دولة فلسطين العلمانية هي من ستقوم على أنقاض دولة الأبارتهايد والتمييز العنصري لدولة إسرائيل الحالية بما هي دولة دينية لليهود حيثُ تتقدم اليهودية بدورها كشريعة للدولة الإسرائيلية عاملةً على تجنيد "القدسي" لفرض قوانينها وتصوراتها لسياسات الدولة تجاه الشعب الفلسطيني.
درج البعض من دعاة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين على وصفِ الاقتراح العلماني المرافق لهذه الدولة بخطاب أيديولوجي غير سياسي مما يجعلُ منه في نظرهم بمثابة ترف فكري لا يليق بالعمل السياسي. في مقالتنا هذه، سوف نكشف الطابع السياسي العميق لهذا الاقتراح العلماني وذلك عبر العودة الى نقاشات عميقة في حقول علم الاجتماع الحقوقي والأنثروبولوجيا الحقوقية إذ أن قضية علمانية الدولة الحديثة هي قضية حقوقية وسياسية بامتياز.
عودتنا الى وضع قضية علمانية الدولة في مجالها الطبيعي، أي مجال الحقوق والقوانين هو الدليل الأكبر على جوهرها السياسي بما تُمثِله القضايا الحقوقية والقانونية من تكثيف جوهري للممارسة السياسية في الحقل الاجتماعي. وهذه العودة وإن اضطرت لاستحضار بعض المقولات "الوضعية" غير المُريحة في هذا الزمن النقدي للحداثة في نماذجها الغربية الكولونيالية، سوف تكون عودة نقدية تأخذ جانب الحذر من الطابع الشمولي للمعيارية القانونية الوضعية إذ لا يمكن مواجهة الطابع الشمولي للطروحات الدينية بعلاقتها ببناء الدولة ووظائفها بأطروحات حداثية تُعاني بدورها من هذه السوسة الشمولية ذاتها.
في فلسطين الغد وبعد دحر الصهيونية كدولة وكأيديولوجية لن يكون هناك من مكان للدولة الدينية بل لدولة ديموقراطية وعلمانية، دولة القانون هذه سوف تفصل ما بين السياسة والدين في اعتمادها على مبدأ المواطنة وحيادية الدولة بخصوص المعتقدات الدينية والفلسفية للمواطن الفرد وللتكتلات الاجتماعية الخصوصية. هذه الدولة سوف تكون الحامي والمدافع الأساسي عن جميع الحريات الفردية والجماعية بما فيها حرية المعتقدات الدينية.
دولة المواطنة: دولة القانون
تتفق الدراسات القانونية بمعظمها على تعريفِ الحقوق بوصفها مجموعة القواعد والقوانين والمؤسسات صاحبة الحق الشرعي بإنزال العقوبات بحق المخالفين لها وذلك باسم المصلحة العامة والأمن الاجتماعي. ممارسة هذا العنف الشرعي "العام" يهدف الى حماية الفرد والجماعة من عنفٍ "خاص" قد يتعرضا له وذلك ضمن التزام هذا العنف الشرعي بمجموعة من الاشتراطات الصارمة والتي تُنَظِمُ أشكال توظيفه.
ولقد شكلت هذه المقولة الحقوقية في ممارسة العنف الشرعي كالوسيلة المُثلى لحماية الحقوق الفردية والجماعية حجر الأساس في معظم المدارس الحقوقية في الغرب وتحديداً تلك المدارس "الوضعية" Positivist الجاهدة في ربطها لقضية الحقوق بـِ"الحداثة" وبِـ"العقلانية" وبالحضور المميز لأجهزة "الدولة" كأداة ضرورية لإنجاز الضبط والتحكم الاجتماعي.
في هذا الصدد، امتازت المدارس القانونية والحقوقية الوضعية بتركيزها هذا على دور الدولة ومؤسساتها القضائية والبوليسية، تركيزاً لم تشهده المدارس الحقوقية السابقة لها كمدارس ونظريات "الحق الطبيعي" لدى روسو، ولووك، وهوبس، وديدرو، والتي اعتبرت أن مصدر القانون هو"الطبيعة الإنسانية" للإنسان دون ارتباط بوضعيته الاجتماعية أو معتقداته أو جنسيته وبغض النظر عن مؤسسات الحكم والدولة التي يعيشُ في ظِلها.
وهكذا، كانت المدارس القانونية الوضعية هي مدارس الدولة الديمقراطية الحديثة العاملة على بناء حالة من التماثل ما بين المواطن والدولة في إطارِ اعتبارِ أنَ القانون ومؤسساته هو ما يُشكِلُ لحمة التضامن الاجتماعي فلا "مواطنة" بدون "دولة القانون" الصالح لكلِ زمانٍ ومكان في العالم المعاصر. هذا القانون ودولته ومواطنه هو "الحالة المثالية" والتي يجبُ أن تُطَبَق في كلِ أرجاء المعمورة وذلك لِـ"تفوقها" الأخلاقي والحضاري ولِـ"فعالية" نموذجها في تحقيق الاستقرار والأمن المجتمعي. "الطابع الشمولي" Universal للقانون الوضعي استُخدِمَ لتبرير حركات الاستعمار في الماضي وأداةً للتدخلات العسكرية في الحاضر وليس التدخل الأميركي المدمر في العراق لـِ"بث الديمقراطية" ولِـ"حماية حقوق الأقليات " و"حقوق المرأة" و"المساواة الجندرية" إلا مثالها الساطع (الدمقرطة الأميركية عبر الغزو العسكري المُدَمِر لم تمنح حقوقاً ولم تتمتع بتفوق أخلاقي في ممارستها للتعذيب في "أبو غريب" ولم تُقدم نموذجاً للأمن والاستقرار المجتمعي بل تفجيراً للحروب الأهلية وللحركات الجهادية المعادية للنساء و للحداثة).
في هذه الثقافة الحقوقية الوضعية، يلعبُ الكيان الفردي لـِ"الشخص" دورين مزدوجين إذ هو بمثابة "الموضوع" Subject الفاعِل، القابلِ بوعيٍ وبِإرادة بالقانون لِتحقيقه الأمن والحرية لكيانه والموضوعَ المُنفَعِل بالقانون عِبرَ رضوخه لأحكامه ولقيوده ولاشتراطاته. كانَ كانط سباقاً لـِ أوغست كونت أب الوضعية الفلسفية في التأكيدِ على ذلك التطابق ما بين الفرد الحر والمرؤوس (لا تعارض ما بين الحرية والخضوع) والنظام السياسي الحاكِم، ما بين المواطن المأمور والنظام الآمِر وذلكَ لِكونِ العلاقة ما بينهما هي علاقةٌ مُطلقة. فهمُ "الإطلاق" هنا يرتبط بالفهم الوضعي الكانتي القائل بأنَ "كلَ ما لا قيمة له هو ما يمتلكُ قيمة نسبية أما ما قيمة له فهو الصالح في كل الظروف وتحت كل الشروط والأوضاع والحالات دون أيُ استثناءات وخصوصيات". وهكذا، فإنَ الفرد الاجتماعي هو فردٌ كوني وشمولي وقانونه الاجتماعي لا يؤخذُ بعين الاعتبار شروطه الخاصة وثقافته المُمَيَزة. خضوعه للقانون هو خضوع إرادي وواعي لأحكامه بما تمَثِله من "أخلاقٍ سامية" متناغمة مع "الإرادة الطيبة" المكنونة في النفس الإنساني.
مركزية الدولة في هذا الطرح القانوني "الوضعي" ربطَ وبشكلٍ مطلق قضية الحقوق والقانون ببناء الدولة الحديثة، إلا أنَ مدارس الوضعية ـ الجديدة neopositivism قامت بنقد أُسُسِ الطرح الوضعي عموماً وذلكَ منذ بدايات القرن العشرين وتحديداً (وليس حصراً) على يدِ عددٍ من كبار المنظرين كـَ كارل بوبر وتوماس كون وبوول فيرابند.
هذا النقد الجذري "الوضعي الجديد" للنظرية "الوضعية" الكلاسيكية ترافق مع نقدٌ فلسفيٍ وقانوني آخر قَدَمَتهُ المدارس "الوظيفية" (أو الوظائفية) ممن أنكر أهمية الدولة كمصدرٍ وحيد للتشريع وكأداةٍ شرعية لِممارسة العنف بإسم بسطِ القانون والنظام.
الأنثروبولوجيا الحقوقية: رفض الوضعية الحقوقية المرتبطة بالدولة الحديثة
المدارس "الوظيفية" أو"الوظائفية" في علم الإجتماع الحقوقي وفي الأنثروبولوجيا الحقوقية انتقدت مبدأ "الدولة" كمصدرٍ وحيد للتشريع إذ إن المجتمعات الإنسانية وبغض النظر عن درجات تبلورِ وتَشَكُلِ نويات السلطة السياسية فيها، قامت بابتكار منظومات من القوانين الكفيلة بِلَعِبِ دورِ الوظيفة الحيوية للضبط الإجتماعي وفرض الأمن والنظام العام. هذه القوانين "العرفية" ليست من إنتاجِ مؤسسات "الدولة" وإنما هي إنتاجٌ جماعي لثقافة قانونية متوارثة عبر الأجيال. رموز هذه المدارس كـَ مالينوفسكي ولوهمان، أكدوا على مبدأ "الحقوق" كـَ "ثقافة" خصوصية مُؤسِسَة للضبط الاجتماعي ومُنَظِمة للمعاملات الاجتماعية ،السياسية والإقتصادية للحياة الاجتماعية وللعيش المشترك.
إن هذه النظرة الفلسفية والأنثروبولوجية للحقوق تقف على التضاد من حاملي ألوية الفلسفات الوضعية الحقوقية إذ أن إعادة الإعتبار للقوانين العرفية بمواجهة قوانين الدولة الحديثة الوضعية أفقدَتْ مقولة "تفوق" ورُفعة" القوانين الوضعية، أي القوانين الغربية، من شرعيتها وادعاءاتها الإيديولوجية.
هنا، هل "الشريعة" الإسلامية تدخلُ في خانة "الثقافة الحقوقية الخصوصية" بالفهم الأنثروبولوجي مما يفترِضُ الدفاع عنها بمواجهة الحقوق الوضعية، غربية المرجع والمكان وذات النزعة للهيمنة الشمولية، أم أنها في مجرد نسخة أخرى لِخطابٍ قانونيٍ معياري وشمولي في خدمة مؤسسات "الدولة" الإسلامية؟
"القانون العرفي" يعكس قانوناً صاغته الثقافة الشعبية عبر القرون خارج علاقات السلطة وتدخل الدولة في الشؤون القانونية فيما أن الشريعة الإسلامية ومنذ إرهاصاتها الأولى كانت على ارتباطٍ وثيق بمؤسسة "الدولة" مما يجعلُ منها نسخة أخرى من نُسخِ النُظم القانونية الشمولية مُلتقيةً في ذلك مع النُظم القانونية الوضعية، عدوتها اللدود وخصمها المُعلَن على رؤوس الأشهاد.
الدولة العلمانية بمواجهة الدولة الدينية
ارتباط الشريعة بالسياسة سوف يكن حجر الأساس في استبعادها من مكونات الدولة الحديثة، فدولة القانون والمواطنة لن يكون لها دين رسمي (سلطة رام الله الأوسلوية تعلن أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام والشريعة مصدرها للتشريع).
دولة فلسطين العلمانية هي من ستقوم على أنقاض دولة الأبارتهايد والتمييز العنصري لدولة إسرائيل الحالية بما هي دولة دينية لليهود حيثُ تتقدم اليهودية بدورها كشريعة للدولة الإسرائيلية عاملةً على تجنيد "القدسي" لفرض قوانينها وتصوراتها لسياسات الدولة تجاه الشعب الفلسطيني.
وهكذا ولدرء هذه المخاطر التي تمثلها الديانات من إسلامية ويهودية، لن تكون هناك دولة ديموقراطية حقة دون أن تكون دولة علمانية تفصل ما بين "الدين" و"الدنيا" والسياسة والدولة.