لم يكن حمد في العرض المسرحي راوياً تقليدياً بل كان استثنائياً في نقله تجارب إنسانية تعبر عن حاجة أساسية لذوي الاحتياجات الخاصة دون زيادة أو نقصان. نجح القائمون على العرض في تقديم مسرحية تحمل معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة بطرح فكري وعاطفي دون توريط المتلقي في الشفقة على ذوي الاحتياجات،
هذه ليست المرة الأولى التي تُقدم فيها شخصية الأعمى في تاريخ المسرح، بل تم تقديم الكثير من الشخصيات في الإرث المسرحي العالمي ذات إعاقات متنوعة وتم توظيفها في الكثير من الأشكال لنقل وتقديم الحقيقة والحكمة والمعرفة. وقدم أيضاً موريس مترلنك مسرحية العميان التي تدور أحداثها في دير يسكنه عميان ويكون المشرف عليهم مبصر ويقودهم في رحلة توهان وخداع إنساني، وعند موته في آخر المسرحية نكتشف أن العمى حقيقة والبصر وهم.
وأخذ توظيف الإعاقة بالمسرح أشكالاً متعددة، فمنها من استخدم التأثير العاطفي لجذب الجمهور والترفيه، ومنها تناول مواضيع إنسانية اجتماعية و فكرية، ففي مسرحية "أوديب" لسوفوكليس، كانت شخصية تريسياس (العراف) مصابة بفقدان البصر، ولكنها على مدار المسرحية قدمت الحقيقة والبصيرة. كانت الحقيقة في عيون تريسياس الأعمى. ولم تكن في عيون أوديب المبصر ومن هنا بدأت مسرحية حمد سمامرة. كأنه يقول لنا أنتم المبصرون لا تستطيعون رؤية ما نعاني منه، وها نحن نرويه لكم ببصيرة وليس ببصر.
ببصيرة حسية عالية وأداء فاق الألم الواقعي الذي يعيشه ويمر به ذوي الهمم، افتتح حمد سمامرة العرض المسرحي "63 يوماً من الاعتصام" الذي يوثق تجربة ونضال ذوي الاحتياجات الخاصة في سعيهم إلى المطالبة بحقوقهم من خلال اعتصامهم داخل المجلس التشريعي الفلسطيني المعطل -كما هي حقوقهم- في ظل نظام سياسي متهالك لا يملك الرؤية والبصيرة تجاه أبنائه من ذوي الإعاقة. روى حمد من خلال العرض تجربة معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة خلال الاعتصام الذي دام 63 يوماً من أجل حياة كريمة. حاول حمد وزملاؤه أن يعيدوا الحياة ولو بشكل رمزي لخصوصية المكان الذي يفترض أنه المكان الحامي والمدافع عن حقوقهم وحياتهم، طلباً في حقوق أساسية لتكون حياتهم أقل صعوبة وأكثر إنسانية ولكي يحصلوا على أبسط حقوقهم من بينها التأمين الصحي، وتأمين الدواء والمعدات الأساسية كأضعف الإيمان.
قدم حمد تناقضات واقع المؤسسات وغياب الوعي والفكر عمن يقودها، والتي يجب أن ترعى حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة وتقدم لهم الخدمة المستحقة، وإن لا تقدم لهم الخطابات والبيانات الانشائية والوعود. وبسرد توثيقي تهكمي حرص حمد والقائمون على العرض في نقل المعاناة بواقعتيها. واستطاع حمد فضح عجز المؤسسات الرسمية والأهلية من خلال عرض مسرحي ملفت تقف أمامه متسائلا عن حجم المأساة التي تقع على كل ذوي الاحتياجات الخاصة في فلسطين.
وكان حمد سمامرة فاقد للبصر يؤدي دوره على خشبة المسرح بوعي بصري وحسي ملفت؛ يعي ما يريد ويعي الزمان والمكان اللذين يلعب بهما الدور، بل بدا حمد بلعب دور الراوي الملحمي الذي لم يكتفي بسرد الأحداث بل كان يعلق عليها وكان جزءاً أساسيا منها ومن صناعتها هو وزملائه، ويتفاعل بإحساسه الخاص وبدا كممثل محترف ممارس لمهنة التمثيل؛ يتنقل في مشاعره من جملة الى أخرى، ومن حدث الى آخر بكل احترافية، ويروي وينقل لنا الشخصيات الغائبة المشاركة في الاعتصام والمؤثرة فيه وعليه. لم يكتف العرض المسرحي بالسرد الصوتي فقط بل تم تقديم العرض بشمولية تعبير لكافة ذوي الاحتياجات حيث تم توظيف مترجمة للغة الإشارة بطريقة مسرحية للتأكيد على حقوقهم بكل الأدوات المتاحة.
لم يكن حمد في العرض المسرحي راوياً تقليدياً بل كان استثنائياً في نقله تجارب إنسانية تعبر عن حاجة أساسية لذوي الاحتياجات الخاصة دون زيادة أو نقصان. نجح القائمون على العرض في تقديم مسرحية تحمل معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة بطرح فكري وعاطفي دون توريط المتلقي في الشفقة على ذوي الاحتياجات، وهذا ما هو مطلوب، أن نتعامل ونخدم ذوي الاحتياجات من باب الحقوق وليس من باب الشفقة.
يذكر أن العرض المسرحي أنتج بشكل مشترك بين "مركز خليل السكاكيني" و"تعاونية البسطة" من خلال مشروع الإعاقة تحت الحصار بالشراكة مع جامعة برمنغهام. وقدم على مسرح "مركز القطان" الثقافي. إخراج العمل كان بالاشتراك بين رزق إبراهيم وعفاف أسدي ونفذ السينوغرافيا مرح فرحات بينما كان الإشراف الفني حسام غوشة ومشاركة فنية من سبين سعادة وعاكف دراوشة وترجم للغة الإشارة اسمهان عصفور.
في النهاية كنت أتمنى أن لا يقدم هذا العرض على خشبة المسرح ولا تكون قضية ذوي الاحتياجات بهذا العقم السياسي والاجتماعي. بحيث يلجؤون إلى استخدام المسرح كمنبر يكاد يكون الأخير للمطالبة بأبسط الحقوق والواجبات.