتنا صرفند العمار عام 1948.. لكن الآن لكل واحد منا في القطاع مأساة فقدان عائلة تخصه.

أخذت أفكر بصديقي اليهودي الفرنسي الذي غضب مني لأني قلت "إنها ليست الهولوكست"، فرد "وهل كان يجب أن تكون الهولوكست يا أسماء؟!"، "بالتأكيد لا يا عزيزي، لكن مع كل ما يحدث، يجب أن نفهم الظروف والأسباب التي أدت إلى ذلك. العنف لا يؤدي سوى إلى العنف والدم لا يجلب سوى الدم، والتطرف لا يربي سوى تطرفًا"، توافقنا كما كنا دائمًا وسنكون.

ثم فكرت بأشياء أخرى؛ لماذا حين قتل منا الآلاف من قبل لم يتحرك أحد؟ وحين قُطعت رؤوس الأطفال من القصف لم يعترض أحد؟، وحين جمعنا بقايا لحم ابنتيّ عمي الذي التصق بالحديد الساخن كي ندفنهما متماسكتين، لم يدعشن أحد إسرائيل؟  فكلا الجهتين متدينتين، وتتبعان النص الديني والقتل العقائدي؟ إذن لماذا نحن أقل في نظر العالم؟ ألم تكن لنا مظلوميتنا الكبيرة، ونكبتنا أيضًا التي هجرنا وقتلنا فيها على أساس العرق؟

هل لأنها دولة بجيش، ونحن جماعات وفصائل دون جيش أو دولة؟، ألم يكن كذلك الهنود الحمر، والأكراد، والماوري، وشعب أستراليا الأصلي.

يعزف مراهقون على البيانو في محطة القطارات بسعادة، ابنتي أيضًا تعلمت عزف البيانو، أردت أن تتعلم كل ما تحب وتجرب كل شيء، ففي صغري خلال الانتفاضة الأولى في المخيم لم أتعلم سوى الركض من جنود الاحتلال وقت منع التجوال، اذكر يومًا اختبأت منهم حافية، وفجأة دعست على نحلة وقد قرصتني في باطن قدمي وأصبحت أصرخ وأقفز على قدم واحدة بين مجموعة أطفال لنجد أنفسنا في ثواني محاطين بجنود الاحتلال، الذين هددونا وأرعبونا وسحبونا من ملابسنا إلى بيوتنا.

أتمنى لو بقوا يسحبون الأطفال من ياقاتهم إلى بيوتهم فقط، بدل قتلهم داخلها الآن، إن الحدود الأخلاقية الذي قد تصاحب الاحتلال سقطت الآن بقوة.

 وإذا كان العالم يعامل جيش الاحتلال كجسم رسمي تابع لدولة لا يمكن اتهامه بالداعشية يجب كذلك أن تكون محاسبته على السقوط الأخلاقي أضعاف مما نحاسب المقاومة، ولكن هذا لا يحدث، بل نجد تهليل للجيش، ودولة الأبرتهايد، حتى إن ماكدونلدز وستار بوكس تبرعت لهم بوجبات وأموال ليستمر شلال الدم. وإن تعظيم العنف ذلك لن يجعلني لحظة أقدم على شراء دهان أحمر ألوث به الجدران والواجهة والزجاج والبلاط والطاولات و و و و...