وتبعًا لهذا السياق يمكننا فهم الخلفيات الغنائيّة المتنوعة وشديدة التباين التي سُمعت خلال مشاهدة الفيلم والتي تشيرُ إلى عاديّة الإيقاع اليومي التقليدي للحياة المصريّة، الغنية بطبيعة الحال بالوجود الغنائي اليومي والروتيني في تفاصيل الحياة، سواء الأغاني المُنبعثة من المقاهي أو الراديوهات القديمة والمشوشة في سيارات الأجرة أو من شبابيك البيوت في الحارات المتوارية والمتداخلة.
لا يمكنُ النظرُ إلى فيلمِ "حمام سخن" لـ كاتبتهُ ومخرجتهُ منال خالد، بمعزلٍ عن السياقِ الديناميكي شديد التحرك المُصاحب للمناخِ المَخلوق بفضلِ الحالةِ التي وفرتها ثورة 25 يناير، وما طفى على سطحِها من حراكٍ فنيّ شديد التنوّع والثراء بذات المقدار الّذي يتّصفُ فيهِ بالتوقِ الكبير للتحرر والخروجِ من هينمةِ ماكنات النظام الإعلاميّة والفنيّة والثقافيّة التي قدمت طوال ثلاثينَ عامًا شكلًا محدودًا ومتشنجًا للحياةِ المصريّة بالعموم. وهذا يُبررُ الظهور العالي والغامر والمفاجئ لأعدادٍ كبيرةٍ من الفرقِ الغنائيّة التي نَشَطَتْ ايبانِ الثورة، واستمرَ نشاطُها يتنامى بوتيرةٍ سريعة، ثم أفلتْ بعدَ سقوطِ حكم الإخوان تدريجيًا، ولم يعد منها سوى الزهيد من المحاولات الفرديّة المستقلة التي تحاول الآن أن تنحى منحًا بعيدًا على "وصمة الثورة".
بالإضافة إلى عددٍ كبيرٍ من الكُتّابِ والمسرحين وصُنّاع الأفلام والممثلين كذلك، وفي هذا الإطار يُمكن النظر إلى فيلم "حمام سخن" كمنتجٍ تحركتْ الرغبةُ في وجودِهِ من ذلكَ المناخ وفي ضوءِ المجالِ الحيويّ المُتقد الّذي صاحبَ الفعل الثوري منذُ ثورة 25 يناير 2011 والّذي استمر ثلاث إلى أربع سنوات بعدها.
وحينَ تكونُ كاتب ومخرجة الفيلم منال خالد أحد الثوار المُشاركين في ثورة يناير منذُ بداياتِها، يتضّحُ لنا الكثير من السمات العامة المسؤولة عن خروج الفيلم بالشكل الذي شاهدناه. والّذي تغلّبُ عليه التسجيلية/ التوثيقيّة، الفيلم الّذي يتناول ثورة 25 يناير بواسطة مجموعة من القصص المُستوحاة من تجاربٍ وحكاياتٍ حقيقيّة، حدثت لأشخاصٍ مُشاركين في الثورة، كانت منال خالد واحدة منها.
ولقد بدأَ العملُ على الفيلم في 2011 ثم توقف لفترة، ثم تم استكمال التصوير في 2013 و2014 وانتهى العمل على نصف الفيلم بالفعل، ليتوقف مرّةٍ أخرى بسبب ضعف الإمكانيات. منتجة الفيلم هي المخرجة وهناك من أصدقاء فريق العمل من تطوعوا لاستكمال العمل على الفيلم. وتدور أحداث الفيلم حول 7 سيدات محاصرات على خلفية مواقف مختلفة في يناير 2011، حيث تبدأ أحداثه من فجر 26 يناير عام 2011، يدخل الشخصيات في الفيلم إلى بعض الأماكن المحاصرة والمغلقة، ويحاولون الخروج من هذا الحصار ووسط هذا يمرون بلحظات شديدة الخصوصية.
كاميرا تجوبُ الشوارع الخلفيّة لثورةِ يناير
يأخذُنا الفيلم في مناظيرٍ كاشفةٍ لمساحاتٍ غير مرئيّة من ثورة يناير، مساحات وأمكنة لم ترصدها كاميرات الفضائيات ووكالات الأنباء، ولم تقدمها نشرات الأخبار ولا عناوين الصحف والمواقع الالكترونية، والتي أظهرت لنا مشاهدة كثيرة لأعداد هائلة من المُتظاهرين في ميادين واسعة ومركزيّة، فيما بقيت مشاهد من الاحتجاز والاعتقال والقمع مُتوارية في أزقةٍ ضيقةٍ محجوبة عن كاميرا الإعلام؛ ولذا لا يظهر طوال الفيلم مشاهد ضخمة للتظاهرات التي كانت تجوب شوارع وميادين القاهرة، إلا أجزاء محدودة وقصيرة جدًا، فيما تمركزت الكاميرا في البيوت والأزقة والشوارع الضيقة وصولًا إلى الحمام الموجود بدورهِ في قلبِ الكثافة المعماريّة القديمة والازدحام السكاني الكبير، فيما تستعيض منال خالد عن هذا الغياب المَشهدي الطاغي للحشود الكبيرة، والّذي يقفزُ إلى الذاكرة سريعًا عند الحديث عن حدث ثورة يناير، بلقطاتٍ أرشيفيّة حقيقيّة وجانبيّة لأحداث الثورة، بالإضافة إلى مقاطع صوتيّة من نشراتٍ إخباريّةٍ من أرشيف الحدث، بالشكلِ الّذي يَصبِغُ الفيلم كما أشرنا سابقًا بصبغةٍ تسجيلية، وينسجمُ في الوقتِ ذاته مع واقعيّة الحدث وحقيقته المجرّدة، والّذي تنحازُ فيه بصورةٍ واضحةٍ إلى الرواية الفرديّة، إلى زاويةِ النظر الشخصيّة والفردانيّة والمستندة إلى حكاياتِ الأفراد العاديين المشاركين في حدث جمعي واسع، والمُتحركين في الأساس من قصصِهم أولًا وصولاً إلى القصة الكبيرة، التي هي مجموع هذه القصص.
وتبعًا لهذا السياق يمكننا فهم الخلفيات الغنائيّة المتنوعة وشديدة التباين التي سُمعت خلال مشاهدة الفيلم والتي تشيرُ إلى عاديّة الإيقاع اليومي التقليدي للحياة المصريّة، الغنية بطبيعة الحال بالوجود الغنائي اليومي والروتيني في تفاصيل الحياة، سواء الأغاني المُنبعثة من المقاهي أو الراديوهات القديمة والمشوشة في سيارات الأجرة أو من شبابيك البيوت في الحارات المتوارية والمتداخلة. وعلى ذات المنوال ينتظم الإيقاع الزمني لمسيرةِ الأحداث في الفيلم، حيث ينضبط وفقًا لوتيرة زمنية بطيئة وتبدو مُملّة ويَغلّبُ عليها فعل الترقب والانتظار أكثر من مشهد التحرك والمبادرة، و تستخدم المخرجة والكاتبة منال خالد لتعميقِ هذه الحالة عددًا من المُمثلين عن المألوفين بالنسبةِ للمشاهد، حيث لا يوجد في الفيلم إلا عددًا محدودًا من الأسماء المعروفة أو الممثلين المألوفين في مجال رؤية المشاهد، في محاولة لإمعان انغماس العمل أكثر في العاديّة، ويستمر الفيلم على هذه الشاكلة حتى نهايته، كل هذا يعطي مزيدًا من المصداقية والواقعية للفيلم الّذي يتناول الحدث كما عاشه ربّما مستوى شعبي كان يراقب وينتظر ويتأرجح بين التصديق والنكران لحقيقة ما يحدث.
من الذات إلى الآخر ومن الخاص إلى العام.
يخلق الفيلم شكلًا خفيفًا وضمنيًا وسلسًا لحالة الاتصال الثوري العفوي والتلقائي التي صهرت المصريين بمختلفِ مستوياتهم الفكريّة والمعيشيّة وبمختلفِ استعداداتِهم للانخراط والتجاوب مع حالة الثورة في بوتقةٍ واحدة، شكّلت فيما بعد وفي فترةٍ زمنيّةٍ محدودة، فعلًا جماعيًا اندفاعيًا موّحدًا تجاه الرغبة في التغير واسقاط النظام، حيث يحتجزُ أمن النظام ناشطتان من نشطاء الثورة بعد قَمعهن في حمامٍ نسائي قديم، كان أمنُ النظام قد جَنَّدَ صاحبتهُ؛ لجعلِهِ بمثابِةِ السجن المُؤقت لنُشطاء الثورة، وهكذا فعلت في عدد من الأماكن غير المُتوقعة كمحل صيانة وبيع أجهزة الموبايل، في المشهد الّذي تفتح فيه المخرجة الفيلم بالإضافة إلى بعض البيوت السكنية كذلك، في محاولةٍ للسيطرةِ الميدانيّة على أحداثِ الثورة، التي كانت وقتها تتنامي بصورةٍ لا تُسمح بشكلِ الاعتقال التقليدي، إلا أن اتصالًا انسانيًا وعاديًا يحدثُ بصورةٍ تلقائيّة ومرتكزة على مشتركاتٍ فرديّة تعاني جميعها من أشكالٍ مختلفةٍ من الاضطهاد والظلم، يُذيب سريعًا الأدوار الجديدة التي حاول النظام في وقتِها ترسيخها من خلال استخدام الفئات الأكثر هشاشة؛ لتكن هي الفئات الأكثر مناهضة ورفض لفعل الثورة، الفعل المصمم لإنقاذها هي أولًا من ويل الظلم والقمع والفقر الّذي تغوصُ فيه، بذاتِ الطريقة التي استخدمها النظامُ في أحداث مصطفى محمود، حينَ جَنَّدَ الخيالة؛ ليكونوا أداة قمع المتظاهرين باللعب على احتياجهم وفقرهم، وبدعوى أن الاستمرارَ في أحداث الثورة هو المسؤول عن توقفِ السياحة، وبالتالي توقف مصدر دخلهم، تتصل الناشطان الثوريات بمديرةِ الحمام والعاملتان فيه اتصالًا يتحركُ في الأساس من الرغبة في أخذ حمامًا ساخًا، الرغبة في التطهّر والاسترخاء والتي هي في جوهرها الرغبة ذاتها في التخلّص من النظام. والتوق إلى التحرر والانعتاق.
وبهذا تذوبُ مع ماءِ الحمام الساخن القصص والتجارب والهموم الفرديّة في ماءٍ واحد، يجري في مسارٍ واحدة هدفهُ الأساسي جرف ثلاثين عام من اطباقِ النظام سَطوته على حيواتهم العامة والخاصة، حيثُ ينتهي الفيلم بمشهد اجتماع النساء المُحتجزات في الحمام اثناء البدء في الاغتسال في حوار يقدمُ اليأس من حدوث التغير، وأن كل ما حدث ويحدث لن يغير شيئًا، في مقابلة اليقين أن ما يحدث الآن لا بد أن يفضي إلى حدوث تغيرٍ ما؛ لأن دخول الحمام لا يكون أبدًا مثل خروجه كما تقول العاملة في الحمام، أي أن الدخول في الثورة لا يمكن أن يُفضي إلى نفسِ الحال التي كانت قبلها. وصولًا إلى نهاية الفيلم بمشهد غناء متتابع ومن ثم مشترك، في إشارة إلى أنهم جميعًا فصول تشكل الرواية ذاتها وأنهم جوقة تغني المعزوفة نفسها.