غسان كنفاني في عيون تيرا ويوسف وجنى

2022-08-17 11:00:00

غسان كنفاني في عيون تيرا ويوسف وجنى

تقول عنها آني كنفاني، زوجة الكاتب الشهيد، لـ "رمّان": "غسان مقروء الآن أكثر مما كان في حياته، ومعروف أكثر مما كان في حياته، الشباب حريص على قراءة كتبه والتعلم من أفكاره وقضيته الإنسانية. إنه ينمو ويزدهر مع كل دقيقة؛ امتد إرثه إلى ما وراء الحدود ولا يمكن إيقافه. أولئك الذين اعتقدوا أنهم يستطيعون قتل غسان أو إسكاته فشلوا. سوف يعيش غسان بعدنا جميعاً" وكأنه يولد من جديد في كل عام، وما يشكل هذه الولادة هي قدرة كل جيل على فهم غسان كنفاني واستعادة حياته.

تعلمنا الحياة أن لا أحد يستطيع أن يؤجل موته، أن يتحايل على الموت ويستعيد من هشاشته قدرته على الولادة من جديد، لا أحد يستطيع أن يخلق من موته مرآة كبيرة يرى فيها الجميع حكايته التي لطالما حاول روايتها، وكأننا أمام بدايات مفتوحة على احتمالات لا تنتهي، في كل بداية صورة نرى فيها كيف حوّل غسان كنفاني رحيله إلى فكرة نحملها بهدوء من عام إلى عام، نقلبها ونطرح أسئلتها، ونعيد قراءتها، لنرى فيها ماء الحكاية وهو يروي رؤيتنا الكاملة لمضمون فلسطين والمخيم والقضية والتحرير، في كل عام نقف أمام أسئلة غسان كنفاني الكبيرة، ونحن نعلم أن الإجابات أعقد من أن نقولها، ولكننا نستعيد من خلالها احتمالات الممكن في عالم هش وغير عادل يحاول كل يوم أن يفرغ أحلامنا من مضمونها. لقد مر نصف قرن على اغتيال إسرائيل للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، الذي استشهد في عام 1972 في بيروت مع ابنة أخته لميس. خمسون عام مرت صرنا أوضح فيها من أن نقول وداعاً، وأنضج من أن نصدق حقيقة الموت، بل وأقرب كجيل في استعادة صوتنا من بين آلاف الأصوات التي تتحدث باسم فلسطين، لذلك بعد خمسين عام يشكل الجيل الذي يقرأ غسان كنفاني اليوم، بداية واضحة نرى فيها كيف يولد غسان كنفاني من جديد، كأن في ولادته ما يحدد شكل الأفكار التي يبحث عنها كل طفل في المخيم يرى العالم أضيق من أن يتسع لراحه يده، ونرى ما تبقى من غسان كنفاني بعد خمسين عام تبدل فيها الواقع الفلسطيني، والظروف السياسية والاجتماعية بل وحتى الاقتصادية، ونجيب عن سؤال جوهري كيف يُقرأ غسان كنفاني اليوم؟ 

لا اقرأ غسان كنفاني لكي أنسى… بل كي أتذكر 

تقترب جنى (21 عام) لاجئة فلسطينية في لبنان، من حكاية غسان كنفاني كدليل على أن الحياة ممكنة، وأن صورة البطل الذي يجب أن نصدقه سوف يضيف إلينا ما هو أكثر من النجاة، لأن النجاة في جوهرها لا تضيء على احتمالات الحرية، بدون فهم كامل لمضمون هذه الحرية، وما تحتويه من أشكال تحتوي الجميع. 

"يمكنني أن أبدأ من حكايتي، الحياة في المخيم صعبة جداً، وصعب جداً أن يحلم الأطفال هنا بالبطولة الاعتيادية التي يحلم بها باقي أطفال العالم، لذلك عندما كنا نريد بطلاً حقيقياً كنا نجد غسان كنفاني، ليس لأن غسان كتب فقط، بل لأنه علمنا كيف نحلم، غسان ليس بطلنا الخارق الذي أنقذنا في النهاية، بل بطلنا الطيب الذي علمنا كيف نحلم وكيف نصدق الحلم، لذلك أنا لا أقرأ غسان لكي أنسى بل لكي أتذكر، وأكثر ما أتذكره هو الغضب، الغضب من فكرة الاستسلام للحياة التي فرضت علينا في المخيمات، الغضب من أن لي أرضاً وبيتاً، لذلك هذا الغضب لن يجعلني أرتاح مع حياة المخيم أبداً، غسان نظر إلينا كلاجئين ولنا حكاية يجب أن تكتب، أحب أم سعد لأنها قريبة منا وأصدقها أكثر من غسان، لأني أراها كل يوم في المخيم، بعد خمسين عام على رحيل غسان كنفاني لا أتذكر إلا الحرية، الحرية هي أعمق شعور يقدمه غسان لي، مع أنها صارت مقيدة أكثر مما كانت عليه في زمن غسان، حتى في الأماكن التي يجب أن تكون متوفرة فيها الحرية صارت غير موجودة، في المكتبة يمنعون عنا الكتب السياسية، في المدرسة ممنوع أن أتحدث، نحن أساساً في سجن كبير، وغسان علمنا عندما تنعدم الحرية يجب أن نكتب، لذلك أنا أكتب اليوم وسوف أكتب دائماً، ولو اقتربنا قليلاً من غسان كنفاني، سوف نرى أن فلسطين التي يبحث عنها هي فلسطين واحدة غير مقسمة لأحزاب ولا طبقات، فلسطين ثابتة تضم الجميع وتبحث عن حرية كل فرد فيها، لذلك أنا اتعامل اليوم مع فلسطين كإرث، إرث من الطفولة مثلما كان يراها غسان، لذلك أنصح كل الذين يغرقون فلسطين بالشعارات والأحزاب والفصائل أن يقرؤوا غسان كنفاني، ليتعلموا كيف يجب أن نحب فلسطين كأرض ثابتة نحبها ونقاتل من أجلها" 

غسان كنفاني علمني من نحن كشعب ومن أنا كإنسان 

إن جوهر فكرة يوسف بسيومي (16 سنة) حول غسان ترى ما هو أبعد من تجليات المقاومة، بل ترى حلم الوطن في رؤيتنا لأنفسنا وتأمل التجربة كلها، وقراءته لكل كتب غسان كنفاني أضاف له الهدف الذي كان يبحث عنه كلما تذكر أنه لا يعرف فلسطين مطلقاً، ولربما هذا أهم ما يقدمه غسان كنفاني للأجيال التي تقرؤه الآن، مضمون الفكرة التي يجب أن يبحثوا عنها كلما فكروا في فلسطين، وما تعنيه هذه الفكرة بالنسبة لهم وللأجيال القادمة بعدهم. 

"الرواية هي أهم شيء بالنسبة لي، لأني من خلالها أستوعب فكرة فلسطين، وغسان كنفاني كان جزءاً مهماً من هذه الفكرة، لأني وجدت في كتابات غسان ما كنت أبحث عنه؛ مضمون كلمة نحن كشعب وأنا كإنسان، وجدت الثقافة المألوفة الشخصيات التي يمكنني أن أكون واحداً منها، وأستطيع أن أفهمها وأتماها معها، أنا لم أرَ فلسطين، لكني عرفتها ومعرفتي هذه تحددت من خلال فكرة غسان عن الوطن، وهذه أهم فكرة قدمها لنا غسان، لذلك غسان لن يموت، ليس فقط لأنه كاتب جيد بل لأنه مرتبط في ذاكرتنا بالأرض، والأرض مهما حدث سوف تبقى أرضنا، هذا التداخل هو جوهر قراءتي لغسان كنفاني، فأنا لا أقرأ لكي أعرف بل لكي أتعلم ماذا يجب أن أفعل بما تعلمته، لذلك يعجبني بكتابات غسان الهدف نفسه، وأهمية الهدف بفكر غسان، هو التحرير وكيف يجب أن نفهم هذا التحرير، أعيد وأكرر أنا لا أعرف فلسطين صراحة، فلسطين هناك بعيدة لم أعش فيها، ولكن غسان حمل فلسطين من بعيدها إلينا، بعد خمسين سنة بالتأكيد تحللت جثة غسان كنفاني بالكامل ولكن بالنسبة لي غسان كنفاني حي، يعيش بيننا، انظر إلى المكتبات وجدران المخيم كلها صور وكتب غسان كنفاني، وأحلم أن أقول لغسان كنفاني أننا لم نعد مثل قبل فقدنا الكثير ولكننا كجيل نحلم بكامل فلسطين التي كنت تحلم بها، وطالما هذا الحلم حي وهناك جيل يحلم به، فذلك أهم من باقي القرارات والتقسيمات، وأننا نحاول ولو بخجل أن ندق جدران الخزان، وندرك أن فلسطين ليست استعادة للذكريات فقط بل هي صناعة للمستقبل أيضاً"

غسان هو مرآة واقعنا 

ببراءة ترى تيرا أبو عايد (14 عاماً) أن غسان كنفاني هو مرآة حزننا التي نرى فيها واقعنا الذي نرفض تصديقه، وأن هذا الواقع مستمر، فكل قراءة لغسان هي دليل حي على أن غسان لم يمت، الخمسون عاماً التي مرت على رحيل غسان كنفاني لا تعني لتيرا أي شيء، طالما ما زالت تقرأ غسان كنفاني، وكأن غسان كنفاني سيموت فعلاً فقط عندما نتوقف عن قراءته. 

"أحب غسان كنفاني ليس لأنه كاتب بل لأنه حقيقي، كان حقيقياً لدرجة صار فيها يعبر اسمه عن فلسطين، أنا الآن عندما أقول غسان كنفاني كأني أقول فلسطين، أغلبية أصدقائي في المدرسة لبنانيات، وعندما طلبوا مني بالمدرسة التحدث عن فلسطين اخترت شخصية غسان كنفاني وتحدثت عن كتبه، ليس لأني أحب غسان فقط بل لأنه أكثر من شكل واقعنا الفلسطيني، وجسد حياتنا وإيماننا بفلسطين، واليوم أنا لا تعنيني الخمسون سنة التي رحل فيها غسان كنفاني، لأني عندما أقرأ غسان الآن أرى غسان وأشعر بالأمل والإصرار الذي عند الأبطال وأصدقهم جميعهم، مع أني أشعر بحزن عندما أقرأ قصصهم، ولكن هؤلاء هم نحن، وعلينا أن نصدق واقعنا لكي نتعامل معه، مثلاً بقصة "ورقة من الرملة" أتذكر شخصية العم "أبو عثمان" حلاق "الرملة" وطبيبها الرائع الذي لا أنساه أبداً، قصة "أبو عثمان" هي قصتنا، تجد الآن قصة بطل في فلسطين والده استشهد وأخيه شهيد وهو مستمر، لذلك فلسطين التي رأيتها في أدب فلسطين ليست أرضاً محتلة فقط، بل هي ناس وقصص وحكايات مستمرة، تواجه واقعاً صعباً وتحاول تجاوزه، وأنا أحب غسان، لم أقابله ولكن أريد أن أشكره لأني جعلني أن أؤمن بأني في يوم سوف أعود إلى أرض البرتقال الحزين."

إن كل احتمالات الحياة التي كان يبحث عنها غسان تتجلى الآن على لسان طفلة في الرابعة عشرة من عمرها، تقرأ وتعيد قراءة كلماته، إن هذه القدرة على الخلق وإعادة الخلق التي تمتلكها قصص غسان، ما زالت تلهم جيلاً كاملاً، تقول عنها آني كنفاني، زوجة الكاتب الشهيد، لـ "رمّان": "غسان مقروء الآن أكثر مما كان في حياته، ومعروف أكثر مما كان في حياته، الشباب حريص على قراءة كتبه والتعلم من أفكاره وقضيته الإنسانية. إنه ينمو ويزدهر مع كل دقيقة؛ امتد إرثه إلى ما وراء الحدود ولا يمكن إيقافه. أولئك الذين اعتقدوا أنهم يستطيعون قتل غسان أو إسكاته فشلوا. سوف يعيش غسان بعدنا جميعاً" وكأنه يولد من جديد في كل عام، وما يشكل هذه الولادة هي قدرة كل جيل على فهم غسان كنفاني واستعادة حياته.