وفي مرّة أخرى وبصوت نقيض يشي بالذات العليا وهي تجادل صورتها السفلى: "هل تشوه المجازر البشر من الداخل؟ لا أعني الضحايا فقط، بل القتلة أيضاً، كيف بوسع القاتل بعد المجزرة أن يأكل مثل البشر، ويعيش، وينام ملء عينيه؟ هل يرى وجوه الضحايا تلاحقه في المنام؟ هل يتفجع عليها؟ هل تقلقه؟
"ربّما آن الأوان كي نخرج من البرواز، (...) ربّما آن الأوان كي نخرج من صورة المعركة إلى المعركة، من صورة الوطن إلى الوطن، من رواية الرّواية إلى الرّواية، من صورة البيت ومفتاحه إلى البيت". (ص232)
بهذه الخلاصة المتّصلة بالشرط الزمنيّ الفاعل "آن الأوان"، جاءت معالجة الروائيّ أحمد أبو سليم لسؤال الذاكرة، في روايته الأخيرة المعنونة "يس" نسبة إلى قرية دير ياسين، وسورة "يس"، والبطل ياسين، انطلاقاً من نظرة مغايرة في ملامح المجزرة وتأويلاتها النفسيّة "السيكولوجيّة" ما بين الفعل الثابت ودوائر الحركة، في حيّز التداول اليوميّ للصورة المعلّقة على جدار الذاكرة.
والروابط الدلاليّة في العلاقة ما بين معطى الفضاء المكانيّ المغتصب، وتعبيرات النصّ بوصفه نصّاً مقدّساً والإشارة لسورة يس، وملمح الضحيّة البشريّ الناجي، السارد في الرواية، هي روابط تحاول تدوير مفهومي النصر والهزيمة بالمعنى الفلسفيّ، لنزع السّياق البنيوي لتمركز الحدث منتصف صورة الماضي وتجلّيات ثباتها الوظيفي، باتجاه فعل تحرير الضحيّة من صفتها التقليديّة العاجزة عن إنتاج الفعل في مرويات الناجين، وأبنائهم وأحفادهم، لا ليختبر الفعل مقولاتها، ولكن ليؤسّس قواعد جديدة للاشتباك على صعيد صراع المرويّات وخطابها المؤدلج.
من هنا نلحظ اجتهاد الروائيّ في استنهاض وعيه الرافض لفكرة تماهي الضحيّة مع مظلوميتها، دفعاً لمحاولات إعادة التموضع لكلّ العناصر المتناقضة، المُستَعمِر والمستعمَر، الجلّاد والضحيّة، الغالب والمغلوب، وذلك لأنّ "الضحيّة بوصفها ضحيّة لا يمكن لها أن تنتصر". (ص200)
ثيمة السؤال...
يستهلّ أبو سليم روايته "يس" (اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين 2021) بسرد تفاصيل المجزرة على لسان السارد الناجي ياسين، وبعين خاله المُكنّى باسمه، وقدم أمّه الخشبيّة، وعديد الشخوص الأخرى، مستفيداً من مواد وثائقيّة عدّة، منها مذكّرات المناضل بهجت أبو غربية، ومنها ما رصدته المخرجة البريطانيّة اليهوديّة "نيتع شوشاني" في فيلمها "ولد في دير ياسين" بالإشارة إلى شخصيّة مجهولة النسب تدعى "درور" ابن الصحفية البريطانية اليهودية "حنا نوسين".
بيد أنّه، وبالاتكاء على فلسفة السؤال بوصفه ثيمة للمعنى، تتقاسم لعنة السؤال مع الشخصيّة المركزيّة دور البطولة، لطرح الأفكار ومعاينتها، خاصّة حينما تتشكّل اللعنة في الأسئلة بصيغ قادرة على الانزياح لتجاوز تركيبتها اللغويّة التقليديّة، كأن نجد السارد يفتتح مرويّته بسؤال: "هل يمكن للذاكرة أن تصاب بالصدأ، وتهترئ؟"، أو أن نستمع إلى حروفه وهي تصرخ عالياً: "هل بوسع الصور أن تحتفظ بحرارة المشاعر؟ وكيف تشابهت عتمة البئر وعتمة القبر؟ وصولاً إلى وجع سؤال: أليس المفتاح صورة مشوّهة للبيت؟"
فلسفة المذبحة…
ولأن الكتابة الروائيّة ليست مجرّد سرد لأحداث متتالية، ولا تفاصيل معركة في حرب شريفة، نرى أبو سليم يستدعي سؤال المذبحة وهويّتها ليتأمّل أبعاداً تؤكّد على أنّ الأهمّ من فهم المذبحة هو فهم فلسفتها، وهو ما يشير إليه بصوت شخصيّة حنا نوسين وهي تقول: "ليست المذبحة هي المهمّة في الأمر، بل فلسفة المذبحة" ص182.
وظّف أبو سليم عناصر المقاربة الزمانيّة والمكانيّة لفلسفة المجزرة ضمن السياق السرديّ، عبر محاولة النفاذ لاستكشاف النزوع النفسيّ لشخوص المرويّة، لتدلّ السارد والمتلقي معاً، على البعد الحسّي للقرية وناسها وما وقع فيها من فاجعة مروّعة، شكلت في مضمونها العام نقطة تحوّل كبرى في تأطير معنى الهزيمة وما تلاها من نكبة لم تطل فلسطين وحدها، ولكن الأمّتين العربيّة والإسلاميّة أيضاً، لتختلط الفاجعة بالمأساة، فتنتج متن الحكاية وأزمتها.
"المجزرة حين تقوم في رأسي، تصبح بحاجة إلى ألف ألف مصوّر كي يحيط بتفاصيلها، وملايين الصّور، ليست المتحرّكة فحسب، إنّما الصور التي تعكس أعماق البشر، تصوّر ما يجري هناك، في دواخل البشر، ما يعتمل كلّ لحظة في العمق، تصوّر الدموع التي تتدفّق شلالاً في لحظة ما، في وجدان إنسان، في الداخل". (ص180-179)
أسئلة العائد…
هذه المرويّة الحافلة بفلسفة الأسئلة المشبعة بالأسى، والحزن، والقهر، والألم، والخوف، والأهمّ بوجع عينين ثاقبتين هما عينا الناجي الوحيد، تتقاطع فيها الأصوات وتتعدّد، لا ليراوغ السارد القارئ، وإنما ليستقصي نقاط التقاطع والنفور في مساحة ما وسواها، لخلق مجاز دال على مكنونات شخوصه وهيمنة التناقض وتفاعلاته، فنجده مرّة يقول: "اللعنة على دير ياسين التي لم تترك لي لو جداراً واحداً خلفي، أيّ أحد، أيّ شيء أستند إليه فيسندني. أنا ابن المجزرة، اللَّعنة التي تطاردني منذ ولادتي، ولا تتركني أعيش أبدا". (ص164)
وفي مرّة أخرى وبصوت نقيض يشي بالذات العليا وهي تجادل صورتها السفلى: "هل تشوه المجازر البشر من الداخل؟ لا أعني الضحايا فقط، بل القتلة أيضاً، كيف بوسع القاتل بعد المجزرة أن يأكل مثل البشر، ويعيش، وينام ملء عينيه؟ هل يرى وجوه الضحايا تلاحقه في المنام؟ هل يتفجع عليها؟ هل تقلقه؟ ما هو شكل القاتل من الداخل؟ كيف يكون؟ (تتساءل حنا نوسين). (ص184)
أمّا التناقض في تعبيراته الأدقّ، فلم يتحقق فقط لحظة اجترار المجزرة وحسب، ولكن فيما ترتّب عليها من وقائع وأحداث وتفاصيل، كثرت وتشابكت، "كنتُ أفهم هذا وأعيه تماماً، فنحن على كلّ حال نقيضان مهما بدا الأمر غير ذلك، والدلالة على ذلك أنّهم يحتفلون بعيد استقلالهم يوم نكبتنا... هم يفرحون، ونحن نجترُّ أحزاننا.. أيُّ تناقض قد يكون بين طرفين أعمق من ذلك التناقض؟ (ص209)
ولأن "العالم لا يُعطي أوطاناً" لم يتسمّر ياسين الناجي، بطل أبو سليم أمام حائط الصور ليبكي، ولا يجب على الضحيّة أن تفعل، ليس فقط لأنّه، كما يقول السارد: "أرى صور ضحايا على هذا الجدار، ولا أرى صور من قاوموا واستُشهدوا وهم يدافعون عن القرية كي لا يصبح الضحايا ضحايا" (ص232)، ولكن لأنّ الضحيّة عليها أن تربط وترابط ما بين الحكاية والذاكرة والوعي بالهوية والحقّ بالانتصار ومتطلباته، وربما وجب عليها أن تتعرى لتفهم، لتُبادل الأدوار فتثأر من طقوس الشيطان في حفل موتها، أن تفتح نوافذ الأوجاع لتُطهّر الجرح، أن تحدّق في المرآة فترى ملامح بطل يليق بصفة إنسان يمكنه أن يُصلّي وهو عائد إلى فلسطين.