مها حاج غير مرتبطةٍ بأمكنةٍ مغلقة، وبمعاينة حسّية للحظة تاريخية قاهِرة، كـ"نكبة 48". في "حمى البحر المتوسّط"، غرفٌ في أكثر من منزلٍ، تُقيم فيها عائلاتٌ، بعض أفرادها يحتاج إلى سكينةٍ لتحقيق رغبةٍ في كتابة رواية، وبعض آخر يجد في المنزل ملاذاً وعيشاً وحياةً، كأي عائلة أخرى. الخارج حاضرٌ بقوّة أيضاً، وفيه أحداثٌ وعلاقاتُ وتساؤلات.
3 مشتركات تجمع "حمى البحر المتوسّط" (2022) للفلسطينية مها حاج بـ"فرحة" (2021) للأردنية دارين ج. سلاّم: اشتغالٌ على الفرد الفلسطيني؛ اختيارٌ للمشاركة في التصفيات الأولى لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، في النسخة الـ 95 (تُعلن النتائج النهائية في 12 آذار 2023)، الأول باسم فلسطين، والثاني باسم الأردن؛ اختيارهما للعرض في الدورة الـ9 (1 ـ 7 تشرين الثاني 2023) لـ"أيام فلسطين السينمائية"، فالأول معروضٌ في حفلة الافتتاح، والثاني سيُعرض في الختام.
الاشتغال على الفرد الفلسطيني يختلف من فيلمٍ إلى آخر. مها حاج مهمومة بيوميات وتفاصيل ومآزق، في النفس والروح والاجتماع والعلاقات، من دون التغاضي كلّياً عن تأثيراتٍ يصنعها الاحتلال الإسرائيلي بأساليب مختلفة. دارين ج. سلاّم تمنح الحكاية الفردية بُعداً جماعياً، وتجعل التفاصيل اليومية للفرد مدخلاً إلى معاينة اللحظات الأولى لـ"نكبة 48"، وتحوّل المرويّ بعينيّ المُراهقة فرحة (كرم طاهر)، وأحاسيسها وتبدّلاتها الجسدية، إلى مساحة بصرية لاستعادة لحظة تاريخية مفصلية في تاريخ فلسطين، بما فيها من قتلٍ وتهجير وتبديل مسارات ومصائر، ومن عنفٍ يمارسه الصهاينة بنيّة واضحة لإلغاء وإقصاء، في الجغرافيا والذاكرة والحياة.
الفرد أساسيّ في اشتغالات مها حاج. "أمورٌ شخصية" (2016)، أول روائيّ طويل لها ("رمّان الثقافية"، 16 كانون الثاني 2017)، بدايةٌ مُثيرة لاهتمامٍ نقديّ، ولمتعة مشاهدة، لما فيه من حياكة سينمائية لسِيَر أفرادٍ يعيشون يومياتهم ببساطة وهدوء، غير حاجِبَين روتيناً قاتلاً في تمضية الوقت. في هذه الحياكة الرائعة، تعكس حاج شيئاً من أحوالٍ ورغباتٍ ومشاعر خاصة بأفراد عائلة، وبعلاقاتهم وأهوائهم. "حمى البحر المتوسّط" ("رمّان الثقافية"، 30 حزيران 2022) استكمالٌ لمشروعٍ يهتمّ بالتفاصيل اليومية، صانعاً منها مرايا شفّافة وقاسية لأناسٍ تائهين في آلامٍ ذاتية، وانكسارات وخيبات وأوجاعٍ، لن تكون كلّها نتاج احتلالٍ إسرائيلي، له بصماتٍ حادّة وغير مباشرة فيه.
الفرد الفلسطيني نفسه حاضرٌ في "فرحة" ("رمّان الثقافية"، 10 كانون الثاني 2022)، لكنّه غير مُكتفٍ بذاته كنصٍّ يكتب بالصُوَر حكاية وسيرة وهموماً خاصة به، لأنّه حجّة درامية وجمالية لقولٍ، يُوازن بين حربٍ ونكبةٍ واحتلالٍ ومجازر وقهرٍ وآلامٍ، وكيفية مواجهة المُراهِقة فرحة هذا كلّه، لوحدها، من داخل غرفة/قبو مُغلق عليها، فوالدها "يُخفيها" فيه، حرصاً على سلامتها، واعداً إياها بعودةٍ قريبة (!). المساحة الأوسع ستكون لمجريات فعل جُرميّ، يرتكبه الصهاينة في بلدٍ يحتلّونه، ويطردون بعض أهله ويقتلون بعضهم الآخر، مع أنّ حكاية فرحة، كمُراهقة وكفردٍ وكإنسانٍ، تحضر في ثنايا السرد الجماعيّ، والكاميرا (تصوير راشيل عون) لن تبقى آلة، بل روح فرحة وعينيها وانفعالاتها، في تلصّصها عبر ثقوب الغرفة/القبو على الحاصل في خارجٍ، يُفترض به أنْ يكون منزلها/قريتها/ بلدها، المسلوبة كلّها منها، تدريجياً.
الفرد الفلسطيني نواة جوهرية لـ"حمى البحر المتوسّط"، المكتفي به. فمعه وعبره، تُروى حكايات شقاء وقهر وانسداد أفق، منبثقةٌ كلّها من ارتباك نفسي/روحي، يُعانيه المرء في يومياته العادية، إنْ يكن زوجاً/أباً، أو متورّطاً في أفعال جُرمية (وهو أب/زوج/عاشق أيضاً)، أو امرأة/زوجة/أم. كلّ ما تبغيه مها حاج مرتبطٌ مباشرة بهذا الفرد وحده. فلسطين المحتلّة/الاحتلال الإسرائيلي يحضران قليلاً، بسلاسة وتبسيطٍ جمالي/درامي مُحبَّب، من دون أنْ يطغى على النواة الجوهرية تلك (مدير التصوير إدوارد إيبرل). الفرد الفلسطيني نفسه سيكون جزءاً أساسياً من النواة الجوهرية لـ"فرحة"، من دون أن يغلب على المشهد برمّته، لأنّه مرآة واقع وجماعة ومصائر، وإنْ تختفي الجماعة وواقعها ومصائر أفرادها عن الشاشة، مباشرةً.
إدخال فرحة إلى غرفة/قبو، بهدف حمايتها من الصهاينة، يتطلّب اشتغالاً أعمق على الأداء والتصوير، تحديداً. فالمكان مُغلق، والعتمة طاغيةٌ، والحركة الجسدية، تحديداً، مُحاصرة بجدران وأثاثٍ وأكياسٍ، ما يستدعي جهداً أكبر في التقاط نبض الحاصل في المكان، وفي خارجه أيضاً، من خلال التلصّص الذي تُمارسه فرحة، لفهم الخارج ومعاينته، من خلال ثقبٍ صغير في جدار أو بابٍ. والفيلم ـ إذْ يعيد صوغ مشهد النكبة الفلسطينية بمفردات سينمائية بسيطةٍ وسلسة ـ سيكون فعلياً ذاك الحاصل في الغرفة/القبو، حيث تلتقي أنماطٌ فنية وتقنية، ترتكز أساساً على جهد كرم طاهر، المُراهقة (هي أيضاً)، التي تؤدّي أول دور سينمائي لها. فطاهر تُحوِّل بعض مُراهقتها إلى فرحة، مزيلةً في الوقت نفسه كلّ عائق بينها وبين الشخصية، ما يدفع بفرحة إلى ممارسة مراهقتها المعطّلة بفضل حيوية مُراهقة كرم طاهر نفسها، مع اختلافٍ جوهري، كامنٌ في أنّ مُراهقة الممثلة غير معطّلة، كحالة فرحة.
مها حاج غير مرتبطةٍ بأمكنةٍ مغلقة، وبمعاينة حسّية للحظة تاريخية قاهِرة، كـ"نكبة 48". في "حمى البحر المتوسّط"، غرفٌ في أكثر من منزلٍ، تُقيم فيها عائلاتٌ، بعض أفرادها يحتاج إلى سكينةٍ لتحقيق رغبةٍ في كتابة رواية، وبعض آخر يجد في المنزل ملاذاً وعيشاً وحياةً، كأي عائلة أخرى. الخارج حاضرٌ بقوّة أيضاً، وفيه أحداثٌ وعلاقاتُ وتساؤلات. المسألة أنّ الحالات التي يعيشها أفرادُ تلك العائلات، تبدو "هدفاً" سينمائياً أساسياً. خاصة بالنسبة إلى وليد (عامر حليحل)، الذي يُشكِّل العَصب الدرامي للنصّ السينمائي (سيناريو مها حاج، الفائز بجائزة "نظرة ما" في الدورة الـ 75 لمهرجان "كانّ" السينمائي، المُقامة بين 17 و28 مايو/أيار 2022)، بما فيه من انفعال وقلق وتعب، ومن رغبات معطوبة، ووقائع قاسية، وشعور باختناقٍ.
عفوية كرم طاهر يُضاف إليها تصوّر سينمائيّ، يصنع شخصيتها التمثيلية (فرحة)، بكل انفعالاتها وهواجسها وقلقها وخوفها، وهذا كلّه لاحقٌ على جرأة لديها في مواجهة رغبة والدها المختار (أشرف برهوم) في تزويجها، والمواجهة مبنيةٌ على رغبة مُضادة لها في إكمال دراستها. هذه العفوية، رغم جماليّتها الأدائية، غير متساوية، جمالياً وعاطفياً ودرامياً، مع أداء عامر حليحل في شخصية وليد، المليئة بارتباكات واضطرابات ومخاوف وقلق، إذْ يبلغ أداؤه مرتبةً احترافية باهرة في تحويل ملامحه وشكله وحركاته إلى مفردات بشرية لشخصية سينمائية، غير متناقضة مع أفرادٍ كثيرين.
ملاحظةُ الاشتغال السينمائي على ثنائية المكان والأداء، في فيلمي مها حاج ودارين ج. سلاّم (العرض الدولي الأول لـ"فرحة" حاصلٌ في قسم "اكتشافات"، في الدورة الـ 46 (9 ـ 18 سبتمبر/أيلول 2021) لـ"مهرجان تورنتو السينمائي الدولي"، قبل اختياره رسمياً في الدورة الـ16 (14 ـ 24 أكتوبر/تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان روما السينمائي الدولي")، غير حاجبةٍ ما فيهما من مسائل قابلةٌ لنقاشٍ نقدي. فمقاربة فلسطين، قضية وشعباً وأفراداً ـ وإنْ تختلف بين فيلمٍ وآخر ـ تُشكِّل ركيزة سينمائية مفتوحة على اجتهادات بصرية ودرامية وجمالية، تُساهم في بلورة سينما فلسطينية تجديدية.