المقابلة: إيليا سليمان (٢/٢)

2019-10-02 13:00:00

المقابلة: إيليا سليمان (٢/٢)
هذه الصورة وباقي صور المقابلة خاصة بالمجلة ومن تصوير ياسمين حاج.

أنا أتساءل أحياناً "ما الذي يستطيع الفيلم فعله؟" الأكيد أن فكرة صناعة الفيلم تأتي من نوع من الأمل، لكن كما كنت مرّة في نقاش مع جون برجر، وكلانا يشعر باليأس قليلاً، وإن كان هو أكثر تفاؤلاً منّي، بمليون مرة، سألته "كيف مانزال ننظر إلى  الدنيا؟ أنا أصنع أفلاماً وأنت تكتب، إلى أين نحن ذاهبون في النهاية؟ لمَ نفعل ذلك والوضع بما هو عليه؟" قال "لدينا أمل. نحن ننظر إلى العالم بأمل، لكنّنا ننظر إليه بعين جريحة".

هذا الجزء الثاني من المقابلة... وهنا الجزء الأول.
 

هنالك إذن عملية الخلق، هي في كتابة الملاحظات والسيناريو والتصوير...

ليس الملاحظات. هذه أكتبها أثناء الجلوس في مقهى، أو هنا في البيت أحلم وأقول "قد يكون ذلك مثيراً للاهتمام" أو ترى في الخارج شيئاً ما وتقول "آه هذا مضحك". وتبدأ بكتابة الملاحظات. بعدها أرتّب هذه الملاحظات، هنالك أقسام: باريس مثلاً، أضع الملاحظات حول المدينة، بتاريخ ومكان محددين، كأنّها دفتر يوميات. بعدها تتخيل إن كان هنالك احتمال ليتحقق ذلك أو ليتم مسخه إلى بعدٍ فنّي أو سينمائي، فتبدأ في الحلم بها. ويمكن أن تجد ملاحظتين متقاربتين فتقول "آه هذه تشبه تلك، أو بين هذه الملاحظات صلة ما، بالتالي، سنرى إن أمكن وضعها في الصورة ذاتها". ثمّ تبدأ بتركيب الصور. تركّب إلى أن يصير هنالك ثقل ما في المشهد، كي لا يبقى على مستوى النوادر أو القصص المتفرقة. لا بد أن تشعر بأن هذا المشهد صار لوحة بحد ذاته، صار فيه أجسام كمقدّمة وخلفية وجانبية.

عندي دائماً الطموح بأن أحدهم حين يشاهد أفلامي ويشاهدها مرة أخرى، أن يكون كما يذهب إلى متحف لمشاهدة لوحة ما، يزوره عدة مرات ليعود إلى اللوحة ويرى أشياء جديدة لم يكن منتبهاً لها، وأشياء جديدة تخص علاقته باللوحة في تلك اللحظة، لأنّ الزمن قد مرّ على المشاهدة السابقة للوحة. عندما تشاهد فيلماً مرة أخرى تكون كمُشاهد قد تغيّرت، بالتالي سيرورة التماهي تكون قد تغيرت كذلك، فتصير هنالك رؤية جديدة للصورة، ليست من جانب المخرج بل المُشاهد كذلك.

تصنع الفيلم ليكون هنالك شراكة في الإنتاج، لا تظنّ أنّك كمخرج من صنع الفيلم وانتهى الأمر، فالمشاهد هو الذي يقرأ، هو الذي يتخيل، هو الذي يحلم. أنت ستعطيه مساحة معينة، بعدها ستتطوّر المساحة إلى مستوى آخر. لا أؤمن بأن المخرج هو من يصنع الفيلم.

هنالك الكثير من الأسئلة التي مرّت إجاباتها أثناء حديثك... لكن عندي سؤال قصير ومباشر. العنوان غريب بعض الشيء، It Must be Heaven، بالإنكليزية، و"إن شئت كما في السماء" بالعربية.

دعنا لا نتكلم عن "إن شئت كما في السماء" لأنّ عنوان وضعته فقط كي لا يكتب أحدهم...

لا بد أنّها الجنّة.

نعم.

طّيب، العنوان الإنكليزي، من أين أتى؟

لا أعرف في الحقيقة.

لها معنيان، كلمة Must قد نفهمها هنا كإلزام وكذلك كافتراض.

أعتقد أنّ المقصود هنا أنها، "إت مَست بي هيفن" غير الموجودة، أحكي عن الجنّة غير الموجودة. لأن الفيلم يحكي عن الوهم الذي يحصل عند أحدنا عندما. مثلاً، يصل إلى باريس ويرى ما يراه، النساء مثلاً كما في الفيلم، ويقول "واو، هي الجنّة". يستيقظ في اليوم التالي ليرى الشرطة في كل مكان، تلاحق العرب والهنود وغيرهم. هنالك خيبة أمل.

طيّب، ما الجنّة التي في الناصرة؟

(يضحك) جهنّم. في البداية لا جنّة هناك. لكنّ الشخصية الرئيسية ترى نهاية البلد، وترى أنّ إمكانيات أن يبقى في البلد صارت ضئيلة جداً، وأنها لم تعد تُحتمل. طبعاً هذا ضمن الهزل والنكتة، لكن ضمن الوضع السياسي كذلك. لا يجد الجنة في النهاية، بل احتماليات للجنة، تحديداً في المشهد الأخير من الفيلم، ترى شباباً وفتيات يرقصون بسعادة، يمنحون الأمل، لكن لا يكون ذلك الجنّة أبداً، لأنّ الشخصية (إيليا سليمان) لا تجد الجنة، بل تجد نفسها بعيدة عن هذا المجتمع وجوهره. هنالك فجوة غير معرّفة بينه وهم، لأن الشخصية تنظر إليهم دون قدرة على مشاركتهم. تنظر إلى جيل لم يعد جيلها، لكنها ترى مقاومة، نوعاً من المقاومة لما يعانيه المكان، لكن لا جنّة هنا.

عنوان الفيلم هو نوع من السخرية في الحقيقة، هو الوهم بأن هنالك جنة، الفكرة واضحة تحديداً في الجزء الخاص بباريس من الفيلم، كون الفكرة أكثر وضوحاً فيها. ثم الحماس يخف لكن الأمل يبقى موجوداً عندها، العنوان هو مجاز (ميتافور) عن وضع اللا جنّة الذي نعيش فيه.

الذي هو كما قلتَ عنه مرّة إنّه "فلسْطَنَة العالم".

نعم

هل الوضع متأزّم إلى هذه الدرجة في العالم، أو "كافكاوي"، لنقُل؟ كأن تدخل إلى حالة لا مخرج منها، والمدخل قد اختفى، كأنّ العالم كلّه علقَ كما هي فلسطين عالقة.

نعم، هي هذه فكرة الفيلم، هي عن عولمة العنف والاحتلال، هي ما يمكن تسميته بـ "حالة الاستثناء". أنّ أحدنا أين يمكن له أن يذهب؟ إن هرب من هذا المكان ليبحث عن بديل، لا يجد سوى المكان ذاته، لأن الأمكنة كلها صارت تتشابه. صار هنالك حالة استثناء، وشرطة وحدود وحواجز...

تقصد حضور السّلاح؟ الجيش الإسرائيلي في فلسطين، الشرطة في فرنسا، تسلّح المدنيين في أميركا.

نعم، والجو العام كذلك. هنالك دائماً طائرات هليكوبتر، سيارات شرطة... هنالك توتّرات الآن في كل مكان. يحكي الفيلم عن هذه بالأساس. عن عولمة فلسطين، أو احتلال فلسطين، فنحن لا نحكي عن مسألة اجتماعية، بل عن وضع التوتر. بين قوسين أقول، أثناء كتابة السيناريو، كنت أقول "سيحصل ما هو مخيف في هذه البلد (فرنسا)"، لأني صرت أشعر في مرحلة ما بأن الأمور ليست على طبيعتها، قبل الأحداث الأخيرة (عسكرة البلد). وعندها حصلَت قلت "هذه هي". أحياناً  يكون لأحدنا غريزة حيوانية.

في مصر مثلاً. قبل ثورة يناير ٢٠١١، كنت هناك من أجل ماستر كلاس، وحضر أناس كثر. أتت المسؤولة عن المهرجان وقالت إن هنالك من يطلبون منّي ماستر كلاس، قلت لها "كان من الأفضل الإعلان عنه منذ وقت فأنا باق ليومين في مصر". قالت "ما تقلقش يا خواجة، احنا عندنا حاجة اسمها انترنت". قلت "أوكي اعملوها". وكنت أظن أن الحضور سيكون ضئيلاً. لكن في النهاية أُجبروا على وضع شاشة في الخارج بسبب امتلاء القاعة. وأتذكّر أنّي قلت بعدها أنّ ما رأيته هناك كان باروداً مستعداً للانفجار، من حماسة الشباب الجالسين بعيون مفتوحة والراغبين بشدة في المعرفة، شعرت وقلت "إن شيئاً ما سيحصل في هذه البلد". وقلت كذلك إنّه من المحبط أن يكون أحدنا في القاهرة. كان هنالك شعور عام بالتوتر، مع حالة "أمر واقع" لكنه شعور مهيب وفي الوقت نفسه فارغ. وعَدت نفسي في تلك اللحظات بأن لا أعود إليها. قلت "لا أريد أن أكون في وضعية كهذه بتوتّر من هذا النوع". بعدها بأشهر قليلة بدأ الربيع العربي.

أحياناً تشعر بالأمور، وعندما كتبت السيناريو للفيلم كان في ذهني أن ما أكتبه هو إنذار للعنف المحتمل الذي يمكن أن يحصل كذلك هنا في باريس. أتذكر تماماً حين حصلت الأحداث في فرنسا وقلت "خلص، لا داعي للسيناريو"، واكتأبت. قلت "الآن أريد كتابة شيء آخر لأن ما أردت كتابته حصل"، وقد صار ذلك معي من قبل، وكدتُ أتخلى عن فكرة «يد إلهية»، لأني كنت أكتبه مع علامة إنذار أن شيئاً ما سينفجر، فاندلعت الانتفاضة الثانية أثناء التصوير. وقلت للمنتج وقتها إنّي لست أكيداً من أني سأنجز هذا الفيلم. سأل لماذا؟ قلت "ما أردت أن أحكيه في الفيلم، يحصل تماماً في الشوارع. لمَ قد يعيد أحدنا القصص ذاتها!" ضحك وقال "فلننته من الفيلم". قلت "أوكي". وانتهينا.

من الفيلم ومن عنوانه، نشعر بالنظرة التشاؤمية. لكن هنالك لقطات نقيضة، آخر مشهد مثلاً من الجزء الأول الخاص بالناصرة، الجنود في سيارة لا يرون سيارتك، فتاة في الخلف معصوبة العينين -تشبه عهد التميمي- تنظر إليك. هذا مشهد يعطي تفاؤلاً في النهاية. إلى أي درجة يمكن القول إن الفيلم، في النهاية، "تشاؤليّ"؟ قد لا نستطيع القول إنه تفاؤلي ولا تشاؤمي.

بلى، الفيلم متفائل جداً. لكن -أكثر- من المشهد الذي يليه، البدوية التي تروح وتجيء، وينتهي الجزء بهذا المشهد. الآن سأحدثك عن هذا الموضوع تحديداً. مشهد "عهد التميمي". كان أكثر مشهد فيه إسرائيليون، إضافة لمشهدين أو ثلاثة غيره فيها إسرائيليون، لكن من القدر الذي كنت فيه مستاءً من حتى وجودهم في أفلامي السابقة، ما يعطيهم شرعية حضور، صار عندي قرار خلال التحضير بأن أقلّص من وجودهم في الفيلم، من منطلق سياسي تماماً، فإسرائيل صارت دولة فاشية بامتياز، لا نقاش بعد في ذلك، صار هنالك إطار أسود لنظام عسكري فاشي بأساليب عصرية. قلت لنفسي "لمَ إذن أتعاطى معه!" كان القرار أخيراً أني ألغيت مشهداً ضخماً جداً، وجميلاً جداً، كي ألخّص كل ما هو إسرائيلي في مشهد "عهد التميمي" فقط. بعدها حذفت من السيناريو المقاطع الأخرى وقلت إنّ هذا هو الوضع، إسرائيل توجد في فيلمي ضمن هذا الحيّز، وهذا تعريفُ إسرائيل: جنود وخلفهم معتقلة، ووقتها أتتني فكرة لمَ لا يكون مشهداً تكريمياً لعهد التميمي. لخّص هذا المشهد لي الوضع في البلد.

لم يكن فيه تفاؤلاً بل تلخيصاً لما هي إسرائيل، ودرت ظهري لإسرائيل. كما قال صحافي إسرائيلي لي مرة "هذه المرّة، فعلاً، وحّشتَ بنا، هذه المرّة أنت تجاهلتنا تماماً". قلت له "ليس هنالك نقاش بعد في من تكونون، إن كان لديك طاقة لتذهب وتغيّر الوضع، اذهب، الله معك. لكن بالنسبة لي، انتم انتهيتم. صرتم فقط ماكينة للقمع والاحتلال ولم يعد هنالك أي هامش للأمل". لكنّي وضعت أملي، أخيراً، في هذا الفيلم في البدوية التي ماتزال موجودة، تمشي وقد باعت جرّة اللبن ومعها غيرها لتبيعها، هي استمرارية لفلسطين، بالمجاز طبعاً.

بعدها، حين مررنا ببارات حيفا، في أحدها رأيت الناس يرقصون ومتحمّسون فرِحت ورأيت مشهداً يشبه المشهد الأخير الذي كنت كتبته، قلت لنفسي "هذه ستكون نهاية الفيلم". وكنّا لحظتها نصوّر الفيلم في الناصرة، فذهبت إلى الإنتاج وقلت لهم هنالك مشهد إضافي سوف أصوّره، وطبعاً دخلوا في حالة رعب كجهة إنتاج. وأنجزنا المشهد في آخر يوم تصوير.

غيّرت إذن في المشهد الأخير؟

زدتُ هذا المشهد فقط، ففيه وضوح أكثر عمّا أحكيه بخصوص الأمل. في مرحلة معيّنة، أنا اكتشفت الأمل، لأني حين بدأت التحضير للفيلم، ذهبت إلى المحل الذي أعرفه، الناصرة، وهو الغيتو ذاته والذي تسوء حالته مع الزمن. لم أكن أعرف أنّ الشباب يتحرّكون بنوع من الاستمرارية دون أن يكونوا متحزّبين أو تابعين، هذا فوران جديد. كنت أظن أن الفيلم سينتهي بنغمة حزينة فيها أمل لكن فيها ميلانكوليا. لكن حين اكتشفت هؤلاء الشباب، اكتشفت، أنا كذلك وليس فقط للفيلم، أن الشباب المتجمعين مع بعضهم، راغبون في التعبير عن أنفسهم ثقافياً، ومن خلال الاحتفال أو مهما يريدون، ولديهم هم مكان للأمل. كان ذلك تجلّي واكتشاف بالنسبة لي، أحببت ما رأيته. سعدتُ كثيراً لأرى شباباً يجدون طريقتهم الخاصة في مقاومة الاحتلال العسكري أو السيكولوجي أو غيره.

كان عندي ماستر كلاس بعد الانتهاء من الفيلم، لأن بعض الشباب المشاركين في المشهد الأول (في الكنيسة) أتوا على شرط أن أقدّم ماستر كلاس في حيفا. وقتها كنت قد ذهبت مرّات إلى البارات ذاتها في حيفا، لكني قلت شيئاً، وهو ما أضعه اليوم كعلامة تحذير، أن هذه الحياة، لا يجب أن تصير كما هي في مدن وبلدان أخرى كسراييفو أو بيروت، هذه الأمكنة الصغيرة التي تجد مجالاً للتنفّس والحماس، نتيجة لأوضاع سياسية أو قمع، لا يجب أن يصير هنالك نوع من المؤسساتية في هذا النوع من التعبير عن المقاومة، وأنّ الأمور لا بد أن تمشي إلى الأمام. في الماستر كلاس قلت ذلك "آه، أحب ما يحصل، وهو عظيم، لكن أتمنى أن لا يتحول ذلك لشيء يحوم حول نفسه"، أنّنا نضح قرطاً على الأذن ونذهب إلى البارات... يصير ذلك نوعاً من الركود. هنالك قلق حيال ذلك.

قد يكون هنالك شكل مقابل له في فيلمك، هو الصمت، المراقبة، وقد قلتَ في مقابلة مرّة إن الصمت هنا هو نوع من أنواع المقاومة. لأنّ أصحاب السلطات يريدون ضجّة وليس صمتاً تأملياً.

طبعًا

كيف يكون ذلك؟

الصمت هنا يتعلّق بالسرد السينمائي وليس خارج السينما. الصمت كمقاومة في الأعمال الفنية وليس خارج العمل الفني. السؤال الذي سُئلته كان "لمَ الصمت؟" أقول لأن الصمت بحد ذاته أقوى من الكلام، لأن هنالك شيء لامركزي في الصمت، وهو ما تخاف منه المؤسسة والسلطات. يريدونك أن تقول ما تريده كي يستطيعوا الإجابة، أو ما تفكّر به، ذلك أفضل لهم من أن تعطيهم شعراً، الحكّام يكرهون الشعراء، خصوصاً حين يكونون غير مباشرين في شعرهم، لأنّ الأنسب لهم أن يمسكوا المركزية، وقتها يستطيعون سجن الناس، ويختلف الأمر حين تؤلف لحناً أو أغنية وفيها انبعاث لأمل ما، وبالنسبة للحاكم سيكون الأمل هو بإسقاطه عن الحكم. الصمت تابع للشعر، تابع لمنح الصورة لمراكز مبعثرة. كأن أحدنا ينظر إلى الكون، لا كمن ينظر إلى مركز. هذا أولاً بخصوص الصمت.

أما ثانياً، وهو في اللاوعي وليس من الضروري قراءته في الفيلم، الصمت يقرّبنا دائماً إلى حقيقة أننا زائلون، هذه كذلك مهدّدة للسلطة، لأنّه مطلوب من سوق الاستهلاك أن تبقى هنالك ضجّة ما، وتتوقّع الفيلم الذي يليه دائماً، وتتناول البوبكورن، كي تكون مستهلِكاً. أما إن بدأت بالتفكير في الزمن، وفي كيف يمر، وتشعر بتساؤل وجودي، وقتها كذلك تدخل في نوع من المقاومة، لأنّك تسأل "لماذا أنا؟ لماذا أنا هنا؟ كيف يمكنني تغيير حياتي؟ أو أحسّنها؟ أو أغيّر حياة الآخر؟ كيف يكون هنالك استمرارية أو تواصل؟" ثم تبدأ في التفكير في ما هو مُسيّس. كيف مثلاً ستبدأ في حياة أفضل؟ كيف تتناول طعاماً نظيفاً؟ فتبدأ حربك ضد الكيماويات. تفكّر كيف تحسن في الوضع البيئي الاجتماعي السياسي. بالتالي فإن فيلماً يطرح أسئلة كهذه، هو، بالشعر وبالفن، مناهض ومقاوم. بينما، في فيلم بضجّة أو حبكة سريعة، لا تشعر فيه بالزمن، تدخل إليه كأنك تدخل جبّالة صور ترميك في النهاية منتشياً من الأكشن الذي شاهدته، وتعود مرة أخرى لتشاهد فيلماً يختلف قليلاً، الشخصيات تختلف قليلاً، لكن في النهاية يكون بتركيبة مشابهة، كي تسعد مرّة أخرى السعادة ذاتها، كي يمر الوقت كذلك، لتكون أنت في النهاية استهلاكياً مرة أخرى. طبعا الفن هو ضد الاستهلاك. هنالك مواقع شائبة منه كونه منغمساً في السوق الاستهلاكية. لكن ما أقوله في الأفلام هو في مرّات كثيرة مناهضاً للاستهلاك.

هذا يرجعني إلى جاك تاتي الذي اختار الصمت لنقد الرأسمالية والاستهلاك كذلك. هنالك إحالات إلى جاك تاتي وبستر كيتن في الحديث عن أفلامك، الاثنان صامتان. إلى أي درجة ترى أن أفلامك فعلاً تشبه أفلامهما؟

انظر، أكيد مليون في المئة. أشعر بالإطراء حين يقول لي أحدهم أن فيلمي يذكّره بتاتي أو كيتن، والجميل أن المسألة لم تأت بأن كان هؤلاء مرجعيات لي، مرجعياتي كانت ياسوجيرو أوزو وهاو هيساو-هيسان. لم أكن حتى أعرف تاتي وكيتن. أنا أساساً لست مثقفاً سينمائياً. لم أبدأ بمشاهدة أفلام صامتة بل اكتشفتها متأخراً. اكتشفت كيتن متأخراً جداً، كنت أعرف تشارلي تشابلن لكن أكيد لا علاقة له بأفلامي، هو أكثر دراما اجتماعية. باستر كيتن شاعر أكيد، وهو ليس راقصاً وبهلوانياً مهماً فقط، هو كذلك شاعر عظيم، وكذلك تاتي. أستطيع أن أقول لك إن ما يشبّهني بكيتن هي -أكثر- الشخصية التي أمثّلها، وطريقة التمثيل، بملامح دون تعبير.

بالنسبة لتاتي، اللوحات هي نفسها، محتوى الصورة هو ما يتشابه أكثر، إلى درجة أنّي ذهبت مرة في ٢٠٠٢ لمشاهدة فيلمه Playtime. حصلت معي نهفة في الشارع فأخرجت دفتري وكتبت ملاحظة، شاهدنا الفيلم ووجدت الصّورة نفسها فيه. هنالك طبعاً تشابه في قصص كهذه.

حين تشاهد أفلامي، تلاحظ أنها بدأت من سكون تام، ملامح ثابتة تماماً، دون تعابير بالمرة. لكن حين ترى التطور، تجد أنّي في الفيلم الأخير غيّرت كلياً، قد لا يكون ذلك ملاحَظاً لكنه بالنسبة لي هو نقلة كبيرة. صارت الشخصية الممسوحة في الفيلم تعطي تعابير أكثر. تحديداً، عندما صوّرت المشهد الأخير، الحفلة والرقص، قلت "هنا لا أستطيع أن أكون بملامح ثابتة أو أن لا أتأثّر". هنا لا بد من منح كل المشاعر التي هي حقيقة موجودة لدي، منها الحزن، الميلانكوليا، منها السعادة لما أراه، منها أني لا أستطيع أن أدخل وأشاركهم، ومليون شعور آخر. قلت "لا بد لهؤلاء أن يكونوا التعبير لما أشعر به. لا أستطيع أن أكون مجرد مرشد لما أراه أمامي"، لأن التفاعل بيني وبين هذه الصورة مهم جداً، بالتالي، في أكثر من لحظة، أغيّر في تعابير وجهي كي أدخل أكثر إلى ما أشعر به، وإن لم يظهر ذلك بصوت عالٍ. لم أعد المراقب السلبي، صرتُ جزءاً من الصورة.

وأنت تقول ذلك، أكثر ما يتذكّره مشاهد الفيلم قد يكون أنّك تحكي للمرّة الأولى في أفلامك، وقلت كلمتين: أنا فلسطيني، من الناصرة.

ليستا كلمتين، هي كلمات مشفّرة. ليست كلمات عادية. كان لها سبب، كان لوجودها سبب فكأني لم أحكِ في الواقع. بالنسبة لي ليس هذا الكلام كلاماً، هو -أكثر- القليل من المتفجرات. فيها، وهي القليلة، ما يحكي عن مسألة كبيرة جداً. لا أعطي معلومات فيها. فكان من الضروري أن أقول "الناصرة" و"فلسطيني" للأسباب السياسية الواضحة جداً.

لا أعرف أين كنت أقرأ مراجعة سيئة للفيلم، تحكي عن ذلك، عن عدم اكتراثي ولا اعترافي بالدولة، كانت في جريدة كبيرة نسيتها. هذا ليس عدم اعتراف، هو عدم اكتراث. هنالك شيء غير معلوماتي، هو مجاز مشفّر.

في الجزء نفسه، في نيويورك. يقول أحدهم إن علاقتك صارت في الأمكنة المتعددة وليست المكان الواحد (فلسطين) ويسألك إن كنتَ "الغريب التام". هل كانت إجابة "أنا فلسطيني من الناصرة" على هذا الرجل وليس شوفير التاكسي الذي سألك من أين أتيت؟

لا، الجواب عليه كان المشهدُ الأخير، أنّي في النهاية لستُ "الغريب التام". انتمائي فلسطينياً هو كذلك انتماء فيه تماهي مع كل شعوب العالم التي تعاني من المعاناة ذاتها، عدتُ وقمت بـ "المغادرة مجدداً" مرة أخرى في هذا الفيلم. لم أكن واعياً لهذه المسألة. بدأت أعيها عندما كنت في الناصرة أصوّر الفيلم، شعرت بشيء غريب فيّ، شيء كنت أدحضه تماماً. فقد كنت أظن بأنّي أممي من حيث الانتماء، وكل مكان هو وطن لي. اتّبعتُ مفهوماً يجعلني أصل للآخر دون أي مركزية جيوسياسية. القومية ملغيّة بالنسبة لي. اكتشفت أني قد ألغيت كل ما هو قومي، لكني اكتشفت أمراً آخر، هو انتماء قوي جداً، دون التباس بينه وبين القومية، هو لهذا الشعب. اكتشفتها في هذا الفيلم.

انتهى هذا الفيلم بالطريقة التي انتهى فيها لأني اكتشفت أثناء صنعه ما هي علاقتي مع هذا المكان، قويَت العلاقة. أتتني فترة طويلة كنت أشعر فيها بأن علاقتي ترحاليّة نوعاً ما، بأني غريب تام، مواطن العالم، وفي النهاية، لا. إني أعيش نوعاً من المنفى. لا بد أن أعايش هذا المنفى. لأنّه من الأكيد أن لا عودة، ليس الموضوع أن يكون أحدنا هناك، الموضوع هو كم أنا مرتبط، وبشكل حاد، عاطفياً، بالفلسطينيين. هذه اكتشفتها، وكانت كإعادة تركيب للعلاقة، لكنها علاقة صارت أقوى. كانت قوية لكنها أساساً وصارت قوية جداً. أو كانت قوية لكنها خفّت أولاً، والآن صارت أقوى بكثير. اكتشفتها أثناء التحضير للفيلم، أخبرك بما هو خارج الصورة الآن، بدأت بالشعور به في الناصرة، قد يكون لأسباب منها الغضب، منها الألم، التعاضد، التعاطف، أنا متأكد بأننا نستطيع الآن تجميع الكثير من الكلمات من القاموس لوصف ذلك. في النهاية هو إحساس بدأ يقوى عندي أثناء التحضير للفيلم، عن علاقتي بهذا المكان، والتي قويت، وتلخصت في هذا المشهد الأخير. أما المشهد الذي في نيويورك، حيث سئلت عن "الغريب التام"، فهو النقيض للمشهد الأخير.

في مشهد نيويورك الكثير من الرطانة الفكرية، عندما كتبت المشهد، قد سرقت ملاحظات المشهد من هنا وهناك، ودمجتها مع بعضها -كما فعلت مرّة مع خالتي في فيلم «سجل اختفاء»- ليكون مفهوماً بشكل ما، وفيه نوع من السخرية على ما يُقال في المشهد نفسه، لكن في ذلك أيضاً شيء من تجربتي، ففي الكثير من الماستر كلاس التي قمت بها، كانت هنالك مقاربات أسطورية على من أنا، على مستوى الوجود الترحالي والغريب التام.

في الأكاديميات ومراكز السينما مثلاً، يحبون الحديث عن أني مواطن العالم، وذلك صحيح لكني أحببت أن ألعب عليها لأن ذلك صار مؤسساتياً بحد ذاته، كأنّه يتوجّب الحديث عنها في كل مرة يقدّمني أحدهم، أنّي أعيش في كل مكان وفي لامكان. نستطيع اللعب كثيراً على مفردات كهذه. تكون الفكرة عميقة، ثم تتسطح عندما تبدأ بالإعادة، تكرار المفهوم ذاته، يصبح هناك إطناب، ويصبح لزاماً عليك العمل على إعادة بناء للمفهوم الذي قلته مسبقاً. فالطريقة التي قال بها الرّجل ذلك، الطريقة التي أخرجتُه بها ليحكيها، كان شيئاً ما عن الإطناب، لأنّه في النهاية هنالك ما هو أعمق للحديث عنه. لكن أجمل ما في هذا المشهد هو الفتاة التي كانت ترتدي رأس حيوان والتي ملّت ولفّت رأسها ولم تستطع تحمّل الحديث وغادرت. أعتقد أنّي أمضيت ساعة أوجّه هذه الفتاة لتمثّل الدور كما أريده. كلما مثّلَت أقول لها "لا، أريدك أن تملّي عن جد". في هذا المشهد كانت هي أكثر من اشتغلت عليه، أردتها أن تقول بملامح وجهها "حل عنّي أنت وحكيَك".

السؤال الأخير، سيُعرض الفيلم لأوّل مرة في فلسطين في ٢ أكتوبر، وفي ٤ الشهر في الناصرة. ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"، هل تتوقع شيئاً من الجمهور الفلسطيني؟

لا. عندي فضول أن أرى كيف ستكون ردّة فعلهم.

هل سيفهمون جيداً مثلاً الجزأين الخاصين بباريس ونيويورك؟

أنا كذلك عندي السؤال ذاته، ولستُ أكيداً. أعتقد أنه قد يتواجد نوعان من المشاهدين، من قد لا يفهم بعض الإحالات والشيفرات الثقافية الخاصة خارج فلسطين، لكن قد يحب ما يشاهده على مستوى سينمائي بحت. طرحت على نفسي هذا السؤال، إن كانوا ينتظرون مني دائماً أن أعود حاملاً قضية فلسطين بجغرافية فلسطين، قد يكون هنالك تجاوب سلبي، فهنا ليس كما كان الحال في «الزمن الباقي» مثلاً، حضرت النكبة من أوّل الفيلم، فيقولون "أوكي، هذا نحن". لكن هنا، لا. هنا أوسّع المساحة الخاصة بفلسطين، بالتالي قد لا يكون لديهم الشعور ذاته، فلا يتفاعلون بالحدّة ذاتها، لأننا، كالجميع، نحب أن يعكس الأمر واقعنا، بشكل شخصي، وقد نحتاج جهداً أكبر كي نخرج من أنفسنا، ونرى أشياء أخرى بعيدة عنا ولنا علاقة بها. أتأمّل أن من سيأتي للفيلم سيكون عارفاً مسبقاً بطبيعته، كي لا يدخل في تساؤل "أين نحن في الفيلم؟ نحن هنا فقط؟ ولمَ هو غير مباشر سياسياً؟ وإسرائيل في مشهد واحد فقط؟" وهذا عكس ما كنت قد قلتُه بأنّي لخّصت حضور إسرائيل بذلك المشهد (عهد التميمي)، فقد يشكّل ذلك خيبة أمل للناس بأن "فقط هذا عن إسرائيل؟"

طبعاً سيكون هنالك تجاوب، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن الأمور هناك، لدى الحضور الفلسطيني، كذلك يمكن أن تتغير، وقد يكونون هناك كذلك على إدراك ودراية، وهذا لا أعرفه. هنالك الكثير من هذا الجيل الذي سيشاهد الفيلم عاشوا هذه التجربة خارج فلسطين، فمن الصعب توقع رد الفعل. أعتقد بأنه ستكون هنالك عدة طبقات لاستقبال الفيلم، لكن أعتقد أن العرض في مدينة الناصرة هو الذي سيحمل أسئلة أكثر من هذا النوع. ستكون هنالك خلطة بين هذا الرأي وذاك، والجيل الجديد، لأنه ثقافياً صارت لديه رغبة في التجوال في العالم الفني، فحتى لو لم تكن لديهم معرفة بالشيفرات الثقافية، فقد يكون لديهم عطش لما في الفيلم، وهؤلاء كثر.

سؤال ما بعد الأخير، هل من أمل في أن يغيّر الفيلمُ شيئاً؟

أنا أتساءل أحياناً "ما الذي يستطيع الفيلم فعله؟" الأكيد أن فكرة صناعة الفيلم تأتي من نوع من الأمل، لكن كما كنت مرّة في نقاش مع جون برجر، وكلانا يشعر باليأس قليلاً، وإن كان هو أكثر تفاؤلاً منّي، بمليون مرة، سألته "كيف مانزال ننظر إلى الدنيا؟ أنا أصنع أفلاماً وأنت تكتب، إلى أين نحن ذاهبون في النهاية؟ لمَ نفعل ذلك والوضع ما هو عليه؟" قال "لدينا أمل. نحن ننظر إلى العالم بأمل، لكنّنا ننظر إليه بعين جريحة".


يُعرض «إن شئت كما في السماء» ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية" في رام الله (٢ أكتوبر) وفي الناصرة (٤ أكتوبر).