أو لدى سماع تصريحات باهتة ومراوغة للمخرجة السعوديّة هيفاء المنصوري تتجنّب فيها انتقاد إسرائيل بشكل واضح، بعد إعلان مهرجان "أفلام النساء" الإسرائيلي في القدس المحتلّة في نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم عن فيلم المنصوري "المرشّحة المثاليّة" كشريط افتتاح عروض المهرجان.
"أعطني اسمي في البيت الكبير وأعد إلى الذاكرة اسمي يوم أن تحصى السنين".
صدىً بعيد يأتي من طيبة البعيدة، يفصله عن يومنا هذا ثلاثة آلاف سنة. لعلّكم تبيّنتم أنّه فصلٌ من كتاب الموتى، وترديد هذه البرديّة، يعيد للميّت قدرته على أن يتذكّر اسمه. أيّ روحٍ بلا اسم تهيمُ في عناءٍ دائم، فضياع الاسم يساوي ضياع الشخصيّة.
هذا النص الوارد في افتتاحيّة فيلم “المومياء” (1968) للراحل الفذّ شادي عبد السلام، قد يكون أبلغ ما يصف تراجيديّة وعبثيّة عرض هذا الشريط الأيقوني الباحث بعمق وجماليّات استثنائيّة عربيًا، عن صدام الهويّة وعلاقة الأفراد بالتاريخ السحيق، ضمن برنامج عنوانه "سينما من الشرق الإوسط" يطرحه السينماتيك الإسرائيلي هذا الأسبوع في القدس المحتلّة بالتعاون مع معهد فالنير للأبحاث، وأتى بعد برنامج عروض آخر تحت مسمّى "سينما من تركيّا".
يضمّ البرنامج عروضًا لستّة أفلام مخرجوها عرب من بينها "المومياء"، مرفقة بمحاضرات من باحثين أكاديميّين إسرائيليّين قبل عرض كلّ فيلم. الأفلام المشاركة الأخرى هي : "صوفيا" للمغربيّة مريم بن مبارك، "القضيّة ٢٣" للبناني زياد دويري، "الحديث عن الأشجار" للسودانيّ صهيب الباري، "لا زلت أختبئ كي أدخّن" للجزائريّة ريهانا، "آراب بلوز" للتونسيّة منال العبيدي، بالإضافة إلي فيلم سابع وهو و"في سوريّا" للبلجيكي فيليب فان ليو وبطولة الممثّلة الفلسطينيّة هيام عبّاس.
وفقا للتعريف الذي جاء لبرنامج العروض فإن: "سينما من الشرق الأوسط يقدّم إلى المنصّة أفضل الإنتاجات السينمائيّة في الشرق الأوسط، إيمانًا بأنّ إحضار هذا الإنتاج إلى لبّ النقاش الجماهيري في إسرائيل، سيكشف ولو قليلا، للجماهير المختلفة في إسرائيل، عن المجتمعات والثقافات في الشرق الأوسط وما يشغلها" ويضيف هذا الوصف: "إسرائيل تسكن في قلب الشرق الأوسط، ومع ذلك ترى نفسها ويراها الآخرون خارج هذه المنطقة. السياسة والتاريخ والفن والمجتمع في إسرائيل عادة ما تُفحص بسياقات غربيّة بعيدة عن السياقات الشرق أوسطيّة..[...].. يركّز هذا البرنامج على حياة الناس ومن وجهة نظر إنسانيّة ومن داخل الطيف الثقافي-سينمائي. نريد أن نُحضر إلى الجماهير المختلفة في إسرائيل، الوجه الإنساني لأبناء وبنات المجتمعات المختلفة على اختلاف لغاتهم وتركيباتهم وأطيافهم، لنشكّل بهذه الطريقة وزنًا مضادًّا لنهج الاستبعاد ولاأنسنة العالم العربي والشرق الأوسط وفصله من العالم الغربي وإسرائيل."
هذا النفَس الاستشراقي المقيت يتعامل مع المنطقة العربيّة بمسمّاها الاستعماري الفضفاض المريح، الشرق الأوسط، ومن منطلق حسن الجيرة والتعرّف على الآخر، بدلًا من وصف إسرائيل على أنّها دولة احتلال ونظام فصل عنصريّ لا "يسكن" في هذا الحيّز وإنّما يحتلّه ويمارس فيه كل أشكال العنف. أكثر ما يزعجنا نحن الفلسطينيين، وسأسمح لنفسي أن أقول تحديداً فلسطينيي الداخل ونحن نحتكّ بهذه النماذج في المؤسسات التعليمية والأكاديميّة، ذلك الفهم المشوّه لعلاقة الإسرائيليين بالدول العربيّة، ورغبتهم برؤية العرب بطريقة إنسانيّة من على مقاعد سينمائيّة مريحة، بدلًا من زعزعة النظام السياسي العنصريّ وتأجيج الحراكات المضادّة راديكاليّا لاحتقار العرب واحتلال الفلسطينيين.
لم ينفكّ عن مرافقة هذا الخطاب الاستشراقي المهين، انبهار إيكزوتيّ من السينما العربيّة، أصوله متجذّرة في ظاهرة هجينة وصدقًا عجيبة بنت جسورًا من النوستالجيا، وربطت الإسرائيليّين بالسينما المصرية بعد حرب حزيران/نكسة ١٩٦٧، إذ هُرّبت أفلام مصريّة عن طريق الضفّة الغربيّة والقدس المحتلّة كانت قد وصلت من الدول العربيّة، وعرضت منذ بداية السبعينات (مرفقة بترجمة عبريّة) كلّ يوم جمعة قبل نشرة أخبار السابعة مساءً باللغة العربيّة على التلفزيون الإسرائيلي، ونالت شعبيّة مكتسحة حتّى منتصف التسعينات قبل دخول الفضائيات والعولمة التلفزيّة. أحَبّوا العرب على الشاشة واحتلّوهم في نفس الوقت!
لكن الأكثر إزعاجًا هو ما يقوم به المخرجون والمخرجات العرب لدى موافقتهم على عرض أفلامهم في مهرجانات إسرائيليّة، ومباهاة البعض بذلك، مثلًا لدى عرض فيلم زياد دويري "الهجوم" في دورة سابقة من دورات مهرجان القدس الدولي الإسرائيلي عبّر للإسرائيليين في المهرجان من خلال محادثة سكايب مصوّرة عن مدى سعادته بالتصوير في تل أبيب! أو لدى سماع تصريحات باهتة ومراوغة للمخرجة السعوديّة هيفاء المنصوري تتجنّب فيها انتقاد إسرائيل بشكل واضح، بعد إعلان مهرجان "أفلام النساء" الإسرائيلي في القدس المحتلّة في نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم عن فيلم المنصوري "المرشّحة المثاليّة" كشريط افتتاح عروض المهرجان.
كلّ هذه المكاسب المعنويّة لدولة احتلال كإسرائيل تترجم على الأرض بالقهر والدماء، وفعلًا من الصعب تفهّم أن تكون سينيفليّاً ومقدّراً لجماليّات السرد والأساليب البصريّة، وغير قادر على رؤية المساندة المعنويّة لدولة احتلال كشكل من أشكال القبح الإنساني. وكي نكون موضوعيّين ومنصفين، في أحيان كثيرة تقع المسؤوليّة وقرار مشاركة الأفلام في المهرجانات على شركات توزيع الأفلام، التي تكون عادة أجنبيّة، دون أن يملك المخرج/ة قرار اختيار أماكن العرض، لكن أضعف الإيمان استنكار هذه العروض كما فعل المخرج السوداني صهيب قسم الباري لدى إصداره بيانًا يوضّح فيه أنّ برمجة الفيلم قد تمّت دون إخطاره أو طلب أي موافقة لعرضه. ويجدر بصنّاع الأفلام العرب المشاركة أفلامهم في هذه السلسة من العروض أن يحتجّوا على اعتبار عرض هذه الأفلام في القدس المحتلّة أمرًا طبيعيّا، تحديدًا في أكثر الأوقات حلكةً في فلسطين، ينهش فيها القاصي والداني وتُعرض كما لو كانت سلعة في مزاد علني من قبل رجال بيض لم يقرأوا أكثر من خمسة وعشرين كتابا عن "المنطقة" ومن قبل حكومات عربيّة لاهثة لتقديم خدماتها مقابل استقرارها السياسيّ.
إنّ التصدّي للتطبيع الثقافي قد يكون الحصن الأخير للمثقّفين والمثقّفات العرب، لإيقاف ما أفسده رجال السياسة ورجال الأعمال ومن يتعاملون مع الهويّة بمنطق السوق الحرّ، قبل أن نتحوّل إلى مومياءات دون اسم، وإلى أرواح تهيم في عناء دائم، تقرأُ عليها فصول من برديّة كتاب الموتى.