وأنا أرى أن على الكاتب أن يحب كل شخصياته مهما كان دورها، فلا وجود، بوجهة نظري، للخير أو للشر في النص، ولا حتى في الحياة، بل هناك أبعاد درامية، وهناك شخصيات عليها القيام بما عليها القيام به لتتم هذه الحياة، وتتم هذه الرواية.
في العام 1948 صدرت رواية "آلام صديق" للكاتب الكويتي الراحل فرحان راشد الفرحان (1928 - 1975)، وهي الرواية الكويتية الأولى، حيث لم يسبقه أحد من كتّاب الكويت في إصدار رواية. ومنذ ذلك التاريخ، أي منذ 73 عامًا، يتدفق سيل الحكي والرواية في الكويت، عبر أجيال متعاقبة من الروائيين.
وعلى الرغم من أن الريادة ترجع لفرحان راشد فرحان، إلا أن الأبوة – بمعناها الأدبي – ترجع إلى المؤسس الفعلي الروائي الكبير الراحل إسماعيل فهد إسماعيل (1940 - 2018)، والذي كان في سن الثامنة فقط من عمره عند صدور رواية "آلام صديق" لفرحان راشد.
كان المجتمع المحلي محور الكثير الروايات الكويتية المبكرة، ثم أخذت الموضوعات تترى وتتشعب، حتى وصلنا إلى نقطة مركزية في السرد الكويتي، وهي الغزو العراقي للكويت (2 أغسطس 1990 – 26 فبراير 2021)، حيث صدرت -ولا زالت تصدر- الكثير من الأعمال السردية التي تحكي تلك الفترة، كمتن أو كهامش.
لكن ورغم كل هذه السنوات من الإبداع والكتابة، إلا أن الرواية الكويتية لامست نضجها في الألفية الجديدة، ومع بزوغ أسماء شابة في ذلك الوقت مثل باسمة بثينة العيسى وناصر الظفيري وميس العثمان، ومع بداية العقد الجديد من القرن الحادي والعشرين كانت أسماء جديدة تتدفق في المشهد السرد الكويتي لتحمل الراية، ربما على رأسهم الكاتب الأشهر سعود السنعوسي (1981) الذي حصدت روايته "ساق البامبو" الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر"، ومعه مجموعة من الكتّاب الشباب الرائعين ومنهم عبد الوهاب الحمّادي (1979)، عبد الله البصيص (1980)، حمود الشايجي (1981) وغيرهم...
«رمّان» تفرد المساحة التالية لنشر شهادات لثلاثة كتّاب كويتيين شباب، هم: سعود السنعوسي، عبد الوهاب الحمادي، حمود الشايجي، حيث يتحدثون عن علاقتهم بالكتابة، والرواية، ومساراتهم ودوافعهم وأحلامهم في دنيا السرد.
سعود السنعوسي: كتابة الرواية... جدوى افتعال المشكلة
سؤال الكتابة أبديّ الإجابات، وهو أكثر أسئلتي لنفسي يومًا بعد يوم، بل هو أكثر الأسئلة تواترًا في رسائل القراء وأحاديث الكتاب وأسئلة المحاورين في اللقاءات الإعلامية؛ لماذا الكتابة؟ وفي كل مرة أجيب إجابة مختلفة، غضَّة وصادقة وكافية ولا تنفي ما قبلها من إجابات منذ بدأ التدوين على ألواح الطين. غير أن السؤال لا تُخرسه كثرة الإجابات، وكل إجابة تبدو -بعد حين- غير كافية، ولا تشبع فضولك لمعرفة سبب إيمانك بالكتابة إلى هذا الحد، فتحاول أن توجد لك جدوى من ورائها، جدوى حقيقية تسوغ فعلك وأنت ترهن حياتك من أجلها، فتصاب بالذعر لمجرد التفكير بمفتاح اليأس الكامن في أصعب الأسئلة: وماذا بعد؟ وتحاول أن تجيء بسبب لا بعد بعده، فتجيب السؤال ذاته الإجابة الألف، ويمر الوقت فيبدو جوابك الألف غير مقنع لك، وأنت تمارس فعلك الكتابي وتغذي حاجة تجهل أسبابها.
حينما تلقيت دعوتك للكتابة حول الموضوع ضقت في بادئ الأمر. ولعلك شعرت. ليس مرَّة أخرى يا همَّام! واعتذرت عن المشاركة بالملف، وسحبت اعتذاري ليس بسبب دالتك علي وحسب، بل لأن لدي فوق الإجابة الألف إجابة جديدة. تجلَّت في ذروة العزلة القسرية التي فرضتها جائحة 2020. تلك العزلة تخللتها أوقات فراغ طويلة، مملة قاسية وقاتلة في البدء، صرفتني إلى إدمان متابعة الأخبار الرسمية والشعبية عبر مواقع التواصل. كان الوضع عبثياً وبائساً وغير محتمل، وأنت لا تملك شيئًا حيال كل هذا الجنون البشري الذي يظهره الإعلام ويواجهك بالإنسان في أحط صوره.
إزاء كل المشكلات التي طفحت على السطح في ذروة انتشار المرض، وأنا مضطر لمتابعتها في قفصي، وجدت خلاصي وسلامي الداخلي بالكتابة على نحو مغاير، وأكثر من أي وقت مضى. فأضاءت لي الكتابة زاوية فسيحة من زواياها. فالكتابة هي المشكلة الوحيدة التي أتحمل مسؤوليتها وأنا قادر على حلها عوضا عن الوقوف محل المتفرج العاجز أمام واقع عبثي. فأفتعل لشخوصي مشاكل على الورق وأورط نفسي بإيجاد الحلول، فأرهن وجودي في سبيل العبور بها إلى ضفة أخرى، وفي حقيقة الأمر أن شخصياتي هي التي تعبر بي إلى مكان آمن يخلصني من جحيم الفراغ والأسئلة المعلقة على حبال الغيب، تلك الشخصيات التي ابتلي كل واحدة منها بسؤال أو مشكلة تبدو عصية الحل. فأنكب على الكتابة وأعقد الأمور فتزيد مشاكلي المحببة وأنا أرتدي كل شخصية على اختلاف أنماط تفكيرها وسلوكها ومزاجها، وأمضي في الكتابة أعقد خيوط السَّرد وأحلها عقدة وراء عقدة. في تلك العزلة الإجبارية تبدت لي الكتابة حاجة ملحة على نحو لم أشعره من قبل، كفرت بأي فكرة ساذجة تستجدي إصلاح العالم، وآمنت بإصلاح نفسي عبر سبر أغوارها كتابة. أعرف منذ أمسكت بالقلم أول مرة أني أحب كتابة الرواية، نعم محبة الكتابة لذاتها ربما ليست سببًا كافيا يدفعك للتعلق بها إلى هذا الحد، إذا ما فكرت أن منتهى الفعل الكتابي مخطوط تدفع به إلى الناشر فيصير غريبًا عنك بين يدي القارئ. في تلك العزلة يا صديقي كان الفعل الكتابي لذاته هو الجدوى، أن أواصل كتابة الرواية ولا أشغل نفسي بأمر إنهائها نشرًا أو تأجيلًا أو إتلافًا. أن أشرف على مسؤوليات عالم ابتدعته بيدي وأفهمه، أو أحاول فهمه، أو أكتب فيه عدم فهمي. أن أعيش في كل الشخصيات التي لا تشبه واحدتها الأخرى، نكبر معًا، فيشغلني ما يشغلها وأتخفف من الواقع بالخيال. في تلك العزلة آمنت أكثر من أي وقت مضى أن كتابتي للرواية في أصلها حاجة ذاتية، أمر شخصي وحميم جدا على نحو غير مفهوم وغير قابل للشرح، فأرتكب الكتابة لذاتها دون اعتبارات لنشر العمل، لأن أجمل ما في الرواية هو كتابتها.
عبد الوهاب الحمادي: القلق... حبر الكتابة
القلق. القلق هو دافعي الأول للكتابة. هنالك عوامل أخرى مثل تاريخنا المحلي في الكويت، وتأثيره علينا وتأثير التاريخ من حولنا في المنطقة على حياتنا، وما يتبع ذلك من قلق يثير القلق مثل تساقط أحجار الدومينو. والهوية دافع آخر، وأزماتها وانعكاسها على النفوس. عن الأحمال التي ننوء بها منذ ولادتنا عبر أسماء وملامح وجنسيات لم نختر أي منها. أزمة لقاء الآخر وجها لوجه، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي بقدر ما قربت البشر ساهمت في انتشار البشاعة. كل تلك الأمور مدعاة للقلق، من ثم تأتي الكتابة مثل ملاذ أخير. بمجرد معرفتك أن قلما بين أصابعك له قدرة رسم شخصيات على الورق، وتحميلها كل ما تفكر به ويشطح به خيالك، ثم إدخالها في جدالات تبدأ ولا تُعرف نهاياتها، إنشاء سياق زمني لتختبر الشخصيات وتبتليها به. هذا الشعور هو المنفس الوحيد لكل القلق. القلق لن يزول ويختفي لكن الكتابة تخففه، أو تجعل الواحد منا ينساه بينما ينشغل في رصه كلمات على الورق.
أحلامي قد يراها بعضنا ضخمة ويراها آخرون بسيطة جدا حد السذاجة. كل ما أحلم به هو القدرة على إنهاء النصوص كما أحبها أن تنتهي فنياً وموضوعياً. أحلم بوصولها إلى قارئ يأخذ نفساً عميقا بعد انتهاء الكتاب بين يديه وتدب فيه الحيرة وتسري في داخله شحنة القلق. أحلم بكتابة شخصيات مشحونة بأفكار عبر لغة ترسخ في ذهنه، تكون مرآة يبصر فيها القارئ بعضا منه وبعضا من معارفه، شخصيات تقاسمه المشترك الإنساني مهما اختلفت الجذور.
لدي حاليا عمل روائي أساسي أعمل عليه، عن مرحلة ما قبل اكتشاف النفط في الكويت، أتمنى أن أنتهي منه قبل نهاية هذا العام. وثمة مشاريع أخرى أشتغل عليها منذ عدة أعوام وقطعت فيها أشواطا، أتمنى أن يأتي يوم ترى فيه النور بالشكل الذي يرضيني ويليق بوقت القارئ.
حمود الشايجي: في السحر والكتابة
(1)
قيل في السحر إنه كلّ أمر يخفى سببُه، ويُتخيّل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع.
وقيل في الكتابة إنها الخط وإنها من الصنائع الإنسانية الشريفة، وقيل إنها رسم يتشكل على شاكلة الحروف يدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، أما ما يخص شرف الكتابة: فلأنها تميز بها الإنسان عن الحيوان، كما قيل إنها تطلع على ما في الضمائر فتقضى الحاجات وما خروجُها من الإنسان من القوة إلى الفعل لا يكون إلا بالتعليم". (ابن خلدون- بتصرف).
وقلت في الكتابة إنها:
"القوة والقدرة على الفهم والتفهم".
(2)
هناك من يرى أن رؤيتي للكتابة هي رؤية صوفية، لا أنكر ذلك، بل أؤكد هذه الرؤية، وأقول إن أيّ فعل يخرج عن التصوف لا يعول عليه.
ربما يُتساءل: لماذا؟ الجواب بسيط جدًا، رغم أنه يحتاج إلى بعض الشرح، فالبعض يعتقد أن الصوفية هي ما نراه في الموالد أو الزوايا، وبعض الحضرات، والبعض يربط الصوفية بالتديّن، لكنها أشمل من ذلك كله، فهي حالة روحية، تربط الإنسان بالكون الكلي بالشكل الذي يختاره، وخلو أي أمرٍ من هذه الحالة الروحية هو أمر لا يعول عليه بالنسبة إليّ.
لذلك ما دخلت إلى الكتابة إلا من هذا الباب، وما كتبته كله إلى الآن لا يخرج عن هذه الحالة وهذه الفكرة.
فالكتابة هي التي تمكنني من فهم ذاتي والآخر، هي التي تجعلني في حالة توحد مع هذا الكون بكل ما فيها من اختلافات وتوافقات، الكتابة هي التي أتصل معك بها، لنصل إلى حالة من التوحد الذاتي، حتى لو لم نكن قد عرفنا بعضنا من قبل، وهي التي جعلتني أفهمك وأفهمني.
(3)
أحد أسرار الكتابة المهمة التي تعلّمتها، كانت على يد مولانا جلال الدين الرومي الذي كان يقول:
"كنت أسمع اسمي
ولا أرى نفسي
كنت منشغلًا بنفسي
لكني أبدًا لم أكن مستحقًا لها
وحين كان وخرجت من نفسي
وجدت نـفسـي".
هذه إحدى المعادلات السحرية التي يعتمدها الكاتب لاكتشاف ذاته، وبعد ذلك العالم من حوله، فهو يخرج من ذاته ليعيش في ذوات أخرى هي شخصياته، وهذا ما يغنيه، مما يجعله يرى أنه لولا تنوع الشخصيات ما اكتمل نصه، وبإيمانه بهذا التنوع في الشخصيات، وأنّ لكل منها وجهة نظر عليه أن يدافع عنها وهو يكتبها واضعًا لها المبررات، مما يعطيه القدرة على أن يفهم أن لكل إنسان مبررًا لما يفعله في هذه الحياة، لاعتقاده بأنه يملك الحقيقة، لذلك تتسع رؤية الكاتب الذي يرى أن الحقيقة في نصه والحياة لا تكتمل إلا بتنوع شخوصها وحقائقها ووجهات نظرها.
ومن هذا المنطلق نجد أن أجمل الكتّاب هم أولئك الذين لا يحاكمون شخوصهم ويحكمون عليهم، بل يعرضونهم كما هم بكل حيادية.
وأنا أرى أن على الكاتب أن يحب كل شخصياته مهما كان دورها، فلا وجود، بوجهة نظري، للخير أو للشر في النص، ولا حتى في الحياة، بل هناك أبعاد درامية، وهناك شخصيات عليها القيام بما عليها القيام به لتتم هذه الحياة، وتتم هذه الرواية.