لا أجد تصور بورخيس مقنعاً ولا منطقياً: الكتب تُكتب كي نحيا بها، كي تساعدنا في السنوات القليلة التي سنمر بها في هذا الجريان المستمر السرمدي لنهر الزمن. لا أستطيع تخيل معنى لها بعد الموت، مهما كان شكل هذا الموت: أن نفنى في العدم، أو نخلد في فردوس أو جحيم، أو نذوب في الكون الواسع -كالسكر في الشاي- على ما تقول لنا المذاهب الحلولية.
الموضوعية، مثل المشاعر الجياشة، لا تصلح لكل زمان ومكان. بل إن الموضوعية -على العكس من المشاعر الجياشة- قد تؤذي أصحابها جدياً عندما يأخذون بها في الأمور الذاتية جداً. على سبيل المثال، لا يستطيع المرء أن يكون موضوعياً في اختيار أصدقائه، وطريقة شرب القهوة ونوع مشروبه المفضّل، والمداعبات والمغازلات والملاطفات الجسدية والكلامية التي تدوّخه وتفلفله وتقلقله، والمغنية التي تطربه، والطعام الذي يُلهمه، والحلويات التي تجعله بديناً ومليئاً بتأنيب الضمير عندما يستسلم أمامها كأرنب في مصيدة، ورعب كوابيس العودة إلى طفولة قاسية تجد نفسك فيها بلا حول ولا قوة، والحيرة الميتافيزيقية العجيبة المزلزلة التي تصيب المؤمنين واللا-أدريين والملحدين على حد سواء لثوانٍ معدودة في دور العبادة، والذكريات التي تُنسى والتي لا تُنسى، وغليان الروح أول الخريف، وقبلة لا تنسى حتى بعد أن يموت الحب، والتمسك بالعائلة بالرغم من كل ما حدث: كل هذه الأمور، بالضرورة، غير موضوعية: ليست بحاجة لتبرير، أو شرح، أو حتى محاولة الفهم.
الموضوعية تشكل أس العلاقة مع الكتب، وهي معطى واضح، لا حاجة للتطرق إليه. ولكن، هناك جوانب غير موضوعية في هذه العلاقة، يتجاهلها الناس باستمرار: من أهمها عادة تكديس الكتب وتجميعها في الشقق السكنية.
الكتب التي تتراكم في المكتبة هي كتبنا التي قرأنا أو التي نريد قراءتها: تتجلى في هذه الكتب اهتماماتنا الشخصية، في فترات مختلفة: تتدرج من «المغامرون الخمسة» إلى دواوين الشعراء العباسيين مروراً بالواقعية السحرية وانتهاءً بوجودية سارتر وكامو. هذه ألف باء معظم القراء العرب في شبابهم: تراث مختلط بلا طعم ولا معالم ولا هدف. بالطبع، يُضاف إليها تنويعات فردية، تتباين بشدة. يغيب عن المكتبة كل ما لم نهتم به جدياً، لأسباب غير مقنعة عادةً؛ أو كرهناه، لأسباب نفسية أو عاطفية غامضة. المكتبة، إذن، بالضرورة، "كولاج" شخصي لتاريخ فردي، لشخصية تتطور باستمرار، أو تتراجع، أو لا تتغير؛ "كولاج" غير موضوعي، كما هي حيوات القراء نفسها.
ليست المكتبة وحدها غير موضوعية، بل ما نحبه فيها كذلك. بالطبع، كما نعلم جميعاً، يتظاهر البعض بموضوعية مجردة، فارغة تماماً، عندما يُسألون عن الكتب التي يحبون، لتكون الإجابة مسطحة، كالأرض في العهد القديم: "لا أستطيع أن أختار كتاباً واحداً. الكتب متنوعة، كزهور مختلفة في الحديقة، لكل منها لون خاص وأريج متفرّد (ما زال البعض، والله العظيم، حتى اليوم، يشبّه الزهور بالكتب!). أنا كائن عميق، ولا أختار كتاباً واحداً، أو بضعة كتب..."
تكشف هذه الموضوعية الزائفة مرضاً في قلوب المؤمنين بالموضوعية. الإنسان الطبيعي يحب بعض الكتب كما يحب بعض الناس: بدون قيود أو شروط. أحياناً، يقرأ المرء كتاباً فيعشقه، ويبقى يتغزّل فيه أياماً، ويستحضره صباح مساء: لا يتسامح مع من ينتقده، بل يرد النقد بأسلوب طفولي متخلّف، متهماً النقاد بأنهم لم يفهموا محتوى الكتاب ولا أسلوبه: إن يدّعي أحدهم أنه لم يحب يوماً كتاباً، يعني بالضبط أنه لم يقع في الحب، وسخف الحب، وبربرية الحب، وفتنته، ولاموضوعيته الكاملة.
على سبيل المثال، من الكتب التي أحب، وأتهم من لا يحبها بأنهم لا يفكون الحرف ولا يميزون بين أحلام مستغانمي وجيمس جويس: «اللزوميات» بتكرارها المُضجر، وتلاعبها غير الناجح معظم الأحيان بمعاني الكلمات، وتخبطها بين آراء متناقضة، كل هذه العيوب الموضوعية تماماً لا تلطّخ الإنجاز الأبهى في الشعر العربي؛ وأعمال القاص الياباني أكوتوجاوا، وأفضّل الواقعية فيها على الفانتازية؛ ومسرحية «تماثيل الوحوش الزجاجية» لتنيسي ويليامز. لا أعتقد أن هذه أفضل الأعمال الشعرية والقصصية والمسرحية، ولكنها قد تكون الأقرب إلى قلبي.
على المرء أن يحب الكتب، كما يحب الناس: أن يستسلم لما يلامس شغاف القلب، تاركاً الموضوعية للمقام المناسب لها.
يتمسك البعض بموضوعيتهم، ليكرّس تقديس الكتب: تتراكم طبقات طبقات، ليعلوها غبار فوق تراب. تتضخم المكتبة إلى أن تتحول إلى عبء: عبء الموضوعية على كاهل الإنسان البريء البسيط. يقرأ المرء كتاباً واحداً، عندما ينفرد بنفسه. بقية الكتب تقبع في المكتبة، منسية تماماً، كالأقارب من الدرجة الثالثة والرابعة، لا يتذكرهم المرء إلا في الأعراس والمآتم. بل، أحياناً، ينسى المرء أنه يملك الكتاب العلاني، فيشتريه مرة أخرى أو يستعيره. مع التقدم في العمر، تمتلئ المكتبة كلياً، فيضحّي المرء ببعض الكتب ليضعها في صناديق في العلية، وتحت السرير، وفوق الخزانة، وهكذا: كتب لن ترى النور مرة أخرى، بالطبع. ولمعظم الكتّاب، الذين لا يجدون ما يفاخرون به في فقرهم وعوزهم ومشاكلهم النفسية الكثيرة، تتحول المكتبة إلى مصدر فخر وحيد، لا يؤثر إلا في شباب وصبايا في مقتبل العمر. في النهاية، يتعلق المرء بمكتبته كذكريات صداقة من سنوات الضياع والأمل على مقاعد المدرسة والجامعة: تتغير أنت ويتغير الأصدقاء، ولكنكم تتمسكون بمجرد ذكرى واهية لما كان حقاً أمتن علاقة ممكنة في حياتنا البشرية القصيرة.
المكتبة الافتراضية تماثل الأصل الملموس العياني: تمتلئ حواسبنا بآلاف الكتب، ننقلها إلى "الهارد" الخارجي، وننساها هناك. لا نعرف أين وضعنا هذا الشيء الأسود الصغير، ولا نعرف ما يحويه من كتب لن نقرأها.
نعرف جميعاً كل ما سبق، ولكننا لا نجرؤ على التفكير في التخلص من الكتب. بل يقول بعض المنفيين أنهم يشتاقون مكتباتهم الشخصية التي بقيت في الوطن وحيدة، كأن الورق الميت يصلح مادة للشوق!
ليف تولستوي جرّب التخلص من مكتبته، وفشل. تحول الكونت الروسي إلى قديس في شيخوخته: أعاد تأويل الأناجيل، ودعا إلى العصيان المدني السلمي، ورفض الحروب والخدمة العسكرية، وهاجم ما أسماه "الفنون البرجوازية"، أي معظم أنواع الفن السائدة في عصره، بما فيها أعماله السابقة: جمع حوله آلاف الأتباع، في روسيا وخارجها، يكرزون بخليط ساحر من الفوضوية والمسيحية والتنوير والتمرد والتصوف. اصطدم مع الماركسيين، الذين أربكهم الشيخ بانتقاداته الحادة لنبيهم، وبصدقه الذي أحبوه بعمق. أثر في غاندي وغوركي وتشيخوف والأستاذ الإمام محمد عبده وفتجنشتين، وغيرهم. عندما أُسر الأخير في الحرب العالمية الأولى، كان يحتفظ بكتابين فقط: «الإنجيل باختصار» لتولستوي ومسودة «الرسالة المنطقية الفلسفية»، التي كان يعمل على إنجازها.
على أن تولستوي لم يتخل عن أطيانه وأمواله: بل حتى أدبه في تلك الفترة، لم يكن شعبياً صرفاً: الفنان في داخله لم يلتزم بالمتطلبات الحادة للزهد الذي آمن به من كل قلبه: في أعماله السياسية والنقدية والأدبية، احتفظ بحدة ذهن يُحسد عليها، وبوضوح استثنائي، وبعمق لم يلتفت إليه محبو أعماله الشهيرة. أحد الأشياء التي قال إنه يصعب العيش بدونها، هي مكتبته هائلة الحجم: المكتبة التي عمّرها الكونت الغني على مدى سبعين سنة. مات الكونت، بعد أن تخلى عن جزء صغير من أملاكه، واحتفظ بمكتبته الشخصية.
تناقض تولستوي هذا يقبع في عمق نوعي الفكر اللذين يمثلهما العجوز الثائر: الزهد والاشتراكية. يجمع هذين المذهبين، المتناقصين في معظم الأمور، رغبة بتبسيط الحياة، وقناعة صادقة بلا-أهمية الممتلكات المادية وبالشر الذي تجلبه. نعرف جميعاً ذلك الشر، ولكن يكاد يمتنع علينا أن نحيا بدون ممتلكات مادية، ومنها هذا الكائن الخرافي المرعب المتناقض الأهطل المسمى المكتبة الشخصية.
تصوّر بورخيس الفردوس كمكتبة: مذهل هذا التشبيه النبوي: جذاب، وصارم، وطفولي، وماحل: بورخيس نفسه، في كل ما كتبه تقريباً، يعيش في كتبه، خارج الحياة. كورتاثار تمنى أن يكتب مثل بورخيس: بدون أي ظل لشخص الكاتب، كما قال كورتاثار. لا أتفق مع القاص الضخم: هناك الكثير من بورخيس، من شخص بورخيس، في قصصه وأشعاره، على الرغم من طغيان اللاشخصي. يتجلى هذا الطغيان في التصور الفاحش للفردوس كمكتبة.
لا أجد تصور بورخيس مقنعاً ولا منطقياً: الكتب تُكتب كي نحيا بها، كي تساعدنا في السنوات القليلة التي سنمر بها في هذا الجريان المستمر السرمدي لنهر الزمن. لا أستطيع تخيل معنى لها بعد الموت، مهما كان شكل هذا الموت: أن نفنى في العدم، أو نخلد في فردوس أو جحيم، أو نذوب في الكون الواسع -كالسكر في الشاي- على ما تقول لنا المذاهب الحلولية.
لا أريد للفردوس أن يكون مكتبة، سواء كانت شخصية أم عامة؛ ولا أريده أن يخلو من الكتب، أيضاً. أتمنى فردوساً تجد فيه الكتب معنى ما: تطرح أسئلة، وتجيب على بعضها، تلاعب مشاعرنا، وتطمئننا إلى أنّ غيرنا فكر بما نفكر به وشعر بما نشعر به: وأتمنى أن أكون أشجع وأصدق هناك، فأتخلى عن مكتبتي الشخصية، لأعيش موتي الشخصي المُشتهى زاهداً خفيفاً بريئاً، متحرراً من وطأة الموضوعية والجشع!