بورخيس على أبواب القدس

2023-03-23 02:00:00

بورخيس على أبواب القدس
Hosni Radwan, Lost City 1, 2021, charcoal & acrylic on canvas, 90 x 74 cm

برتراند راسل، الذي قرأه بورخيس بكثرةٍ، في محاضرة عن التصوف والمنطق، وعن دور العلم في التعليم المتحرر، يريد لنا أن نجد مكاناً وسطاً بين الماضي والحاضر: بين تفهّم أن الماضي حيّ ومعناه يتجلّى في التأمل الزاهد شبه-الرواقي للزمن، وبين أن نحيا في عالمٍ قذرٍ لا معنى فيه إلا بأن نلتزم سياسياً في معارك دائمة:

في بداية حزيران سنة 1967، قبل أن يُعلن وقف إطلاق النار، والأخبار غير واضحة من القدس، جلس خورخي لويس بورخيس على مكتبه في العاصمة الأرجنتينية بيونيس آيرس، ليكتب قصيدة يمتدح فيها إسرائيل: ذاك الذي صدّع رؤوسنا بضرورة ابتعاد الأدب عن السياسة، وبمذهب الفن من أجل الفن، يتحول إلى شاعر من الدرجة الثالثة، ليكتب قصيدة سخيفة في مديح الاستعمار. 

يعتقد ماريو بارغاس يوسا، أحد المعجبين ببورخيس بشدة، أن في أعمال بورخيس عنصرية مضمرة اتجاه السود وسكان أمريكا الأصليين، حيث تكون شخصياتهم غامضة وغير عقلانية. ويوسا نفسه، الذي يصف نفسه دوماً ب"صديق إسرائيل" منذ الستينيات (وليس صديق الفلسطينيين، لماذا يا تُرى؟)، قد غيّر موقفه منها، وتصاعدت انتقاداته الحادة جداً لسياساتها ورفضها للسلام مع الفلسطينيين في العقود الأخيرة. 

ربما، يمثّل بورخيس الجيل الأقدم من المثقفين الغربيين، الذين دعموا بشكل كامل إقامة دولةٍ يهودية في فلسطين عقب الهولوكوست، متجاهلين كلياً أصحاب الأرض الأصليين. وقد كرر موقفه الداعم لإسرائيل مراراً، وكتب فيها قصيدة أخرى، بنفس مستوى الأولى، بعد سنتين من النكسة*. أو، ربما، يمثل موقفه واحداً من أفظع التناقضات في النفس البشرية: احترام التاريخ على حساب الحاضر. فقد اشتُهر بورخيس بموسوعيته، وباحترامه للحضارات المتعددة، الصينية واليابانية والهندية والعربية وغيرها: يوسا يعتقد أنه أول كاتب من أمريكا اللاتينية يكتب عن العالم، بدون شعور بأنه أصغر منه، وبهذا يتحرر من الدونية ومن العنصرية معاً.

بهذا المعنى، لا يمكن اتهام بورخيس بالعنصرية اتجاه العرب، فقد كان معجباً بشدة بحضارتهم وتاريخهم وأدبهم. ولكن هذا الإعجاب يقتصر على الماضي. الكثير من الأكاديميين والمختصين بالشؤون التاريخية العربية والإسلامية يشاركون بورخيس موقفه هذا. يتحوّل العالم العربي لديهم إلى خزانة آثار عفنة: بين صوفية ابن عربي وعقلانية ابن رشد، والإعجاب الدائم بالجامع الأموي وقبة الصخرة، إلى قصر الحمراء، ومعبد الكرنك وبوابة عشتار، وأحجار تدمر، لا يرى هؤلاء الباحثون الحاضر، ولا المخيمات الفلسطينية أو السورية، ولا حصار غزة. 

يحذّرنا أمارتيا صن، المفكر الهندي ذو الرؤى المنفتحة على الماضي وعلى الغرب الحديث، من المواقف المسبقة عن الآخر: المواقف التي ترسم عالماً وهمياً ساحراً في الماضي. على سبيل المثال، شوبنهاور وشليغل شوّها تاريخ الهند، واختصرا التعدد الفكري والسياسي والديني إلى روحانيات مملة. 

لو شون، القاص الصيني الذي أسس للأدب الحديث في بلده، انتقد بشدة زيارة برتراند راسل وطاغور إلى الصين. كان يخشى تحويل تاريخ الصين العظيم إلى أحافير لا يمكن الخروج منها: وشون كان يحارب من أجل حقوق المرأة، والمساواة، والاشتراكية، والعلم، والديمقراطية، والتعليم الحديث. كل ذلك يغيب عن النظام الكونفوشي الامبراطوري الصيني العظيم، على الرغم من مبادئه المتحررة والمساواتية في الأصل. وقد يجادل المرء كثيراً حول معنى الكونفوشية، حول علاقتها بالديمقراطية والطغيان، حول إمكانية استمرارها: كل هذا، لم يكن يعني لو شون، الذي فهم بحدّة ميول صينيين محافظين وغربيين متعجرفين إلى سجن الصين في ماضيها. على أنه ظلم راسل وطاغور، فقد كان كلاهما يتمسكان بتحرر الصين بطريقة تشابه طريقة شون، وانتقدهما قبل وصولهما، وقبل أن يستمع إلى ما سيقولانه!

لا يقع بورخيس فيما أسماه إدوارد سعيد "الاستشراق"، ولكنه يقترب من تلك الطريقة في التفكير، بمعنى ما. على أن حالة بورخيس مثيرة، لأنه يخون مبادئ الأدب العظيم الذي دافع عنه طيلة حياته، من أجل قصيدة سخيفة. صن وشون يقدّمان دفاعاً مباشراً صريحاً عن الحاضر، من خلال تحديث التراث وتثويره بالاتصال مع الغرب؛ على العكس تماماً من تلميذ سعيد الشهير، جوزيف مسعد، الذي لا يريد إلا أن يحيا في الماضي ويخوّن كل من يريد أن يحيا في الحاضر. 

ولكن، في الحقيقة، يكاد المرء يقع في فخ الحنين إلى الماضي، بكافة أشكاله، باستمرار: وحياتي (مثل بورخيس، في السنوات الأخيرة، تقتصر على ما أقرأ في الكتب، مع استحالة الفعل السياسي والثقافي المؤثر في المنفى) تتهاوى باستمرار إلى الماضي، تتهادى كقارب يقترب من شاطئ الأمان الأخير: حيث لا ثورات، ولا جياع، ولا أوراق اللجوء أو الإقامة، ولا أنظمة تمنعنا من دخول أراضينا. 

ربما، أفعل ما يفعله بورخيس: لدي حنين لا يُطاق إلى عالمٍ يرسم فيه الياباني هوسوكاي جبل فيجي يتجلى من كل الزوايا، كأنه كتاب مقدس؛ في قراءة هايكو بوسون، مرارأ وتكراراً، في التعلم من صوته وإنصاته إلى الصوت القادم من كل مكان؛ في سموّ دو فو وعنفوان لي باي؛ في الرغبة بزيارة العاصمة القديمة التي كتب عنها كاواباتا؛ في بساطة وسماحة أبي نواس، وتأملات بشار بن برد الملتهبة الغاضبة؛ في واقعية أوروبا في القرن التاسع عشر: من بلزاك وفلوبير إلى الانطباعيين؛ في زيارات تشخيوف وغوركي إلى تولستوي، حيث يتأملان بإجلال ديني خالص ذلك الذي يعرفان جيّداً بأنه يرتاب في الماورائيات ويعيش من أجل أن يجعل الحاضر ممتزجاً بها؛ وبالطبع، في قناعتي الكاملة بأن أفضل ما قدمه العرب يكمن في الماضي: شيخ المعرة الأعمى الكئيب.

 وفوق كل ذلك، لدي نفور لا يني يتزايد باستمرار من الفن الحديث وما بعد الحداثة، ومن كل أشكال التجريب المتعجرفة الغامضة، ومن الغرور النخبوي والتذاكي السمج الذي يطبع أعمال لارس فون ترير وسيوران وأشباههما، ومن الفردانية المملة في ثقافة وفن وحياة الغرب المعاصر، و-مثل بورخيس- من تطويع الأدب كي يصبح بروباغندا خانقة تبعث الضجر في الروح. 

ما لا أريده هو الحاضر. 

تترك آثار الفن جلالاً سرمدياً على عقول وقلوب المثقفين: تتحول إيطاليا النهضة إلى مجموعة تماثيل زاهية لعراةٍ فاتنين، والإمبراطورية العثمانية إلى تناسق أزرق يتربّع فيه المعماري سنان على قبة الكون، التاريخ القديم يتجلى في جلجامش يحاجج القدر ضد الموت. وفي هذا الجلال السرمدي، لا مكان للخوف، والشجاعة، وحسابات العلاقات الشخصية، وضرورة أن تتسخ الأيدي كي تنتج. وعن طريق تقديس الماضي على حساب الحاضر، يزور مئات آلاف السياح الغربيين إسرائيل والضفة الغربية لرؤية آثارنا سنوياً، بدون أن يفكروا لحظةً في زيارة مخيم جنين أو بلاطة ومحاورة الناس الحقيقيين بأجسادهم ودمائهم وآمالهم؛ ويعطي عشرات الأكاديميين الغربيين محاضرات باهرة في دول الخليج العربي عن التراث الإسلامي، بدون أن يشيروا بحرف إلى الربيع العربي. 

وهذا بالضبط ما حذّر منه لو شون قبل قرنٍ من الزمن. 

برتراند راسل، الذي قرأه بورخيس بكثرةٍ، في محاضرة عن التصوف والمنطق، وعن دور العلم في التعليم المتحرر، يريد لنا أن نجد مكاناً وسطاً بين الماضي والحاضر: بين تفهّم أن الماضي حيّ ومعناه يتجلّى في التأمل الزاهد شبه-الرواقي للزمن، وبين أن نحيا في عالمٍ قذرٍ لا معنى فيه إلا بأن نلتزم سياسياً في معارك دائمة: راسل دافع عن حق الصين بالتحرر من الإمبريالية الغربية، وسخر من تعليم الإغريقية واللاتينية لغير المختصين، وآخر ما كتبه قبيل وفاته رسالة عن حق العودة للفلسطينيين. 

أحاول يومياً أن أذكّر نفسي الشاردة المُحبطة الهاربة الخائفة بكل ذلك: على المرء أن يفهم التاريخ، ولكن عليه أن يعرف جيداً: لا كيلوباترا (أميرة إغريقية من نسل البلاطمة)، ولا زنوبيا (أميرة عربية تتمتع بالمواطنة الرومانية وتفخر بها وقد ادّعت أنها من نسب كيلوباترا كي تكتسب الشرعية) ولا ابن رشد (تلميذٌ لأرسطو يكره العامة ويحتقر الديمقراطية بعمق) يجعلونا نفخر بما يمكن تحقيقه: بل شوارع محترقة من البصرة إلى نابلس - بدون أمراء وأميرات ومتفذلكين، وحاضرٌ وحده يجعل الماضي مفهوماً ويستحق المعنى. 

 

 *القصيدتان من ديوان "مديح الظل"، المركز القومي للترجمة، 2011. انظر أيضاً كتاب "هوامش سيرة لبورخيس"، منشورات الجمل. 

 

بورخيس عند حائط البراق